صورة من أحد مواقع التواصل الاجتماعي
صورة من أحد مواقع التواصل الاجتماعي.

هذه الصورة توضح الفارق بين الإنسان الكسول في عصور ما قبل الكورونا، والإنسان الكسول نفسه في عصور الكورونا، فبعد أن كان البقاء في المنزل دليلًا على الكسل، صار مرادفًا للمسئولية المجتمعية من الفرد تجاه مجتمعه؛ لاحتواء الوباء، وبعد أن كان العمل من المنزل أمرًا مبهمًا وغير مقبول اجتماعيًا، صار أمرًا ضروريًا، ووسيلة من وسائل توازن الاقتصاد للمرور بأقل خسائر ممكنة من أزمة جائحة كورونا.

ربما هي صورة ساخرة، لكنها من وجهة نظر أخرى قد تشير إلى تغير المفاهيم
وفقًا للظروف، فما كان إهمالًا صار مسئولية، وما كان كسلًا صار مشاركة، وهذا
التغير في المفاهيم يُعد قاعدة نظرية يحتاج كل منا –على اختلاف مجال عمله- أن
يدركها، فالحياة تتغير، والمفاهيم تتغير، وربما لو لم تزُر كورونا عالمنا لما
وصلنا إلى ذلك المفهوم البسيط.

«تسلميلي يا شدة»

تسلميلي يا شدة بيّنتيلي الحلو من الرَدِي.

هذا المثل الشعبي البليغ يؤكد أن الأزمات (الشدّة) لها وجهان، أحدهما أنها
اختبار للعلاقات الاجتماعية؛ ففي أوقات الضيق يتضح لك الصديق الحقيقي من المنافق؛
لأن «الصديق وقت الضيق»، أما الوجه الآخر فهو أنها تجعلنا نرى الأمور بدقة،
ونستطيع أن نفرق بين الصواب والخطأ، دون وجود مشوِّشات أو شبهات بين الأمرين.

من خلال هذا المثل يمكن أن نشير إلى أن الأزمات تفرض علينا فحص وجهات النظر
المختلفة، والنظر للأمور بواقعية وصدق وتدقيق، وكذلك تدفعنا إلى التفكير من منظور
مختلف، حتى وإن لم يكن هذا المنظور عقلانيًا أو مثبتًا، لكنه ربما يدفع إلى رؤية
جزء من الصورة يختبئ خلف الهالة الكبيرة للأزمة، والتي لا تُلقي الضوء إلا على
الجوانب السيئة.

ومن جانب اجتماعي، فإننا يمكن أن ننظر لبعض الفئات المجتمعية بمنظور مختلف،
في ظل ما نعيشه من إجراءات الحظر، فصديقك «المُوسوِس» الذي يهتم بنظافته كثيرًا،
ربما يكون هو «البيست فريند» في هذه الأيام، وبعدما كان مثار سخرية «الشِلة» صار
هو الأحوط والأفضل استعدادًا للأزمة، في ظل أن إجراءات الوقاية بالنسبة له هي أمور
اعتيادية، لذا يجب أن يكون قدوتك، وتتعلم منه الاعتياد على ما كنت تراه «أڤورة».

كذلك فإن المكتئبين والعدميين والانعزاليين قد تهيأت لهم الفرصة لينعزلوا وينفصلوا عن الواقع الموحش خارج حدود فقاعاتهم الاجتماعية، وهو أمر لا نورده للسخرية، فربما يكون هؤلاء أصحاب «مناعة ما» يحتاج من لم يعتد على «قعدة البيت» أن يتعلم منهم كيف يكتسبها، ويحتاج الكثيرون منا إلى خلق هذه الفقاعة الوقائية التي تساعده على حماية نفسه وحماية عائلته ومجتمعه من انتشار الفيروس، وليس هناك من هو أفضل من أصحاب الفقاعات لكي تتعلم منهم تجهيز فقاعتك.

«خلّي بالك من عقلك»

بسبب الحظر وطول فترة بقائنا في المنزل كثرت الدعوات المُحفِّزة على
استغلال الحظر في أمور إيجابية، بحيث تكون أوقات الحظر فرصة لتطوير مهاراتنا،
واكتشاف قدراتنا، والتعرف على عائلاتنا، وإعادة ترتيب أوراقنا… إلخ إلخ إلخ.

ولكن… بعيدًا عن مهاترات «بتوع التنمية البشرية»، وبائعي الوهم «بتوع اللايف كوتش»

المحترفون في أخذ أموالك

فقط، فإن الأزمات فرصة جيدة ليدرك الإنسان حقيقة مفادها أن إدراك مهارات التعايش والنجاة والبقاء قد تكون -في أوقات معينة- أهم من التطور وبناء الحضارات، وأن الإنسان يحتاج أحيانًا ألا يكون مميزًا، إنما يدرك -فقط- كيف يواجه ويتأقلم؟ وكيف ينجو؟ ويدرك أن الدنيا تحتاج إلى بديهيات وأوليات وبدائيات، ربما لا يلمحها في غير أوقات الأزمات، لذا قد تكون الكوارث فرصة ليدرك الإنسان جزءًا من فطرته وطبيعته وبدائيته.

كذلك، تمنحنا الأزمات فرصة للتوقف في عالم متسارع «يقطع النَفَس»، وحينها، ليس
مطلوبًا منّا في فترة العزل المنزلي أن نحقق أحلامنا التي لم تمهلنا سرعة الحياة
لتحقيقها أو نطلق «10 ستارت أب»، ونكمل «35 كورس»، ونقرأ كتابًا يوميًا، ونتوصل
لنظريات كونية جديدة، ونعلّم أبناءنا مهارات جوجل، الأمر ليس سباقًا أو فرصة ذهبية
كما يدّعي البعض، بل على العكس من ذلك، فربما تكون هذه الفترة هي أقل الفترات إنتاجية
التي يمكن أن يمر بها الفرد، في ظل المخاوف والمخاطر، والذعر من أعداد الإصابات
والوفيات، واضطرار البعض إلى العمل من المنزل، وهو أمر ليس سهلًا كما يشيع البعض.

الترويج لهذه الفترة الحرجة على أنها فرصة ذهبية، «وفاتك نُص عمرك ياللي ما
شُفت حظر» هو أمر فيه مبالغة، وقد يكون ضرره أكثر من نفعه، ربما يكون الإنسان
مطالبًا -فقط- خلال هذه الفترة بالحفاظ على اتزانه العقلي وصحته النفسية والعقلية
وسط هذا الكم من المخاوف والمخاطر، لذا لا تضغط على نفسك وأعصابك.

إن لم تكن بك قدرة على العمل والتعلّم والقراءة فلا تفعل، إذا كان ذلك هو
ما يجعلك تمر من الأزمة فافعل، وإن لم يكن فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وكلنا
نحتاج إلى الاتزان؛ حتى لا نصاب

باضطرابات نفسية وعقلية

، فحياتنا مليئة بالعديد من التحديات والمشكلات والمخاوف
التي تنتج -أغلبها- عن سلوكياتنا البشرية والتي تعد أكبر سبب فردي للصعوبات التي نواجهها
في الحياة؛ فمعظم مشاكلنا تكون بسببنا، وهي مفارقة بشرية أساسية؛ فكما نستخدم ذكاءنا
وإبداعنا وقدراتنا لتحسين الحياة بشكل كبير، نستخدم الأمور ذاتها لخلق عدد كبير من
المشاكل الاجتماعية، ولكي نعيش بسعادة وفعالية علينا أن نفكر في أنفسنا، ونتمتع
بقدر من التوقف والراحة، لذا فإن كانت «الأنتخة» تقلل من شعورك بالأزمة فأهلًا بالفشار
والمسلسلات والبلايستيشن.

منظور مختلف للأزمات

قديمًا لم يكن العالم أقل عنفًا وأكثر أمنًا، ولكن على الرغم من الحرائق والبراكين والأعاصير الأخيرة، فإن البشرية تشهد حاليًا قدرًا من الحظ الجيد عندما يتعلق الأمر بالكوارث.





الإحصائي السويدي «هانز روزلينج».

هذه المفارقة
أوردها هانز في كتابه الذي نشر بعد وفاته بعنوان «

الحقيقة: عشرة أسباب
نخطئ فيها حول العالم- ولماذا الأمور
أفضل مما تعتقد

»؛ ليشير إلى صعوبة النظر بحيادية للكوارث؛ نظرًا لطغيان الأضرار والأزمات
التي تنتج عنها، ومنها تضاعُف التكلفة السنوية للكوارث من حوالي 100 مليار دولار عام
1990 إلى 200 مليار دولار عام 2017، وهو ما يشتت انتباهنا عن الانخفاض طويل المدى لآثار
التدمير، ويشغلنا عن النظرة الدقيقة لآثار الكوارث.

ويشير هانز إلى أن تتبع الكوارث من حيث التكلفة هو

أمر خادع

؛ فمنذ عام 1990،
زاد عدد سكان العالم بأكثر من 2.2 مليار نسمة، وازداد حجم الاقتصاد العالمي بأكثر
من الضعف، وهذا يعني أن المزيد من الأرواح والثروات معرضة للخطر مع كل كارثة، وعلى
الرغم من ذلك فإن البيانات تشير إلى انخفاض الخسائر الاقتصادية للكوارث بنحو 20%
من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، حتى مع ارتفاع تكلفة الكوارث، وهو ما يمثل
فارقًا هائلًا يجب أن نلحظه.

ويلقي الضوء على أن جزءًا من تزايد القلق العالمي من انتشار الأوبئة والكوارث مثل كورونا، يعود إلى انتشار مناخ عالمي أكثر تسييسًا وتخويفًا وأقل واقعية ودقة، وربما تعيد أزمة كورونا النقاش حول البيئة والمناخ والأوبئة إلى الواقعية المطلوبة، بدلاً من انتشار الخوف.

ربما هذا المنظور المختلف هو ما لفت انتباه الباحثين إلى انخفاض معدلات
التلوث في العالم؛ وذلك بسبب انخفاض نسب التلوث وانبعاثات الغازات الضارة، بعد وقف
حركة المركبات وتقليل استخدام الطاقة؛ بسبب الحظر الناتج عن الإجراءات الوقائية
لمواجهة فيروس كورونا، وهو أمر إيجابي على الصحة العامة، خاصة في الصين، والتي تعد
أكبر الدول المُلوِثة للهواء، وهو ما تسبب في 1500 حالة وفاة مبكرة في عام واحد في
هونج كونج، لذا قدّر أحد باحثي جامعة ستانفورد أن التحسن في جودة الهواء في الصين
ربما

أنقذ عشرات الآلاف

من الموت المبكر
بسبب التلوث.

وفيما يخص جائحة كورونا، فإن كنت من مؤيدي أو معارضي نظرية المؤامرة فأنت –بالطبع-
قرأت مصطلح «الفيروس الصيني» الذي أطلقه ترامب، كاتهام ضمني للصين بالتسبب في
كارثة انتشار الفيروس عالميًا، وبالطبع أيضًا تناولت -مؤيدًا أو معارضًا- النقاشات
حول اتهام الصين بنشر الفيروس، وفي المقابل اتهام أمريكا بنشر الفيروس ردًا على
اتهامها للصين بذلك، ورغم عدم منطقية الطرحين؛ إذ لا يُعقل أن تطلق دولة فيروسًا
قاتلًا يكبدها آلاف الوفيات والإصابات وملايين العملات لمواجهته، إلا أن عدم
منطقية الطرح لا تدعو إلى استبعاده تمامًا.

ومن ناحية أخرى فإن الاتهامات السابقة التي طالت الجانبين الصيني والأمريكي دفعت إلى الضغط على الدولتين من أجل مزيد من الشفافية، ومزيد من الإجراءات الوقائية والاحترازية لمواجهة انتشار الفيروس. ربما تتطلب كل الأمور والمواقف التي نمر بها في حياتنا أن ننظر إليها نظرة مختلفة، ونراها من منظور مختلف؛ لكي نرى جوانب أخرى ومكمّلة للصورة، وهو أمر يعود علينا بالنفع، خاصة في الأزمات والكوارث والأوبئة؛ نظرًا لأنها تتطلب تفكيرًا مبتكرًا وخلّاقًا، لا تدفعنا النظرة الاعتيادية للأزمة أن نراه، أو تدفعنا إلى التركيز على أمور أكبر في الحجم، ونحن نجهل أن الأمور الصغيرة لها قدر من الأهمية لا يقل عن غيرها، بل ربما تكون هي بداية النجاة والخروج من الأزمة أو على أقل تقدير تساعدنا على إثبات أو نفي صحة تفكيرنا.