الصورة الشهيرة التي كانت تمثل اللاعبين في المشهد السوري وهم يخوضون حرب الجميع ضد الجميع لم تعد اليوم بنفس ذلك التعقيد. إذ تسارعت الأحداث لتجتذب اللاعبين المختلفين إلى أحد قطبين الأول بقيادة روسيا وإيران والنظام والثاني بقيادة السعودية وتركيا وقوات المعارضة. وإن كان القطب الأول يشارك بصورة مباشرة في النزاع على الأرض محققا تقدما كاسحا خلال الأسابيع الأخيرة فإن القطب الثاني يبدو أنه على وشك أن يلقي بثقله هو الآخر وبصورة مباشرة في حلبة الصراع السوري. ففي خلال اليومين الماضيين تتابعت الأخبار حول الحشود التركية التي تتجمع على خط الحدود مع سوريا ، ثم خرج العميد أحمد عسيري مستشار وزير الدفاع السعودي ليعلن صراحة أن السعودية على استعداد لإرسال قوات برية إلى سوريا لمحاربة الإرهاب الأمر الذي أكدته الـ CNN بالخبر الذي أوردته حول تدريب السعودية عشرات الآلاف من قواتها لتدخل بري وشيك في سوريا ضمن قوة مشتركة بغرض القضاء على تنظيم داعش.


المأزق الأسوأ



اليوم تجد السعودية وتركيا نفسيهما في أسوأ وضع منذ قيام الثورة السورية، فقوات المعارضة المسلحة تعاني من تراجع حاد بجبهات درعا والغوطة وحلب – الحيوية للسعودية وتركيا – في مواجهة تحالف (النظام – روسيا – إيران) ، تراجع يهدد لأول مرة منذ تحول الثورة السلمية إلى نزاع مسلح بتصفية المعارضة تماما ليتبقى فقط داعش والنظام على الأرض ، الأمر الذي تجلى في الصلف والموقف المتراجع الذي واجه به كيري ودي ميستورا ممثلي المعارضة السورية في الهيئة العليا للتفاوض مما أدى بالنهاية إلى وأد مفاوضات جنيف 3 قبل أن تلتقط حتى أنفاسها الأولى.

يضاف إلى ذلك أن ممر حلب – الذي ما انفكت تركيا عن التأكيد على أنه (خط أحمر لا تنازل عنه) بالنسبة لها – يجري اختراقه مرتين ؛ أولا بواسطة قوات النظام التي استطاعت في الأسبوع الأخير إحكام حلقة الحصار حول حلب وفصل المدينة عن ريفها الشمالي المتصل بتركيا من خلال شريط جرابلس-إعزاز ، ثم هو على وشك أن يخترق مرة أخرى – وبصورة أخطر – بعبور قوات وحدات حماية الشعب الكردية إلى غرب الفرات متممة بذلك إقامة كيان كردي مستقل وممتد بطول الحدود التركية السورية قاطعا كل اتصال بين تركيا وبين سوريا والعالم العربي ، وموجهة بذلك ضربة مزدوجة لصميم الأمن القومي التركي. هذا الامتداد والتحدي الكردي لم يكن ليحدث لولا التدخل الروسي في سوريا والذي أتى لمنع تركيا من إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من بدء عملية لتحقيق ذلك .

وبالتالي فمشهد إسقاط الطائرة الروسية لم يكن قرارا محدودا كرد مباشر على اختراق الطائرات الروسية المتكرر للمجال الجوي التركي بقدر ما كان تجل للحنق التركي على قرار روسيا بتكبيلها ومنعها من تحقيق مشروعها ورؤيتها الاستراتيجية.



الكل يلعب وفقا للقواعد الأمريكية



التدخل الروسي لم يتم إلا بتنسيق وموافقة أمريكية وضمن القواعد التي أرستها الولايات المتحدة لمستقبل الساحة السورية ، ليس فقط من خلال تصريحات الخارجية والبيت الأبيض وترتيبات (الدولة الأمريكية العميقة) في البنتاجون ودوائر الكونجرس ووكالات الأمن والاستخبارات ولكن أيضا من خلال تصريحات أبرز المترشحين للانتخابات الرئاسية المقبلة، والذين سيرثون بالطبع تركة هذه الأزمة التي تنامت في ظل إدارة أوباما؛ وبإمكاننا تلخيص هذه القواعد في البنود التالية:

– الأولوية لمحاربة داعش.

– على الدول العربية والإسلامية التكفل بالعبء الأكبر في محاربة داعش في ظل اكتفاء الولايات المتحدة بالضربات الجوية فقط وعدم مشاركتها بقوات برية (أو المشاركة بأعداد محدودة من المستشارين العسكريين).

– بداية مفاوضات عملية سياسية انتقالية.

– تحجيم وإيقاف الدعم المقدم لكتائب المعارضة السورية ذات الصفة الإسلامية، والتي أثبتت أنها (ليست معتدلة بما يكفي) بالنسبة للولايات المتحدة.

– ضمان أمن إسرائيل.

كانت الاستجابة الأولى لهذه الشروط من قبل النظام وحلفائه حيث أعلنت روسيا تدخلها (لمحاربة داعش) في الوقت الذي تقوم فيه بتكبيد قوات المعارضة الإسلامية المسلحة خسائر فادحة ، والتحالف مع وحدات حماية الشعب الكردية – العلمانية – ، وأيضا تحجيم نفوذ إيران وحزب الله في الساحة السورية المحاذية لإسرائيل وإزاحة ثقلهما لحساب روسيا التي تنسق مع إسرائيل لضمان أمنها وتحقيق الأهداف المشتركة بينهما ، الأمر الذي تضمن تقديم عربون هو رؤوس عدد من قيادات حزب الله الميدانية – وضمان عدم رده على ذلك – للتأكيد على هذا التفاهم والاتفاق. ذلك هو العرض الذي قدمه بوتين ووافقت عليه الولايات المتحدة في فيينا بينما كانت الإدارة الأمريكية توجه إلى تركيا ابتسامات التفهم وعدم الاعتراض على طرحها بخصوص إقامة المنطقة الآمنة.



العرض السعودي المقابل



في المقابل وبموازاة هذا الحلف الروسي – الإيراني أعلنت السعودية على لسان أميرها الشاب محمد بن سلمان إنشاء تحالفها (الإسلامي) لمحاربة (الإرهاب) بمشاركة تركيا وعدد من الدول الإسلامية كمصر والإمارات والسودان وماليزيا وباكستان – مع إبداء الأخيرة تفاجئها من إدراج اسمها في هذا السياق -. إعلان قوبل بكثير من تعليقات التعجب والسخرية من عدد من المحللين والمتابعين إلا أن الهدف منه كان بوضوح تقديم عرض مقابل للولايات المتحدة تقوم فيه الدول الإسلامية (السنية) المندرجة ضمن هذا التحالف بإرسال قواتها (البرية) لمحاربة تنظيم داعش، الذي أثبت على مدار عامين، أن الضربات الجوية وحدها لا تكفي للقضاء عليه. على صعيد آخر تتحول بقايا المعارضة المسلحة المنهكة (ذوي اللحى الكثة والكلاشنكوفات القديمة) إلى وفد مهذب يرتدي البذلات الرسمية ويفاوض النظام على مسار (انتقالي) لا سيما بعد التخلص من القيادات الميدانية ذات الرمزية الكبيرة ليتبقى فقط من يقولون نعم.

في هذا السياق يمكننا إذا أن نستوعب كل تلك الرحلات المكوكية التي قام بها ولي ولي العهد السعودي إلى مختلف دول هذا التحالف لا سيما باكستان النووية المترددة ، وكذلك يمكننا أيضا أن نفهم لماذا أتت تصريحات وزير الخارجية التركي من الرياض حول مستقبل التقارب مع مصر وأهمية الأخيرة لاستقرار المنطقة من نفس المنصة ومباشرة على إثر تصريحات قرينه السعودي حول أهمية (محاربة الإرهاب) والتصدي لـ(الأعمال العدوانية الإيرانية). تقارب واجب إذا بين دولتين من المفترض أن يشترك جنودهما جنبا بجنب وتحت قيادة موحدة لتحقيق أهداف هذا التحالف. وعلى الرغم من ذلك فالنظام المصري – والذي لم يخف دعمه منذ الثلاثين من يونيو 2013 لنظام الأسد و(الجيش العربي السوري) – مازال متلكئا في الانضمام بصورة فعلية لهذا التحالف والوفاء باستحقاقات هذا الانضمام وعلى رأسها الموقف من حصار غزة والعنف تجاه الإخوان المسلمين.


اليمن كلاكيت ثاني مرة

في حال حصل هذا العرض السعودي على الضوء الأخضر الأمريكي فمن المتوقع أن تسعى السعودية بالمشاركة مع تركيا إلى تكرار سيناريو التدخل في اليمن حيث تقوم قوات المعارضة المحلية بالدور الأكبر في المواجهات البرية – ضد كل من داعش والنظام السوري – مع توفير غطاء جوي ودعم لوجيستي وتدخل مباشر من قوات التحالف في حالة المعارك الفاصلة والمواجهات الكبرى. إن حدث هذا التدخل بالفعل فإننا سنكون في مواجهة تضعنا أمام عدد من التساؤلات والتوقعات : فابتداء وعلى الرغم من عدم استبعاد أن تستهدف روسيا قوات المعارضة المحلية إلا أنه من غير المتصور أن تضرب الطائرات الروسية حشودا تنتمي لتلك المروحة الواسعة من الدول المنضوية في التحالف والذاهبين لمحاربة داعش. في نفس الوقت فإنه من غير المتصور أيضا أن تتنازل روسيا بكل بساطة عن موطئ القدم على ساحل المتوسط الذي توفره لها قاعدتها في طرطوس مما سيضع علامات استفهام كبيرة حول مستقبل وحدة الدولة السورية خاصة وأنه من غير المعروف إذا كانت الولايات المتحدة ستسمح بتوسع المعارضة (والتحالف) على حساب النظام أم أنه سيكون بإمكانهم التقدم فقط على حساب داعش مما يكرس التقسيم واقعا على الأرض. على صعيد آخر فإنه من المتوقع أن تتحول أهداف هجمات داعش من العواصم الغربية والمواطنين الغربيين إلى قلب مدن الدول الإسلامية المشاركة في التحالف ، وليس هجوم جاكرتا (ومن قبله أنقرة وإسطنبول) من ذلك ببعيد.

كل هذا السيناريو يظل مرهونا بالحصول على الضوء الأخضر الأمريكي ، وفي غيابه فإنه ليس هناك من أفق واقعي لمستقبل المعارضة السورية أو المصالح الاستراتيجية لتركيا والسعودية في ظل تقدم النظام المدعوم بروسيا وإيران على كل الجبهات ، لتتجلى أمامنا حقيقة واحدة هي أن من سيحكم سوريا ويحدد شكل مستقبلها، ومستقبل المنطقة برمتها ، هو من يبادر بفرض سيطرته كأمر واقع على الأرض يكرسه حبر على ورق.