مقدّمة المترجمة

قام جدّي مدير المدرسة الشّرعية الأديب محمد تولتش برحلته الوحيدة للحج متوجّهاً من سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك التي كانت جزءاً من يوغسلافيا وقتها، إلى المملكة العربية السعودية برّاً، وسجّل انطباعاته بعد عودته عمّا شعر به وشاهده وفكّر به خلال الرّحلة، نشرها في صحيفة جلاسنيك البوسنيّة آنذاك، وقمت بترجمتها (بتصرّف) للقارئ العربي، توثيقاً لتلك الفترة، وتعريفاً بجزء من التّراث الثّقافي الحديث لمسلمي البوسنة والهرسك.

منذ أن بدأ دين الإسلام يدفئ أرواح شعبنا في هذه الأرض، بدأ حجّاجنا التّوجّه  للأرض القصيّة، لمهد الإسلام، للأرض العربيّة. لا البعد ولا انعدام الأمان على الطّرق، ولا الأمراض ولا المتاعب التي لا يمكن وصفها والتي تنتظرهم على طريق بعيد كهذا كانت تثبّطهم عن إرادتهم الصّلبة بزيارة الأراضي المقدّسة. وهكذا مع تعاقب القرون تحمّل حجّاجنا مصاعب غير محدودة، وكثير منهم فقدوا حياتهم على الطّريق الإلهي، بعيداً عن أرضهم وأحبّائهم.

من أين جاء هذا التّوق وتكريس النّفس للسّفر للحجّ؟

الجواب ليس صعباً: في المرتبة الأولى، الحجّ من الفرائض الواجبة على كلّ مسلم ومسلمة ، والثّانية، تلك المحبّة التي يشعر بها  المسلمون تجاه الله وتجاه دينه وتجاه حبيبه محمد، صلى الله عليه وسلّم، فخلال الرّحلة سيزورون الأماكن التّاريخية المرتبطة بحياة الرّسول، عليه الصّلاة والسّلام، مثل مكّة مكان ميلاده، والمدينة التي استقبلته وأصحابه بقلبٍ واسع  في أحلك لحظات ظهور الإسلام، وبدر وأحد وعرفات، وكلّها أماكن سطرت دوراً في ملحمة الإسلام.

ورغم  بعدها الكبير عن أرضنا، الطّريق إلى مكّة اليوم ميسّر ومريح لحدّ ما  ويمكن تقديره، وتوجد طرقات جيّدة في البلدان التي يجب المرور منها للوصول (بلغاريا ، تركيا، سوريا، الأردن، والمملكة السّعوديّة)، ووسائل مواصلات مريحة، وسائقون مهرة.

ومن المهم جدّاً الإشارة إلى توافر الماء في كلّ الأماكن التي نمرّ بها و ونقيم للاستراحة بها، وكذلك مراكز نشطة للتّزوّد بالفواكه والحليب المعلّب، وهذا ما يهمّ في الطّريق البرّي الذي يكون أشقّ من الجوّيّ، المعاناة الحقيقيّة يواجهها الحاجّ في المسير البرّيّ حين يصل إلى الجزء الصّحراويّ الذي لا تكون فيه شوارع ممهّدة، وهو – والحمدلله- ليس طويلاً.

أوّل انطباعاتي على الطّريق أخذتها ونحن متوجّهون من سراييفو إلى زفورنيك «وهي آخر نقطة يتجمّع فيها الحجيج القادمون من البوسنة»، في نفس يوم مغادرتنا، فقبل مغادرتنا  نعقد حفلة الإقرار (وداع الحاجّ) حيث نوزّع الحلوى ونتلو القرآن  ونطلب العفو والدّعوات والأمنيات من الأصدقاء الحقيقيين، ولحظة الانطلاق يتجمّع الأصدقاء والأقرباء عند الحافلات يحضنون الحاجّ ويوصونه بالدّعاء لهم في الأرض المقدّسة وهذا ممّا لا يغيب عن ذاكرة الحاجّ والحاضرين، لحظة ترك المكان المألوف والأحبّة الذين نراهم كلّ يوم، هنا القلب يخفق بقوّة والدّموع تنسكب‪.

وعندما يمرّ أوّل انفعال، يبدأ المسافرون بالاعتياد على الواقع والتّكيّف مع ظروف الطّريق، ويبدأ التّعارف مع الرّفاق، واقتراب الواحد من الآخر، وإبداء حسّ التّعاون وخدمة الآخرين، وتتكوّن الرّابطة التي تزداد مع الطّريق متانة، نبدأ احتساء القهوة  وتناول الطّعام معاً، وبشكلٍ ما توحّدنا الرّوح الجماعيّة . وبوصفي مشرف مجموعتي كان  لا بدّ أن أحرص على الالتزام  بالتّكتيك الجيّد وحسن الإدارة، وأن أحافظ على رباطة جأشي في مواقف النّزاع وإساءة تصرّف البعض، ولا بدّ من البداية أن أكسب احترام الجميع، بحيث أضمن  تكاتف الكلّ عند أيّ بادرة عدم انضباط أو أنانيّة.

يسعني القول إنّي كنت مع مجموعتي في غاية الرّضا، فيها ساد الانضباط والتّضامن اللّذان  تجلّيا  في أصعب الظّروف، عندما تحلّ ضائقة بأحدنا نسارع لجمع المال، وبمبادرة منّا دون طلب منه .

تركيا

لفت نظري أنّ حجّاجنا رغم أنّ أغلبهم من الرّيف وبعضهم كان أمّيّاً، أبدوا اهتماماً بالغاً بالمعالم الثّقافية والحضاريّة التي صادفناها في طريقنا، هذا ما أدركته منذ الأيّام الأولى واستمرّ حتّى الأيّام الأخيرة، لم ينبهروا بجامع  سليم في أدرنة، والسّلطان أحمد وغيره من جوامع إسطنبول فحسب، بل كانوا في أصغر المناطق عندما نتوقّف لوقت قصير، يبحثون عن جامع أثريّ ليتأمّلوه ويصلّوا فيه  لو ركعتين، كذلك اهتمّوا بالمقامات والقلاع ذات التّاريخ المجيد، وأماكن اختباء المسيحيّين الأوائل.

كنت أتعجّب من سرعة بديهة حجّاجنا في اكتشاف أماكن تواجد الماء، الخبز، والسّوق، والصّرّاف أينما حللنا.

بعد إسطنبول توجّهنا لبورصة، إينوغول، واسكي شهر، وقونيا،  وأضنة. أثّرت فينا مساجد بورصة الرّائعة، التقينا في إينوغول بأناس هم من شعبنا من الذين هاجروا قبل ستين عاماً وأكثر لتركيا* وكان لهذا اللّقاء متعة خاصّة، ومع أنّ بعضهم في تركيا منذ خمسين عاماً، وبعضهم ولد فيها، إلّا أنّ العلاقة و المشاعر نحو أرض الوطن  وأهله كانت قويّة حارّة لدرجة أنهم احتفلوا بلقائنا كأنّه يوم عيد لهم، فبعضهم انتظرنا ساعات. ومع أنّ غالبيّتهم ليست لديهم صلات قرابة مع أحد من حجّاجنا، إلّا أنّ اللّقاءات كانت دافئة وأخويّة، وحتى الدّموع أفسحت لنفسها مكاناً. وأثار اهتمامي أنّ المناطق التي استوطنوها مشابهة جداً لما عندنا في البوسنة، المناخ، المياه، وكأنّهم تماماً بشناق أصليّون، تركوا البوسنة ليبتعدوا عن حكم الغرباء وبحثوا عن أشبه الأماكن بأرضهم ليستقرّوا فيها.

إلى قونية وصلنا حيث صلّينا الفجر في جامع بالقرب من تربة الكبير جلال الدين الرومي، ولم يمنعنا الثّلج الذي أشرق صباح المدينة عليه في الطّرقات. أردنا زيارة التّربة، ولكن كان علينا التّحرّك باكراً ذلك الصّباح والباب كان مغلقاً لا يفتح إلّا في السّاعة الثّامنة صباحاً، عبثاً حاولنا إقناعهم بأنه علينا المغادرة في ذلك الوقت، وسمحوا لنا بعد تدخّل دليلنا في الطّريق ووصول حجّاج من شمال تركيا . بعميق الاحترام تلونا الفاتحة عن روح فيلسوف الإسلام الكبير، وأمعنّا النّظر في التّربة من الدّاخل وكانت لافتة فعلاً للانتباه وذات صناعة فنّيّة عالية.

لم أستطع في الحقيقة التّغاضي عن فكرة أنّ بعض الذي رأيته لا يتناسب مع التصوّر الإسلاميّ الشّامل، خصوصاً لمّا رأيت حجّاج الأتراك يلمسون بأيديهم قضبان الضّريح ثمّ يمسحون وجوههم، وكذلك الصّرح الكبير المقام فوق القبر الذي يتناقض مع بساطة الإسلام.

سوريا

الدّخول لسوريا يشعر الإنسان بأنّه ولج عالماً عتيقاً وثقافة عريقة. ومن الطّريق لاحظت مزارع الفواكه الغنيّة، والقرى النّظيفة المكدّسة أحياناً بالبيوت المبنيّة من طين الأرض، وبدت مساجدها من بعيد مزيّنة بمنارات جميلة، وفي مناطق أخرى شاهدت طلّاب مدارس يلعبون في السّاحات لابسين زيّهم.

في حمص قضينا وقتاً قصيراً، حيث صلّينا في جامع الصّحابيّ خالد بن الوليد، الحجّاج ذهلوا من جمال المعمار وبقوا عاجزين عن الكلام بعد انتهاء صلاتهم. أمام المسجد حديقة واسعة مليئة بالنّاس اللّابسين ألواناً مبهجة. تجمّع النّاس في الحديقة حولنا وانهالت أسئلتهم عنّا وعن بلادنا وحال المسلمين فيها.

التّواجد في حلب ودمشق كان ملائماً لنا وممتعاً، هاتان مدينتان تجاريّتان قديمتان، ذواتا مساجد عديدة وأسواق فخمة، وغنيّتان بالمعالم التّاريخيّة والأثريّة. دمشق هي تاج المدن السّوريّة، والجامع الأمويّ بساحته المفروشة وشاذروانه، وبأعمدته المصقولة ونقوشه التي ما رأيت قبلاً مثلها كان آية في الجمال. الجامع الأمويّ ملاصق للسّوق الكبير، وقريب منه يقبع ضريح البطل صلاح الدّين الأيّوبيّ القائد في فترة الحروب الصّليبيّة، وجدنا الضّريح في فناء صغير محاط بالورود والزّهور، المكان يعبّر عن الفرادة والعظمة بما يناسب مقام البطل العظيم. بعميق  الإجلال وقفنا أمام مقام هذا الرّجل الذي احترمه حتّى ألدّ أعدائه بسبب فروسيّته العالية، وأخلاقه النّبيلة.

الأردن

جزء من الأردن يشبه سوريا، إلى حدود المنطقة الصّحراويّة.  هناك حقول مسيّجة، بداخلها جرّار زراعيّ، وتظهر المساكن من بعيد، ومدرسة مليئة بالأطفال. سنحت لي الفرصة بالتّحدّث مع مجموعة من طّلّاب المدرسة الصّغار، اطّلعت على كتبهم المدرسيّة، الأطفال كانوا ممتعين مليئين بالحيويّة، ويعرفون عن بلدنا. أراني أحدهم صفحة من كتاب الجغرافية يرد فيه ذكر يوغسلافيا، وكانوا يتحدّثون عن أملهم بتحرير الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة من يد العدوّ الإسرائيلي.

مررنا بالعديد من الأراضي الجميلة المزدهرة حتى وصلنا عمّان، ومن بعدها ولجنا الطّريق الصّحراويّ.

ونحن ننظر للصّحراء الممتدّة حولنا لم نكفّ عن التّساؤل كيف ولم يعش النّاس هنا؟ الشّمس حارقة، ويخفّف من لهيبها الرّياح الباردة . نزلنا من الحافلة قليلاً، لا أثر يدلّ على الحياة، فقط من بعيد نرى قطيعاً من الأغنام. كنت أتعجّب وأتساءل في نفسي ماذا تأكل هذه الحيوانات؟ وسرعان ما اكتشفت الإجابة، فقد نمنا ليلة في الصّحراء، وفي الصّباح تمشّيت في المنطقة فوجدت زهوراً برّيّة ونوعاً من العشب لو عصرناه لخرج منه سائل كثيف، كم هي مذهلة رحمة الله التي تعتني بالكائنات حتى في هذه الأماكن القاحلة!

اللّيالي هنا باردة حدّ التّجمّد، عبثاً حاولنا النّوم في العراء، ولم يساعدنا التّغطّي بالألحفة وارتداء المعاطف، فعند منتصف اللّيل عاد معظمنا إلى الحافلة مرتعدين من البرد.

السعودية

الدّخول إلى تبوك يعني نهاية معاناتنا مع الصّحراء، ولكن بدأ صراع تفتيش الأمتعة والجوازات، الشّرطة المتشكّكون المتعلّمون بالخبرة، يبحثون خصوصاً عن الممنوعات مثل الكحول والحشيش، ولأجل هذا علينا فتح كلّ أمتعتنا ونحن في حال بالغة من التّعب والإنهاك بسبب  الطّريق الطّويل، ولا مهرب من هذا، فهؤلاء الشّرطة بجلابيبهم وعمائمهم لا يتكلّمون كثيراً، ولكنّهم ماضون في عملهم بدأب وجدّيّة، مختار المدينة دعانا لعشاء شرقيّ، كانت جلسة لا تنسى.

عدنا ثانية للطّريق، ولكن بعد تبوك اختفى التّعب والإرهاق وبدأنا في التّرقّب لوجهتنا المقبلة، المدينة المنوّرة.

توقّفنا لهنيهة في تيماء، ثمّ خيبر المشهورة منذ أيّام صدر الإسلام، حيث وجدنا أراضي مزروعة وأوّل بطيخة نراها منذ بداية رحلتنا! عرض علينا الطّلبة الشّباب أن يصطحبونا لمشاهدة القلعة القديمة، ولكنّنا اضطّررنا للرّفض لأنّنا كنا متلهّفين للوصول إلى المدينة.

المدينة المنوّرة

على شفير المدينة، استوقفتنا قوّة أخرى من الشّرطة وهذه المرّة لتفقّد جوازاتنا فحسب، كنّا نغلي من قلّة صبرنا، فمنارات مسجد الحبيب، عليه الصّلاة والسّلام، تبدو من بعيد، ونحن لم ندخل بعد! ننظر إليها ونهمس بالصلاة والسّلام عليه وألسنتنا لا تتوقّف عن الدّعاء.

أخيراً أصبحنا داخل المدينة وذهبنا أوّلاً للبيت الذي أعدّه لنا الدّليل، اغتسلنا بسرعة، ورغم الإجهاد مضينا عبر السّوق للوصول إلى الرّوضة المطهّرة ‪.

الطّرقات كانت مليئة فوق طاقتها بالرّجال والنّساء، وجميعهم قاصدون نفس الوجهة. وصلت لما أبغي، وتنتصب أمامي عمارة مهيبة بأبعاد هائلة وأربع منارات، كان وقت الصّلاة قد حان ، وكلّ السّاحات والطّرقات إلى المسجد تحوّلت لمصلّى، كم هو مشهد رائع! منذ لحظات كان هذا المكان يمتلئ بشؤون الدّنيا وتحوّل الآن إلى صفوف من المصلّين لا صوت لها يستمعون بخشوع لتلاوة الإمام.

كلّهم توحّدوا تحت فكرة واحدة، التفكير بالله ونبيه، جاءوا من كل الأنحاء للزيارة. ليس سهلاً الدخول للمسجد فهو دائماً ممتلئ، ولكن بقليل من الجهد، استطعت الدخول .

دخلت مع أحد الأحباب، ونجحنا بالوصول إلى حيث يرقد رسول الله وحضرة أبي بكر وحضرة عمر، حالة النّشوة التي اعترتنا عند دخولنا المسجد وصلت الآن لذروتها. هنا يغشانا السّكون بشكل كلّيّ، النّاس يقفون هنا بلا حراك، مستغرقين في تذكّر محمد، عليه الصّلاة والسّلام،  وصاحبيه العزيزين، الذين اجتمعوا في مكان وفاتهم كما كانوا مجتمعين في حياتهم. نقف هنا ونتلوا بخفوت.

في وجداني تنهال صور عن الأيّام الأولى للإسلام، المشقّة المضنية التي كان عليهم أن يواجهوها، الشّجاعة الخارقة التي أظهرها النّبيّ، عليه الصّلاة والسّلام، وأصحابه، الثّبات والصّمود حتى النّهاية. هنا الرّجل الذي نال شرف أن يكون خاتم النّبيّين، هنا الرّجل القدوة والمثال لأكثر من ستمائة مليون مسلم، ولكنّه في النّهاية بشر، وكان لا بدّ أن يموت.

ومثل هذا الرّجل الاستثنائي  والذي جاء لمهمّة استثنائية كان لا بدّ أن يحاط بأشخاص استثنائيين، وهكذا كان أبو بكر وعمر و عثمان وعليّ وحمزة، رضوان الله عليهم، وغيرهم من الصّحابة الكرام الذين لولاهم لما تخيّلنا انتشار الإسلام ‪.

العصور العظيمة تمنحنا أشخاصاً عظماء، والعكس صحيح، الأشخاص العظماء يصنعون عصوراً عظيمة، ولذا أمكن تفسير كلّ تلك المحبّة التي يدين بها المسلمون للرّسول، عليه السّلام وصحابته.

في «جنّة البقيع» استمرّرنا في استعادة ذكرى اللّحظات التّاريخيّة، زرنا قبور آل بيت النّبيّ، عليه الصّلاة والسّلام، وكذلك زرنا بعدها مقبرة «أحد» التي احتوت الأبطال على رأسهم الأسطورة حمزة بن عبد المطّلب، رضي الله عنه، كلّ هذا يوقظ قلب المؤمن، ودموعي تسقط لوحدها عند ذكري لهؤلاء، المتفرّدون في حياتهم وفي مماتهم.

وينبغي أن أسجّل هنا ملاحظتي على هذه المقبرة ومثيلاتها، أتفهّم مبدأ عدم تعظيم القبور في المذهب «الوهّابي» وأجده موافقاً لمبادئ الإسلام، ولكن رأيت في تطبيقهم له مبالغة، المقبرة يمكن أن تكون أكثر ترتيباً وجمالاً، لم لا يكون هناك شاهد قبر بسيط على قبر كلّ صحابيّ يعرّف به، ويجب إضافة شيء من الخضرة إلى المقبرة لأنّ هذا أصبح ممكناً في أيّامنا.

مكّة المكرّمة

بعد زيارة المدينة المنوّرة وحالة النّشوة الرّوحيّة التي يعيشها الحاجّ هناك، توجّهنا لمكّة، حيث الشّوق والمشاعر الرّوحية تزداد وتبلغ القمّة، هنا المقصد النّهائيّ للحاجّ: الوصول لبيت الله، المكان الذي أنشئ فيه أوّل حرم، حيث الإنسان بدأ عبادة الله بتطبيقه لأمر الحجّ، المركز الرّوحيّ لجميع المسلمين في العالم. وحتّى لو كنّا دائماً بمعيّة الله وقربه، فالإنسان هنا يحسّ بشكل غريزي أنّه أكثر قرباً من الله جلّ شأنه، لأنّه في هذه البقعة الصّغيرة على الأرض يكون تركيز الموجودين الكلّيّ حول ربهم، عزوجلّ، وحول التّقرّب إليه قولاً وعملاً.

نحن في ملابسنا الإحرام منذ مرورنا بـ«ذي الحليفة»، ومقصد الجميع على الطّريق إلى بيت الله الحرام، وأنهار من البشر تجري لذلك المقصد بلا توقّف.

لا يخلو الحرم الشّريف من النّاس طوال أربع وعشرين ساعة، لا ليلاً ولا نهاراً، ولا حتى نصف خلوّ. بالنّسبة لي كنت آتيه بعد منتصف اللّيل نحو الواحدة أو الثّانية، ولكن لذهولي كنت كلّ مرة أجد الحرم مليئاً، الطّواف يتمّ بكثير من الجهد، ولكنّه أقلّ إجهاداً حينما يتمّ في السّويعات الأخيرة قبل الفجر. أداء الطّواف هو معجزة بسبب العدد اللّامتناهي من النّاس، وخاصّة لمّا يأتي الطّائفون في مجموعة تسحب كلّ ما أمامها، أو لمّا يكون بصحبتك امرأة أو شيخاً كبيراً في السّنّ، هنا تكون متهيئاً لكلّ الاحتمالات، وأغلب الحجّاج يعرفون هذا، فيحتملون كلّ الصّعوبات .

السّعي بين الصّفا والمروة أقلّ إجهاداً، المسافة التي يجب قطعها تقارب كيلومتراً ونصف ، وهي كبيرة نسبياً مع التّزاحم الذي يحدث عند نقطتي البداية والنّهاية: الصّفا والمروة، وكلّ هذا يحتمله الحاجّ باحتساب، لأنه في أيّام الحجّ يكون الصّبر خير زاد.

أيّ طريقة لتخفيف الزّحام
داخل الحرم الشّريف لن تنفع بشكل كامل لأنّ هناك عدداً هائلاً من النّاس يريدون أن
يكونوا في مكان واحد وبوقت واحد.

في مكّة بالنسبة لحجّاج شعبنا الحرارة لا تطاق (تصل أحياناً إلى 60 درجة!)، وكذلك طعامهم المتبّل ببهارات عديدة وروائح مميّزة لكنها غير مستساغة لنا، وحتى القهوة السّوداء لديهم مختلفة عن التي لدينا، ولكن سوق مكّة حافل بالفواكه ذات الجودة العالية والخضار، واللّبنة والجبنة بنوعيّات مختلفة. أفكّر كيف أنّه سيكون مربحاً جدّاً أن يأتي مع الحجيج البوسنيّين حاجّ يتقن الطّبخ، فيعدّ لنا الشّوربة و«البيلاف» ويحضّر شراب الخشّاف من الخوخ وغيره من الفواكه، لقد افتقدت طعام بلادي، ولكن لحسن حظّي وجدت حليباً دافئاً يباع فأتناوله صباحاً للفطور، وأيضاً وجدت نوعاً لذيذاً من اللّبن الحامض.

شيء ما لفت نظري في جموع الحجّاج القادمين، أنّ أكثرهم جاءوا من الرّيف وأقرب للبساطة، هكذا بدوا لي من سلوكهم وهيئتهم، وكذلك متمسّكين بمجموعتهم، فمن النّادر احتكاك الحاجّ بمجموعة مختلفة أو بجنسيّة أخرى، بالطّبع لأنّ لا أحد يعرف لغة الآخر. لا يعدم وجود متعلّمين مثقّفين من بين الحجّاج خصوصاً القادمون من دول الباكستان، وإندونيسيا، وسوريا، والمغرب ، وتونس، والسّودان ولكنّهم ضائعون بين جموع الآخرين ولا أثر لهم .

ما السّبب في ذلك؟

كم سيكون الحجّ محقّقاً لمقاصده الفعليّة بأعلى مستوى لو شارك في هذا التّجمّع مفكّرون من مجالات مختلفة، أو رجال كبار في مهنهم «اقتصاديّون، رجال أعمال، تجّار…» ألن يكون الحجّ وقتها فرصة لتكوين رابطة بين البلاد الإسلاميّة على أساس مصالح مشتركة بينها؟ ألا يستطيع أعضاء مهمّون في مجالاتهم «السّياسيّة، والاقتصاديّة، والثّقافيّة» أن يضغطوا على أنفسهم قليلاً ويحضروا هذا «الكونغرس» الأكبر للمسلمين؟ كيفما أديرها في ذهني أجد المسلمين في ضياع، وينعكس هذا الضّياع بشكلٍ فرديّ على كلّ واحد منهم.

عرفات ومنى

الوفود لعرفة تجربة خاصّة ولها معنى وسحر مختلفان، والإفاضة إلى منى مشقّة كبيرة وتستغرق ليلة كاملة، بدلاً من نصف ساعة بالسيارة في الأحوال العادية، ويعود هذا ربّما لأن منى تقع بين جبال، وعدد مهول من المركبات، ومئات الآلاف من الناس يسرعون ليصلوا المكان في الوقت المحدد، وهنا يتحمّل راكبو الحافلات والعربات العبء الأكبر لأنّ نهر النّاس المترجّلين يستطيع التّغلغل بين المركبات بصورة ما والوصول للوجهة.

الجيّد في الأمر أنّه
يحدث ليلاً، فلا شمس حارقة تلفح رؤوس الحجّاج المكشوفة، ومن حسن تنظيم الحكومة السّعودية
أنّها وفّرت عدداً كبيراً من حنفيّات الماء للشّرب فلا يظمأ الحجّاج ويتبرّدون قليلاً.

ومع كلّ هذه الاستعدادات لتتحرّك كتلة النّاس بنظام من نقاط شرطة، سيّارات الإسعاف القادمة من شتّى الدّول الإسلاميّة، ومع ذلك لا يعمل كلّ شيء كما يرام. فكثير من الحجيج يضيع هنا ويفقدون طريقهم، ولا يجدون علامات أو شواهد تدلّهم على الطّريق.

العودة

عدنا لمكّة، وهي مثال للازدهار، نجد فيها  مظاهر التّقدّم العمراني، كالمباني الحديثة، والفنادق، والمستشفيات، والمدارس مع حدائق وساحات. وفي المدينة توجد جامعة إسلاميّة، وأشعر بصورة ما أنّ هذه البلاد تتقدّم للأمام. بكثير من التّأثّر غادرنا مكّة،وأحسست في المدينة المنوّرة بأن الحرارة ألطف من مكّة.

كان طريق عودتنا سريعًا، وصلنا قبل الوقت المحدّد بيوم. كان حظّنا جيّداً جدّاً بصورة لا تصدّق، إذ وصلنا دمشق صبيحة اليوم الذي غزت فيه قوّات الاحتلال الإسرائيليّة الأردن، ممّا يعني أنّه كان بالإمكان أن نتعرّض لقذائف «محبّة السّلام» الأكذوبة الإسرائيلية.

مررنا في طريقنا بأنقرة، بتنا فيها وبدت عاصمة حديثة لتركيا، ثمّ ذهبنا لإسطنبول وهناك التقينا بأوّل أناس من أرضنا عادوا من الحجّ مثلنا، وشممنا رائحة الأحباب قد اقتربت.

وبعد مبيت  في صوفيا عاصمة بلغاريا، وفي الثّلاثين من مارس  وصلنا إلى بوسنة الغالية التي تقنا لها طويلاً،
وكان بانتظارنا حفل استقبال من حشد كبير في زفورنيك، ومن بعدها توجّه كلّ واحد في مجموعتنا
إلى مدينته، وكان وداعاً حارّاً.

والحمد لله الذي منحنا نعمة الصّحّة وإلإمكانات المناسبة لنذهب ونعود بعافية لبيوتنا.الحجّ فريضة رائعة تستحقّ أن يتعب الشّخص لأجلها، وأسأل الله أن يتقبّل حجّنا، وسأذكر ما حييت الأيّام البهيجة التي قضيتها في المدينة المنوّرة ومكّة المكرّمة، وأدعو الله أن يمنح الصّحّة والعمر المديد لحجّاجنا، والعزيمة والعمل الصّالح ليبقوا مستحقّين لهذا الاسم.



*

إشارة للبشناق الذين هاجروا من البوسنة إلى تركيا وأنحاء مختلفة من البلاد العربية هروبًا من حكم الإمبراطورية النّمساوية- المجرية الذي فرض عليها عام 1878.