مع الاطراد المتسارع في فهم العلم لطبيعة الحمض النووي وسلوكه الجزيئي، ظهرت للعيان خواص لم يكن أحد يتخيل أنها قابلة للاستغلال بعيدًا عن عالم الخلية الحيوي. يتمتع جزيء DNA بمرونة تجعله مسئولاً عن كل تفاصيل جسم الإنسان، ولكن ماذا إن قمنا بوضع هذا الجزيء في بيئة غير حية؟ ما الذي يمكن أن يقدمه الحمض النووي للتكنولوجيا كجزيء بحد ذاته؟

تطورت التكنولوجيا القائمة على محاكاة المواد الطبيعية وخواصها وسلوكها بشكل كبير في بداية الألفية الجديدة. مع هذا فقد بقيت الاستخدامات غير الحيوية للمكونات الحيوية قضية خافتة إلى حد ما لصعوبة التعامل معها.

في

البحث الجديد

المنشور في دورية «نيتشر لتقنية النانو – Nature Nanotechnology»، استطاع الباحثون من جامعة ولاية أريزونا -بالاشتراك مع باحثين من جامعة Duke ونيويورك- صنع دائرة كهربية معتمدة على جزيء الحمض النووي، قادرة على تجزئة وتجميع التيار الكهربي.

تقوم دائرة الحمض النووي الكهربية بعمل المشترك الكهربائي المستخدم لتوصيل عدة أجهزة كهربائية بنفس مصدر الكهرباء. ما الذي قد يعنيه هذا الكشف الفعلي بالنسبة إلى الإلكترونيات الحديثة؟


اقتباس الطبيعة

للجزيئات الحيوية قدرات مميزة دائمًا ما تجذب الراغبين في التطوير التكنولوجي. لم يعد الأمر مقتصرًا على تخزين المعلومات الجينية، فقد فتحت أبواب محاكاة الطبيعة على مصراعيها عند بزوغ علم «الروبوتات الخفيفة – Soft Robotics»، في محاولة لاستغلال إستراتيجيات الطبيعة لخلق نماذج روبوتية أكثر كفاءة.

بدأت القصة عند اكتشاف خاصيتين محورتين يملكهما جزيء الحمض النووي من الناحية الفيزيو-كيميائية البحتة؛ قدرة على «التجمع الذاتي – Self-assembly»، والأهم قدرته على التوصيل الكهربي. من أهم ما استحدثته الدراسة الجديدة لتحقيق انتقال الشحنة بشكل فعال من خلال جزء الحمض النووي، هو استخدام جزيء مكون من أربعة شرائط بدلاً من اللولب مزدوج الشرائط المعتاد.

تتكون جزيئات الحمض النووي رباعية الشرائط تلك بسبب ميل قواعد «الجوانين – Guanine» إلى التجميع الذاتي؛ الأمر الذي يعطيه ميزة هامة للغاية عن الجزيء النووي العادي.

يوفر هذا

التناول الجديد

لمشكلة استخدام الحمض النووي في الدوائر الكهربية قدرة مميزة على شطر التيار وإعادة تجميعه، وهي العقبة الأولى في طريق استخدام الحمض النووي بشكل مكثف في الإلكترونيات، خاصة مع القابلية العالية للقواعد النيتروجينية المكونة للحمض النووي للبرمجة، بحيث تسلك مسلكًا واضحًا ومتوقعًا في نشاطها في الدائرة الإلكترونية.

تتواجد هذه الجزيئات رباعية الشرائط في الحمض النووي الطبيعي قرب نهاية الكروموسومات فيما يعرف باسم «تيلومير – Telomer»، وقد تم اكتشافها في بيئة معملية قبل أن يتأكد وجودها في الحمض النووي الطبيعي، وتتكون من الميل الطبيعي لقواعد الجوانين بالتكتل. للأسف يظهر تأثير رباعيات الشرائط تلك في 85% من حالات السرطان مما يجعلها الهدف الأساسي للكثير من علاجات السرطان.


التصميم الذكي

جاء تصميم الدائرة الكهربية النووية حذقًا للغاية. يتواجد الجزيء النووي رباعي الشرائط على هيئة تجمع لقواعد الجوانين ينشأ من ارتباط كل منها بجيرانها من خلال روابط هيدروجينية. يسهل هذا الوضع كثيرًا من «نقل الشحنات – Charge transport»؛ مما يجعل ربط هذا الجزيء بجزيئات ثنائية الشرائط –تعمل كأسلاك الدائرة- تصميمًا فعالاً لشطر أو تجميع التيار؛ أي تحقيق الهدف المرجو من البحث.

بهذه الطريقة تم التغلب على فشل التجارب السابقة، التي استخدمت جزيئًا نوويًا ثنائي الشرائط متواضع القدرة على نقل الشحنات. بعد إثبات الفكرة الأساسية، يهدف الباحثون إلى بناء دوائر أكثر تعقيدًا معتمدين على نفس الفكرة البسيطة المذكورة، مع زيادة الأسلاك المرتبطة برباعي الشرائط إلى ثلاث أو أربع شرائط، من أجل كفاءة أعلى في نقل الشحنات.


جزيء متعدد المهام

لجزيء DNA مميزات عديدة، بخلاف توصيليته الكهربية وقدرته على التجميع الذاتي ذات الأهمية الكبرى. بإمكان جزيء الحمض النووي اتخاذ أشكال وهياكل متعددة بالإضافة لقدرته على التناسخ الذاتي. تصب كل هذه المزايا في جعبة الصناعات الإلكترونية النانوية حيث تمكننا من تصنيع أنظمة نانوية لا يرقى إليها السيليكون مهما حاول.

بالإضافة لذلك نجد مرونة شديدة في

سلوك جزيء الحمض النووي

حيث نجده –على حسب أبعاده واتجاهه وترتيب قواعده- يعمل كعازل وموصل وشبه موصل. هذا بالطبع دون أن نغفل عن كونه منخفض التكلفة إلى حد كبير خاصة عند مقارنته بالسيليكون.

في المقابل، تواجه الفكرة الكثير من الصعوبات سواء في التحضير لعمليات القياس الكهربي أو في تقنية القياس ذاتها. على جزيء DNA ان يكون ملحقًا بقطب كهربائي وهي عملية صعبة للغاية. هنا يطرح سؤال نفسه:

لما تغلبت رباعيات الشرائط النووية على معضلات القياس؟

تمتلك قاعدة الجوانين أقل «جهد تأكسد – Oxidation potential»؛ أي أنها الأسهل في فقدانها للإلكترونات. يسهل الأمر نقل الشحنات الكهربائية كثيرًا، لأن الجوانين المؤكسد لا يظل في مكانه بل تتنقل الشحنة عبر عدة قواعد جوانين بحجم الشريط الرباعي النووي.

أما معضلة القياس، فإن حلها لم يكن يسيرًا من قبل ولكننا نملك الآن التقنية الكافية لقياس توصيلية الشحنات عبر جزيء الحمض النووي رباعي الشرائط. يتم ذلك عن طريق الميكروسكوب الماسح النفقي.

بهذا يكون من الممكن قياس وتطوير تصميمات الدوائر الإلكترونية المعتمدة على الحمض النووي الرباعي (G4)، أملاً في تحقيق قفزة نوعية في شبكات الإلكترونيات، وتوفير مخرج من مأزق انزلاقنا المتسارع نحو الحد الأقصى من القدرة على إضافة المزيد والمزيد من الترانزيستورات على الرقائق الإلكترونية، التي لن تتحمل عددًا أكثر منها قريبًا منها.