الإمام

أبو حامد الغزالي

(1058-1111) فقيه وأصولي ومتكلم ملقب بحجة الإسلام، أحد أبرز العقول في التارخ الإسلامي، وصاحب تأثير كبير على الفلسفة الغربية في العصور الوسطى. يتهم مفكرو النهضة العربية أفكار الغزالي بتقويض العقل العلمي، وقد تحدث نيل ديغراس تايسون، عالم الفيزياء الفلكية والإعلامي الأمريكي، مؤخرًا، عن تحريم الغزالي للرياضيات.

كما يشتهر عن الإمام الغزالي مسؤوليته عن انهيار الفلسفة الإسلامية لتحريمه الاشتغال بها. إذا حاولنا إجمال أكثر الاتهامات عمومية في عبارة واحدة لقلنا «رفض الغزالي للفلسفة والعلوم هدم العقل المسلم»؛ فما مدى صحة عناصر تلك العبارة؟


فلسفة أم سياسة؟

يشار عادة إلى كتاب «تهافت الفلاسفة» للغزالي باعتباره ضربة قاصمة للفلسفة الإسلامية؛ لكن البحث التاريخي يخبرنا أن آراء الغزالي، على قوتها، لم تلعب الدور الأكبر في المعركة. كانت التوجهات السياسة، كما في أغلب الأوقات، هي المؤثر الأكبر في الموازين، بالتحديد سياسة

قوام الدين أبي علي الحسن بن علي الطوسي

(1018ـ 1092) وزير الدولة السلجوقية المسيطرة على الخلافة العباسية آنذاك. كان الوزير السلجوقي الشهير بنظام الملك صاحب مشروع مأسسة العلوم الدينية ونشرها عبر «المدرسة النظامية» التي أنشأها وتسمّت باسمه. ألقى الغزالي دروسه في «المدرسة النظامية» التي ترأسها ببغداد سنوات معدودة قبل أن يزهد التصدر ويطوف العالم في رحلته الروحية الشهيرة.

تبنت «المدرسة النظامية» آراء الغزالي وردوده الفلسفية لما وافقت هدفها الحقيقي، وهو مواجهة نشاط التشيع الإسماعيلي صاحب التأويلات الفلسفية الباطنية. ترتبط خطورة الانتشار الشيعي على دولة السلاجقة بحربها العسكرية والفكرية مع الدولة الفاطمية خصمها الأقوى في ذلك الزمان. بعد نحو ثلاثة أرباع القرن من نشر «تهافت الفلاسفة»، نشر القاضي

أبو الوليد محمد بن رشد

(1126-1198)، الفقيه والفيلسوف الأندلسي والشارح الهام لنصوص أرسطو، كتابه «تهافت التهافت» للرد عليه. بعدها تعرض ابن رشد لمحنة شديدة على يد الدولة الموحدية بالأندلس. ويختلف الدارسون حول أسباب اضطهاد ابن رشد ما بين إيغار صدر الحاكم بوقيعة، ورغبة السلطة في اتقاء الفتن ومداهنة الفقهاء والعوام الناقمين على مسالك وأقوال بعض الفلاسفة[1].

حاول الغزالي في كتابه إثبات تناقض أقوال الفلاسفة في عشرين مسألة. مع أن الغزالي كان يتفق مع الفلاسفة في عدد من المسائل فقد ناقشهم فيها بهدف إثبات تهافت منهجهم. في المسائل الخلافية احتد الغزالي وشنع على الفلاسفة خاصة في ثلاث منها عدها كفرًا (القول بقدم العالم أي كونه أزليلاً غير مخلوق، وعدم شمول علم الله للجزئيات، وإنكار البعث الجسماني للموتى). يبقى نقد التهافت منصبًا على مبحث الإلهيات (تفريعات الميتافيزيقا اليونانية حينها). يقول الغزالي في كتابه:

فهذا ما أردنا أن نذكر تناقضهم فيه، من جملة علومهم الإلهية والطبيعية. أمّا الرياضيات، فلا معنى لإنكارها، ولا للمخالفة فيها، فإنها ترجع إلى الحساب والهندسة. أما المنطقيات، فهي نظر في آلة الفكر في المعقولات، ولا يتفق فيه خلاف به مبالاة[2].





في كتاب آخر يتحدث الغزالي الرياضيات قائلًا:

أما الرياضيات، فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيأة العلم، وليس يتعلق شيء منها بالأمور الدينية نفيًا وإثباتًا، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها[3].





بعدها يصف الغزالي من يجحد صدق الرياضيات رغم برهانيتها بأنه:

رأى الغزالي في براهين تلك العلوم ظهورًا مبهرًا قد يحمل ضعاف العقول على اعتقاد عصمة الفلاسفة في جميع ما يقولون غافلين عن أن البراعة في مجال محدد لا تعني البراعة في جميع ما سواه. من الواضح أن الانبهار كان منتشرًا حينها بدليل أن الغزالي قصد من كتابه «تنبيه مَن حَسُنَ اعتقاده في الفلاسفة وظن أن مسالكهم نقية عن التناقض، ببيان وجوه تهافتهم»[5]، أما «لو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين نقية عن التخمين، كعلومهم الحسابية والمنطقية، لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية»[6]. دفعت الغزالي مخاوفه من الانبهار المنتشر بالفلاسفة إلى زجر غير المتأهل عن القراءة في تلك العلوم. يجدر الإشارة إلى أن الفضل في

شيوع المنطق

ودراسته عبر التاريخ الإسلامي يرجع في جانب منه إلى تأثير الغزالي وكتاباته.

يفتقر التصور الشائع لخلاف الغزالي والفلاسفة في زمنه على أنها معركة بين النقل والعقل إلى الدقة، ومرجع التصور غالبًا إلى كونها معركة بين فقيه وفلاسفة مع ما للفظة الأخيرة من إيهام مبدئي بالعقلانية. اعتمد الكتاب على مقارنة آراء الفلاسفة واستخدام الجدل والاستدلال الفلسفي الذي وظفه المتكلمة من علماء الدين غيره[7].

يظهر أثر تناول الغزالي الفلسفي التقليدي في ردود ابن رشد وقدرته على الاشتباك مع أكثر حجج الغزالي والرد عليها بيسر. علاوة على ما سبق، افتقرت أقوال الفلاسفة في الإلهيات إلى مقدمات منطقية متصلة. لقد استمدت آراء الفلاسفة سلطتها من نسبتها إلى السلف اليونانيين. باستخدام المعيار التوصيفي الشائع، يمكن وصف معركة الغزالي مع الفلاسفة إلى حد بعيد بمعركة بين النقل والنقل.

خلو مآخذ الغزالي على الفلاسفة من العلوم الطبيعية البرهانية والقواعد العقلية لا يعني تسليمه بجميع التصورات البديهية. انتقد الغزالي في كتابه مبدأ السببية بدعوى أن الاقتران الذي نشهده بين الأسباب والمسببات، مثل اقتران النار بالإحراق، ليس أمرًا ضروريًا؛ بل هما أمران منفصلان يتصور عقلاً حدوث كل منهما بمعزل عن الآخر. إنما يتوهم الإنسان ضرورة ارتباط النار بالإحراق بحكم العادة.


هل السببية مبدأ علمي؟

صديق للإسلام جاهل ظن أن الدين ينبغي أن يُنصر بإنكار كل علم منسوب إليهم [الفلاسفة]، فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها، حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف، وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع […] ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية.[4]

اتهم الغزالي ومعه الأشاعرة (جمهور أهل السنة) نتيجة موقفهم من السببية بالمسؤولية عن تخلف المسلمين العلمي؛ لكن موقف الغزالي من السببية لم ينحصر في فرقة إسلامية أو حتى طائفة دينية. شكك الفلاسفة التجريبيون وفلاسفة العلم في الحتمية السببية على مدار الفكر الغربي الحديث أيضًا. كانت السببية وما تزال موضع إشكال في فلسفة العلم المعاصر[8].

أشهر أعضاء جبهة نفاة الحتمية السببية قديمًا الفيلسوف والمؤرخ الأسكتلندي

ديفيد هيوم

(1711-1776)،وهو أحد كبار أعلام النهضة الأوروبية والفلسفة التجريبية. يقتصر التشابه بين هيوم والغزالي على القول بأن مجرد وقوع الاحتراق مع ملامسة النار لا يكفي دليلاً على أن النار هي التي تحرق. يجعل الغزالي وهيوم من السببية نزوعًا نفسيًا سببه الاعتياد لا مبدأ عقليًا، لكنهما اختلفا في ما سوى ذلك. يقصر هيوم منهجه على التجربة ويحصر المعرفة البشرية في الخبرة بالمحسوسات. يرفض هيوم أي فرضية إخبارية أو عبارة متعلقة بالعالم لا يمكن ردها إلى الحواس حتى إن كانت قانون السببية[9].

لعل السببية لم تحظَ بإجماع علمي أو فلسفي مستقر ما بين هيوم والعصر الحديث. ثم جاءت فيزياء القرن العشرين كأحد المعاول الحديثة التي وجهت لها ضربات جديدة. قوضت النسبية مفاهيم الاطراد والتسلسل الزماني المتعاقب بسبب فكرة الأنظمة الزمنية المختلفة، حيث يمكن للزمن الرجوع للوراء فتصبح المسببات أسبابًا والأسباب مسببات[10]. لم تقوض مساءلة السببية مبدأ التفكير العلمي في الغرب الذي بلغ فيه الأمر أن:

تبرأت الإبستمولوجيا العلمية من مبدأ العلية [السببية] الكونية واطراد الطبيعة ودورانهما المنطقي الشهير. ربما ظل مبدأ العلية [السببية] هاديًا للعقل حين التفكير في هذه الزاوية أو تلك؛ لكنه بالتأكيد لم يعد أساس الإبستمولوجيا العلمية كما كان في الفيزياء الكلاسيكية، خصوصًا بعد دخول المصادفة في بنية الطبيعة[11].

تحوي جملة «رفض الغزالي للفلسفة والعلوم هدم العقل المسلم» عدة أخطاء؛ لم يرفض الغزالي العلوم الطبيعية مطلقًا، كما لم يرفض الفلسفة بهذا الإطلاق، بل وجه إلى بعض مباحثها انتقادات غلب عليها الطابع الفلسفي، علاوة على أن ما أنكره لا يستلزم التخلف ولا تقويض العقل العلمي. إذن لعل السؤال عن سبب التخلف يتطلب تغيير نطاق البحث أو على الأقل توسعته ليشمل مساحات أخرى، مثل الإشكاليات السياسية باعتبارها الأكثر وضوحًا ومباشرة وتأثيرًا.


المراجع




  1. محمد يوسف موسى، بين الدين والفلسفة، القاهرة، مؤسسة هنداوي سي آي سي، 2017، ص 33-42

  2. الإمام الغزالي، تهافت الفلاسفة، القاهرة، دار المعارف بمصر، ط4، بدون تاريخ، ص87

  3. الإمام الغزالي، مجموع رسائل الإمام الغزالي، لبنان، دار الكتب العلمية، 1988، ص38

  4. الإمام الغزالي، مجموع رسائل الإمام الغزالي، لبنان، دار الكتب العلمية، 1988، ص39

  5. الإمام الغزالي، تهافت الفلاسفة، ص82

  6. الإمام الغزالي، تهافت الفلاسفة، ص77

  7. محمد يوسف موسى، بين الدين والفلسفة، ص168

  8. يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012، ص220

  9. يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم، ص119

  10. يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم، ص220

  11. يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم، ص221