إن البحث الديني في أمور الحياة العامة قد أصبح عديم الجدوى عديم الأثر، وأصبح الناس إذا عرض لهم شأن من تلك الشئون لا يسألون: حرام هو أم حلال، ولكن نافع هو أم ضار!





علي عبد الرازق ورأيه في علاقة الدين بالدنيا

انعقدت بمقر المجلس الأعلى للثقافة بمصر ندوة في ديسمبر الفائت احتفاء بمضي خمسين عامًا على رحيل علي عبد الرازق صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وعلى هامشها صدر كتاب «مختارات من آثار علي عبد الرازق» الذي جمعه وحرره وقدم له المؤرخ حسام أحمد عبد الظاهر، وهو يضم طائفة مختارة من مقالاته صدرت في مناسبات وتوقيتات مختلفة مستبقًا صدور الأعمال الكاملة التي أنفق عبد الظاهر خمسة أعوام كاملة في جمعها وترتيبها ومقارنة ما تكرر نشره؛ وهي تضم كتب عبد الرازق الثلاثة: أمالي علي عبد الرازق في علم البيان (1912)، والإسلام وأصول الحكم (1925)، والإجماع في الشريعة (1947) ومذكراته الشخصية ومجموع مقالاته ومحاضراته. ويؤمل أن تسهم هذه الأعمال من ضمن ما تهدف إلى ضبط المنشور منها، وخاصة أن كتابه الذائع الصيت اختلفت طباعاته واعترى بعضها السقطات النصية والتحريف، ولذا عكف المحرر على مطابقة هذه الطبعات على مسودتين خطيتين للكتاب حصل عليهما بخط المؤلف.


حول الكتاب ومنهج تحريره

ويقع كتاب «مختارات من آثار علي عبد الرازق» في 215 صفحة تتوزع على خمسة فصول سبقتها مقدمة وجيزة كشفت عن الغاية التي من أجلها وضع الكتاب؛ لفتت الانتباه إلى تنوع الانتاج الفكري لعلي عبد الرازق، وتناولت معايير انتقاء المقالات للنشر؛ والتي تتراوح ما بين التنوع الموضوعي وتنوع أزمان النشر وتعدد منابر النشر.

ولم تشر المقدمة إلى معالم المنهج التحريري المتبع إلا أننا نستطيع تلخيصه في جملة واحدة: هي التخلية بين المؤلف والقارئ أو بين منتج النص ومتلقيه، فليس ثمة إحالات هامشية تثقل القارئ للتعريف بالأعلام أو توضيح ما غمض من كلمات أو التعليق على رأي ورد بالنص، وهذا لا يعني انتفاء حضور المحرر فقد بدا حضوره صريحًا في صدر كل مقال للتعريف بمصدره، وتاريخ نشره، ومقارنة الطبعات المختلفة له -إن تكرّر نشره- واعتماد أصحها وأتمها في النشر، وفي عزو الآيات القرآنية إلى سورها، كما كان له حضوره المستتر خلال النص الذي أتي خلوًا من الأخطاء الإملائية والسقطات النصية. ومن حسنات هذا المنهج التحريري تنحية الطابع الأيديولوجي، وتغليب الصفة المعرفية على النص، ولا عجب في ذلك فمحرره مؤرخ يتعامل مع النص بحسبانه نصا تاريخيا ينبغي التعامل معه بحيادية وتجرد، باعتباره ملكا لمؤلفه وللتاريخ من بعده، وليس نصا أيديولوجيًا يمكن التعليق عليه مدحًا أو قدحًا.

ويحملُ الكتاب في طياته امكانيات معرفية؛ فهو يتيح التعرف على أفكار علي عبد الرازق في الفلسفة والمنطق والأدب والإصلاح بل و في السياسة، وبهذا تكتمل المنظومة الفكرية لهذا المفكر الذي تم حصره في زاوية فكرية واحدة، ويساعد في رصد تطور أفكاره حول الخلافة ونظام الحكم ولعله يجيب ضمنيا على بعض الشكوك التي تثار من آن لأخر حول نكوصه عن بعض الافكار الواردة في كتابه الإسلام ونظام الحكم.


شذرات من الآراء الفلسفية واللغوية

وفيما يخص الأولى طرح الكتاب عددًا من الافكار والرؤى نتخير منها رؤيته حول الفلسفة، التي يميز بين نوعين منها: الأولى ما يطلق عليه «الفلسفة المصنوعة» أي التي تناولتها «الصنعة المنطقية فجعلتها حدودا موضوعة، وأنظمة مصنوعة، وفصولاً وأبوابًا تدرس في المدارس والجامعات، وتُمنح فيها الشهادات، وفلسفة أخرى غير تلك المدروسة ليست لها قواعد مدونة ولا يتم تدريسها، ولكنها ملكاتٌ تخالط النفس، وأخلاق تستقر فيها، وصفات تلازمها؛ فهي عمل لا علم وطبعا لا يقبل الصنعة ولا التكلف»

[1]

وعلينا ألا نصفها بالعبارة لأن الوصف يخرجها عن جوهرها الطبيعي العملي ويلقي عليها نوعا من الشبه بتلك الفلسفة المصنوعة. أما الفيلسوف فهو ذلك الإنسان الذي تعلم الفلسفة فكان فيها غذاء لعقله وروحه، وتشربت بها أخلاقه، وصار فيلسوفا حقا يعيش كما يعيش الفلاسفة السابقون، لا كما يعيش الذين يدرسون الفلسفة وينشرون فيها المؤلفات دون أن تتشرب نفوسهم ما في الفلسفة من حكمة وما تحويه من خلق وصلاح

[2]

.

كتاب "مختارات من آثار علي عبد الرازق" جمع وتحرير الباحث حسام عبد الظاهر

كتاب «مختارات من آثار علي عبد الرازق» جمع وتحرير الباحث حسام عبد الظاهر

وتشكّل آراؤه في اللغة والبلاغة جانبا آخر مجهولا من حياته الفكرية؛ ولقد تضلع علي عبد الرازق في علوم العربية حتى كان أول مؤلفاته في علم البيان، وبلغ من تمكنه أنه أراد إعادة تصنيف علم البلاغة تصنيفا جديدا، فهو يرجح أن علم المنطق كان فرعا من البلاغة، وعلما من علوم البيان بأكثر من كونه علما يندرج ضمن العلوم الفلسفية، ويدلل على ذلك بأن قسما من أبواب الأدب يتعلق بصنعة القول، ووسائل التأثير في العقول وإفحام الخصوم بوسائل الجدل. وفي المقابل فإن شطرا كبيرا من أبواب المنطق يتعلق بالألفاظ والمعاني والعلاقة بينهما، وشطرا آخر يتعلق بالتعريفات وكيفية تحديد المصطلحات، وشطرا ثالثا يتعلق بوسائل الإقناع والتأثير كالبرهان والخطابة، أما بقية أبوابه فليست إلا استطرادًا وليست من جوهر المنطق، ويخلص بنتيجة كلية وهي أن كلا من اليونانيين والعرب والأوروبيين قد جهلوا ما في المنطق من أدب وفن فخرجوا به إلى حدود الفلسفة العقيمة وكان الأجدر بهم وضعهم تحت الأدب والبلاغة

[3]

.

ويحملُ علي عبد الرازق رؤية خاصة في الإصلاح اللغوي؛ فهو يعتقد أن الإصلاح ليس له من معنى سوى أن تصبح اللغة صالحة لتأدية جميع الحاجات التي تشعر بها الأمة في حياتها اليومية والعامة وفي جميع نواحيها العلمية والأدبية والسياسية، ويلخص الإصلاح الذي تحتاجه العربية في: استحداث أسماء جديدة تستطيع التعبير عن المستجدات الفلسفية والعلمية التي لا نجد في اللغة ما يدل عليها، وتعديل قواعد الإملاء وطرق الكتابة والقواعد النحوية والأدبية، وهو ما يعني المساس ببنية اللغة لكنه يتذرع بأن «الناس أصبحوا في العصر الحاضر يلتمسون السهولة في كل شيء والاقتصاد في كل شيء فهم يريدون أن تكون اللغة العربية سهله الكتابة، سهلة الطباعة، سهلة التحصيل ميسرة تمكن الاحاطة بقواعد نحوها وبفنون بلاغتها ومعاني مفرداتها في أسرع وقت وأيسر طريقة»

[4]

وهو بذلك يعتقد أن العربية ليست لغة يسيرة في نحوها وألفاظها، ولعله يعد بذلك من أوائل الداعين إلى تغيير بنية الكتابةوقواعد الإملاء والنحو، وهي الدعوة التي أفرد لها الشيخ أمين الخولي الجزء الأكبر من مشروعه الفكري في مرحلة لاحقة.


الآراء الدينية: ثبات واضطراد

وأما أفكاره الدينية وما قد يكون اعتراها من تغير وتبدل؛ فها هو عبد الرازق يكتبُ مقالا بجريدة السياسة في الثاني من سبتمبر عام 1925، ولم يكد يمضي على صدور الكتاب أشهر قلائل ينفي ما فهمه بعض الكتاب من أنه تراجع في مذكرته ردا على كبار العلماء عن الفكرتين الرئيسيتين في كتابه وهما: أن دين الإسلام يعنى كغيره من الأديان بالشئون الدينية دون الدنيوية، وأنه بات يعتقد شرعية الخلافة إن ارتأى المسلمون المصلحة في كون الحكومة خلافة، لكنه يقطع مادة الجدل في هذا الباب بقوله «إننا نرجو أن يعلم حضرات الناقدين أننا ما خططنا في كتابنا كلمة إلا من بعد أن عرفنا وجوهها وكنا على بينة من مصادرها ومواردها، ذلك تفكير بضع سنين، ورغم أنف المكابرين وما كنا لنخشى أن نتحمل تبعة شيء مما جئنا في كتابنا بعد ذلك البحث، ولا لنرجع عن رأي اعتقدناه وقررناه فيه لمجرد صيحات وحركات ليس فيه أثر لسلطان الحق ولا قوة النزاهة والإخلاص لله تعالى»

[5]

.

وليس ثمة ما يدعو للشك فيما ذكره فقد تواصلت أفكاره وتبلورت وأضحى أكثر جرأة في الإفصاح عنها، فمسألة اختصاص الإسلام بالشئون الدينية دون الدنيوية تم التأكيد عليها في بضع مواضع وبصيغ مختلفة وهو يقرر فيما يشبه القاعدة المعيارية «أن البحث الديني في أمور الحياة العامة قد أصبح عديم الجدوى عديم الأثر، وأصبح الناس إذا عرض لهم شأن من تلك الشئون لا يسألون: حرام هو أم حلال، ولكن نافع هو أم ضار”

[6]

.

واستتبع ذلك بالضرورة الحديث عن ضرورة الفصل بين الدين والسياسة وهي الفكرة التي اختصها بمقال نشره عام 1928 حاول من خلاله أن يهدئ من حدة المخاوف التي يثيرها المعارضون قائلا: «ليس الفصل بين الدين والحكومة بمؤثر في دين الأمة قليلا أو كثيرًا، فما هو بمخرج من دينه أحد ولا بمدخل في اللادينية أحد، ولا هو بمغير على أي وجه من الوجوه وضعا جوهريا من أوضاع الدين»

[7]

كما لا يلزم منه أن «يُنبذ الدين ولا أن تٌقطع مادة تعليمه وترفع من البلاد؛ فإن بلدا مثل فرنسا قد فصلت الدين عن السياسة ولازال الدين فيها غضا طريا، ثم ينحو باللائمة على مثيري تلك المخاوف متهما إياهم بأنهم “لهم في المسألة أغراض وغايات»

[8]

.

وعلى هذا فليس من أغراض الفصل كما يدعي معاداة الدين أو محاولة تقليص أنصاره، إذ ليس له إلا غاية واحدة هي «محاربة رجال الدين والتخلص من سلطانهم»، وهذا الإقصاء العنيف له ما يبرره فسلطة هؤلاء «الكهنوتية» إذا تدخلت في الشئون العامة كانت نحسا وشؤما لا تنال الأمة خيرا من ورائه بل لا تجني منه سوى الانحطاط والضعف، ومن ثم يصبح التخلص من سلطتهم شرطا أوليا لازما للإصلاح كما يعتقد.

وقد تواصلت كذلك انتقاداته العنيفة لنظام الخلافة في الإسلام، ولعلنا نلحظ أن انتقاده لها قد طال الفترات الباكرة أيام الخلفاء الراشدين، وهو ما لم نرصده في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذي اقتصر فيه على انتقاد الحقب التاريخية اللاحقة التي تحوّلت فيها الخلافة إلى ملك عضوض، فقد بات يعتقد أن هذه الحقبة الباكرة للخلافة لم تزل في أذهان الكثيرين من الناس ملففة بنسيج القدسية الدينية يحوطها جلال القِدم والخيال الشعري «فإذا أرادوا أن يسموها اختاروا لها الأسماء الحسنى أو أن يصفوها فلها خير الصفات، لذلك دعوها حكومة الخلافة وما سواها ملك عضوض، وأفاضوا عليها من الحمد، ونسجوا لها من برود الثناء ما زعموه من كلام النبوة وشهادة الوحي السماوي»

[9]

. ورغم اعترافه أنها كانت عصرا ذهبيا في تاريخ الإسلام إلا أنه يقرر بوضوح أنه لا يلمح فيها «ظلا للحكومة المقيدة»؛ فهي حكومة مطلقة لأنها لم تتقيد بما تتقيد به الحكومات من دستور أو برلمان، وإن تقيدت بالشورى التي ليست من هذين مهما حرص عليها الإسلام

[10]

.

ويجدُ عبد الرازق تشابهًا بين الخلافة وبين نظم الحكم الأوروبية في العصور ما قبل الحديثة، فالخلافة في بلاد الإسلام كانت سلطة يؤيدها شيخ الإسلام وتجمع ما بين شئون الدنيا والدين، وكان الخليفة إماما دينيا وسياسيا، وكذلك كان شأن المسيحية في بلاد الغرب؛ فلا يكاد يوجد حاكم سياسي لا يعتمد على تأييد الكنيسة ولا تقوم كنيسة لا تعتمد على الحكم السياسي، ولقد ظلت البشرية ترزح تحت سلطان هذا الحكم المطلق الذي يزاوج بين الدين والسياسة إلى أن ثورتها العنيفة التي اقتلعت هذا النظام، ولعله بهذا يعتقد أن ثورة أوروبا لم تكن ثورة دينية بقدر ما هي ثورة سياسية استهدفت تقويض أركان الحكم الديني والفصل بين الدين والسياسة

[11]

.

ولا يتسع المقام هنا لسرد كافة الآراء التي وردت بالكتاب، كما لم نشأ التعليق عليها جريا على نهج محرر الكتاب لنسمح للقارئ أن يتابعها ويستخلص ما ورد فيها دون تأثر برأي، وهي على كل حال تسمح جزئيا بإعادة اكتشاف علي عبد الرازق المفكر والناقد، أما الاكتشاف الكلي فلن يتحقق قبل صدور الأعمال الكاملة، وتسمح كذلك بمراجعة بعض الأفكار التي تروج من دون سند ولا برهان حول تراجعه عن بعض أفكاره في الخلافة وعلاقة الدين بالدولة.



[1]

حسام أحمد عبد الرازق (محررًا)، مختارات من آثار علي عبد الرازق، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ص 13.

[2]

نفسه، ص170-170.

[3]

نفسه، ص 27.

[4]

نفسه، ص55-56.

[5]

نفسه، ص75.

[6]

نفسه، ص79.

[7]

نفسه، ص81.

[8]

نفسه، ص86.

[9]

نفسه، 85.

[10]

نفسه، 84.

[11]

نفسه 11.