عندما تراه في أرض الملعب، ترى شعلة من النشاط وحركية كبيرة تكاد طاقتها لا تفنى ولا تزول. تراه في كل مكان، في الأمام والخلف، وعلى اليمين واليسار، يساعد فريقه وزملاءه في الهجوم والدفاع.

يتبادر إلى ذهنك كيف بإمكانه أن يكون بهذا النشاط، ومن أين يستمد هذه الطاقة الكبيرة. الأمر نفسه حصل لعائلته في صغره، «دي ماريا» لم يختلف كثيرًا عن «أنخيل» الطفل. كان طفلًا شقيًا فرط النشاط لا يمكن تحمل إزعاجه. يكسر كل شيء أمامه ويقلب المنزل رأسًا على عقب.

كل هذا تغير بعد نصيحة من أحد الأطباء جعلت من الطفل الأرجنتيني لاعبًا كبيرًا في شبابه وركيزة أساسية في منتخب بلاده. الطبيب نصح والدته بإدخاله عالم الرياضة من بوابة كرة القدم كي يفرغ هذا النشاط فيها، بدلًا من التوجه إلى لعبة أخرى قد تزيد من شراسته. نصيحة جعلت من هذا الشقي الصغير شخصًا مختلفًا، كل هذه العصبية والنرفزة تحولت إلى قصة جميلة غيرت من قدره ومصيره بعد أن بدأ بلمس الكرة والتعود عليها.

منذ سن مبكرة كان ابني كثير الحركة ونشيطًا للغاية، لدرجة أن طبيبنا أخبرنا أنه يجب أن نجعله يمارس الرياضة لتهدئته. بدلًا من الكاراتيه، فضلنا كرة القدم لأنخيليتو





«ديانا هيرنانديز» – والدة «أنخيل دي ماريا».


في روزاريو بدأت القصة

ولد «أنخيل» في مدينة «روزاريو» التي كانت على موعد مع نجم رياضي مستقبلي جديد بعد أن جلبت عديد النجوم سابقًا أمثال «كيلي جونزاليس» و «لافيتزي»، وأكثرهم مهارة وشهرة «ليونيل ميسي». ولد في الـ14 من فبراير/شباط عام 1988، كان الأرجنتيني بمثابة الهدية الجميلة لعائلته في يوم عيد الحب.

بعد النصيحة التي تلقتها العائلة من الطبيب، قامت «ديانا» بتسجيل طفلها وهو في سن الرابعة بنادي «ال- توريتو» لكرة القدم، والذي يقع في الحي المجاور. كانت والدته تقوم بإيصاله يوميًا بواسطة الدراجة الهوائية إلى مركز تدريبات النادي. رحلة كانت تأخذ نصف ساعة من الزمن، لكن كانت تستحق كل هذا العناء من أجل طفلها. كانت

الأم دائمًا تخبر طفلها

عند المرور بجانب ملعب نادي «روزاريو سنترال» بأنه سيلعب هناك في يوم من الأيام.

لم يكن هذا الشقي بحاجة لكثير من الوقت كي يبهر الجميع بقدراته وسرعته العالية بالنسبة لعمره الصغير. خلال عامين فقط تمكن «أنخيل» من تسجيل 65 هدفًا كانت كافية لسرقة اهتمام جميع مدربي الفئات السنية وكشافي الأندية الأخرى.

دي ماريا, روزاريو سنترال, الأرجنتين

عقد دي ماريا مع روزاريو سنترال

في إحدى المباريات أمام نادي روزاريو قدم الموهوب الصغير مردودًا مميزًا للغاية، سرعان ما طالب مدرب روزاريو رئيس نادي «ال- توريتو» بالتوقيع معه. ما الصفقة التي اتفق عليها، وبماذا طالب «جورج كورينجو» رئيس النادي لإتمام الصفقة؟ 26 كرة قدم فقط، و

قال جورج

بأن ناديه لم يحصل على قيمة الصفقة، وأن الكرات لم تصل إلى وجهتها أبدًا. وقع «دي ماريا» على عقده عام 1995 مع روزاريو وهو في الـ7 من عمره، وبقي مع النادي طيلة مشواره المحلي حتى انتقاله إلى بنفيكا في 2007.

في ذلك الوقت، كانت قيادة «ال- توريتو» لا تعرف سوى القليل عن كرة القدم، وكان من غير المنطقي أن يأتي أحد الأندية للبحث عن صبي يبلغ 6 سنوات فقط. صبي بهذا العمر كان من السخيف أن تطلب لقاء مغادرته أموالًا في تلك الآونة!





«جورج كورينجو» –رئيس نادي توريتو.


الولد سر أبيه

كما الحال مع كثير من اللاعبين الآخرين، تتشابه القصص والبدايات دائمًا عن نشأتهم ومعاناتهم مع الفقر في بداية حياتهم. «دي ماريا» لم يكن مختلفًا عن البقية واختبر الظروف الصعبة ذاتها مع والديه وشقيقتيه.

خلال يومه الاعتيادي، كان أنخيل شخصًا خجولًا وضعيفًا جدًا، وبالكاد كان يتحدث، ولكن داخل أرض الملعب كان شخصًا مغايرًا لذلك الذي في خارجه. على الرغم من بنيته الجسدية الهزيلة والضعيفة -لدرجة أنهم لقبوه بالمكرونة بسبب نحافته- كان لاعبًا عدوانيًا يسعى للكرة ويرغب في تسجيل الأهداف دائمًا. ربما استمد هذه الطاقة من والده الذي كان يمني نفسه برؤية طفله يلعب الكرة ويحقق حلمه الذي لم يتمكن من الوصول إليه.

والده «ميغيل دي ماريا» كان لاعبًا مميزًا في صغره، وكما الآخرين حلم ذات يوم باحتراف الكرة واللعب لنادي ريفر بلايت الأرجنتيني، لكن إصابة خطيرة في ركبته خلال لعبه الكرة مع أصدقائه جعلت مشواره المهني ينتهي قبل بدايته وهو في الـ16 من عمره. ليتوجه الوالد للعمل في بيع الفحم ويتخذ منها مهنة لبقية حياته بعد تحطم أحلامه باكرًا.

ميغيل دي ماريا, ديانا هيرنانديز, دي ماريا, الأرجنتين

والدا دي ماريا

ونتيجة للوضع الاقتصادي السيئ اضطر الطفل الصغير وهو في سن العاشرة لمساعدة والده والذهاب معه إلى العمل. كان «أنخيل» خلال سنين قليلة مسئولًا عن تعبئة وتغليف أكياس الفحم وتوزيعها عبر المدينة، ليعود إلى المنزل في نهاية العمل متشحًا بالسواد وآثار التعب ظاهرة على محياه. حتى أنه كان في كثير من الأحيان

يصل إلى التدريب

ويده متسخة بسواد الفحم.

أعتقد أنني محظوظ بشكل كبير لأنني اتجهت إلى كرة القدم منذ صغري. في المدرسة كنت طالبًا سيئًا وبالتأكيد كنت سأفشل في إكمال دراستي. إن لم أمارس كرة القدم كنت سأواصل العمل في ساحة الفحم. أنا سعيد أيضًا لأني أفعل هذا من أجل والدي، أنا أعيش حلمه الآن





تصريح «أنخيل دي ماريا» عن حياته ووالده.


القطار لايمر مرة أخرى

بعد مواسم طويلة تدرج خلالها في الفئات السنية مع روزاريو، حصل «دي ماريا» على فرصته لتمثيل الفريق الأول في المباراة الختامية للموسم أمام أنديبينيتي عام 2005. «أنخيل زوف» مدرب النادي فاجأ الشاب الصغير من خلال استدعائه للمباراة مانحًا إياه تذكرة ستوصله إلى الحلم الذي انتظره كثيرًا هو ووالده.

بسبب تألقه مع الفريق الأول، قرر مدرب المنتخب الأرجنتيني تحت 20 عامًا ضمه للقائمة التي ستسافر إلى منافسات كأس العالم في كندا عام 2007. اغتنم الأرجنتيني الموهوب هذه الفرصة واستطاع فرض نفسه على التشكيلة الأساسية، وأوصل بصحبة زملائه بلدهم إلى لقب بطولة كأس العالم على حساب المنتخب التشيكي، بعد تسجيله 3 أهداف خلال مشوار البطولة.

تألقه في البطولة سلط الأضواء عليه ووضعه على شاشة رادار الأندية الأوروبية، واستطاع نادي بنفيكا ضمه مباشرة بعد انتهاء البطولة مقابل 8 ملايين يورو. فرصة لم يتردد برفضها أو التفكير بها، وخاصة بعد نصيحة والده الذي أخبره بأن القطار لا يمر إلا مرة وحيدة، وسيفوته القطار إن تردد في أخذ القرار.

وشم «أنخيل دي ماريا» الذي اتفق عليه مع أصدقائه.

قبيل مغادرته الأرجنتين إلى البرتغال، اتفق دي ماريا و6 من أصدقائه المقربين على

وضع وشم على ساعدهم الأيسر

فيها عبارة: «أن تولد في البردريل-شارع في روزاريو- كان وسيكون أفضل شيء حدث في حياتي».

الوشم بمثابة رمز لأنخيل وأصدقائه، ويدل على تعلقهم ببعضهم البعض وشعورهم بأنهم على مقربة من بعض رغم ابتعدت المسافات،وكذلك تعلقهم بموطن نشأتهم. بعد انتقاله إلى بنفيكا،

طلب دي ماريا من والده

التوقف عن العمل في بيع الفحم، واشترى منزلًا للعائلة ولشقيقتيه.


في ظل الملك

وشم دي ماريا, الأرجنتين

وشم دي ماريا, الأرجنتين

بعد الانتقال إلى بنفيكا، استمرت نجاحات الأرجنتيني الذي استدعي إلى قائمة المنتخب الأولمبي عام 2008، واستطاع تحقيق اللقب الأولمبي بعد عام واحد على تحقيق بطولة العالم. استمر بصعود سلم المجد درجة تلو الأخرى بتحقيقه لقب الدوري البرتغالي وكأس البرتغال، وتحقيق حلم أي لاعب بارتداء قميص المنتخب الوطني وتمثيله في كأس العالم، حتى الوصول إلى قمة المجد بانتقاله إلى ريال مدريد بعد نهاية المونديال عام 2010.

أربع مواسم يمكن وصفها بالناجحة مع ريال مدريد، توجها بألقاب عدة مع النادي الملكي كان آخرها لقب دوري الأبطال بعد موسم مميز للأرجنتيني، ومباراة نهائية خرافية قدمها أمام أتلتيكو مدريد أوصل فيها فريقه للقب المنشود منذ أعوام طويلة. لكن في نهاية الأمر خرج دي ماريا من الباب الضيق باتجاه إنجلترا، وفشل في حصد الإعجاب الذي يتلقاه كل من «كريستيانو رونالدو» و«جاريث بيل».


وبالمثل بالنسبة للمنتخب الأرجنتيني، يمكن اعتباره الأقل شهرة من بين «ميسي، أجويرو وهيغواين». رغم أنه قد تفوق عليهم جميعًا في نهائيات كأس العالم 2014، لكن مرة أخرى بقي دي ماريا في ظل الملك سواء على صعيد المنتخب والفريق، ويضعنا أمام تساؤل دائم ومتجدد: لماذا بحق الجحيم خرج من الريال وبقي آخرون؟ رغم أن الإجابة لا تحتاج إلى تفسير بسبب سهولة استنتاجها، فإن السؤال يحز في صدور المدريديين حتى أيامنا هذه.

حتى عند ذهابه لمانشستر يونايتد، كان انتقاله كنجم أول للفريق يخف بريقه جولة بعد أخرى بسبب عدم تأقلمه مع أجواء الدوري في البداية، وبسبب تصرفات «فان جال» وعدم معرفته بكيفية التعامل معه. دي ماريا لم يخرج من ظل فان جال، ولم يتمكن من الخروج من عباءة «خورخي مينديز» الذي سعى لنقله إلى الشياطين الحمر لإرساء قواعد جديدة لإمبراطوريته في مدينة مانشستر.

في عيد ميلاده الـ30، عاد «أنخيل دي ماريا» إلى مدريد، المكان الذي كان فيه الشخصية الرئيسية والأبرز في تحقيق لقب العاشرة للميرينجي، لم يمنحه إيمري الفرصة للمشاركة في المباراة، لم يمنحه الفرصة ليحظى بترحيب من جماهير سانتياجو بيرنابيو، لتبقى الأمور على حالها. دي ماريا في الظل كما اعتاد دائمًا!