كنا قد توصلنا في المقال السابق لتحديد المفاهيم المشكلة لحقل التوحيد المفهومي، والذي يمثل، مع مفهومي«البعث» و«الحساب»، النواة المركزية للنظام العقدي الإسلامي وفقا لخطاطة فضل الرحمن.وكنا أيضا قد توصلنا لكون هذه المفاهيم التي تشكل حقل التوحيد كانت قد تشكلت عبر عملية أرشفة متتابعة لعدد من القيم التي تمثل حقل الشيطان المفهومي. ومن هنا فإن هذه المفاهيم، وكما قلنا هناك، لا يمكن فهمها فهما جيدا إلا باستحضار الشيطان كحقل مفهومي؛ حيث أن كل مفهوم داخل حقل التوحيد المفهومي يمثل خطوة للابتعاد عن النظام العقدي الجاهلي عبر أرشفة الشيطان.

هذه المفاهيم التي توصلنا إليها -وإلى تعالقها التام بمفهوم الشيطان- عبر قراءة لبعض قصص القرآن، وعبر تحليل للحج كـ عيد/شعيرة ولشعائر الحج من إحرام ورمي للجمار، هي مفاهيم «التصريف كإعجاز»، «الوحي كإخبار وحيد واضح مصان عن حقيقة الواحد»، «الطاعة المشتقة من محض المديونية لله بالوجود».

ما نحاوله هنا وبعد هذا التحديد هو محاولة الوصول للعلاقات البينية التي تسري بين هذه المفاهيم داخل حقل التوحيد نفسه، بحثا عن هذا المفهوم المركزي داخل هذا الحقل. فإذا كان التوحيد كحقل يعد هو المفهوم المحوري في النظام العقدي الإسلامي، فإن محاولة تحديد المفهوم المركزي داخل هذا الحقل هي التي تصل بنا لتحديد هذا المفهوم الرئيس الذي يقوم عليه الكون التوحيدي الإبراهيمي كله، أي المفهوم المركز بامتياز.

محاولة تحديد هذا المفهوم وعلاقته بالشيطان هو هدف هذا المقال.


المفهوم المركز.. إعادة ترتيب مفاهيم حقل التوحيد

حين طرد الشيطاني من الكون التوحيدي بكل ما يمثله من مفاهيم، أصبح لله وحده الحق بالحديث عن المجهول الذي تم حصره في الحقيقة الإلهية عبر «الوحي» الذي صار بيانا.



تكونت المعرفة بالله توحيديا باعتبارها تلقيا لا اكتشافا، فنحن لا نكتشف الله بل نتلقى منه، لا نصعد إليه، بل ينزل الحقيقة إلينا

بهذا تكونت المعرفة بالله توحيديا باعتبارها تلقيا لا اكتشافا، فنحن لا نكتشف الله بل نتلقى منه، لا نصعد إليه، بل ينزل الحقيقة إلينا، وتحول الخطأ و الخطر في تبين الله لا لطبيعة تبيننا له بحيث يكون الخطر والحيرة جوهر كل تجربة كشف.بل تحول الخطر لنتيجة للإعراض عن سماع الصوت الإلهي، وهو صوت يخبر عن الحقيقة «لا تتنزل به الشياطين»، واضح وقوي مأمون من الخطر والخلط «منزل عبر جبريل القوي الأمين»، ومحفوظ من الشك ومن الغموض «تم رصد الشياطين ومنعها من التسمع والتشويش». بهذا يظهر لنا مفهوم الوحي كمفهوم واثق شديد الرسوخ، لكن هذه المعرفة الواثقة عبر الوحي والتي تميز الكون التوحيدي الإبراهيمي عن غيره تختلف تماما مع المفهومين الآخرين داخل حقل التوحيد نفسه، أقصد «الطاعة غير المشتقة سوى من المديونية لله بالوجود» و «التصريف الإلهي المعجز». فهذان المفهومان يفتحان الباب دوما للغموض على عكس الوثوق الكامن في تصور الوحي، حيث الإذعان لأمر لا تؤسسه أي قواعد، محفوف بخطر الاختراق الشيطاني باستمرار، كذا تغيير حال الطبيعة عن مألوف قوانينها محفوف بشبهة السحر الشيطاني. هذا يرجع لكون الشيطان و رغم تجريده من كل شيء، إلا إنه ظل يحتفظ ببعض صفات الإله التوحيدي(1)، أي الخفاء، والوسوسة التي تماثل الإلهام، والمفارقة للقواعد الكونية والأخلاقية.

لذا فكما يحاجج كريكجارد في «خوف ورعدة» فإن إبراهيم وقبله مريم كانا قد شكا في الصوت الذي سمعاه، حيث الأمر بذبح الابن ومعارضته لقواعد الأخلاق يفتح الباب للغموض والاختراق الشيطاني، وبالتالي للسؤال عن ماهية المتكلم، كذا إخبار البتول عن ولد ستضعه بلا أب، و معارضة هذا لقوانين الطبيعة يفتح الباب للسؤال، مما يعني الحيرة في «الأمر المراد طاعته» نفسه وفي «المعجزة».

يحتفظ لنا القرآن بصورة هذه الحيرة المريمية: «إني عذت بالرحمن منك إن كنت تقيا». لذا يحتاج النبي وإبراهيم ومريم لفترة، للتأكد أولا أن ما يسمعونه ليس مسا شيطاني حتى يتأسس على هذا التأكد من إلهية الأمر لا شيطانيته، ومن إعجاز الفعل لا سحريته، حتى يتم الامتثال/الإيمان بعد ذلك.

في جملة واحدة نقول إن «المفارقة» سمة الإله الإبراهيمي، والتي تمثل خصيصة مفهومة له، وتعني العلو على قوانين الطبيعة والأخلاق، فيما يجمله إلياد بقولته: «إله إبراهيم قادر على كل شيء»، التي تؤسس لغموض «التصريف/الإعجاز» و «الأمر غير المشتق من قانون» قد تؤدي بتشابهها مع الشيطان لغموض الصوت الإلهي الذي يشترط فيه أن يكون واضحا وخاليا من أي غموض حتى يتحقق الامتثال.

أي أن هذه السمة تؤدي لنفاذ الشيطان مرة أخرى داخل الكون التوحيدي بالتشويش على صوت الله.

إننا بهذا نقلب الآية، فمعنى هذا أن الوحي ليس مفهوما متعالقا بالتوحيد يشكل جزءا من حقل التوحيد المفهومي إلى جوار التصريف/الخرق والطاعة المشتقة من المديونية بالوجود، بل إن مفهوم التوحيد وما يتعلق به من تصريف وطاعة، هو الذي يمثل مفهوما متعالقا بالوحي؛ فالوحي «توحيد طريق الإخبار عن الواحد» هو المفهوم المركزي في الإسلام لا توحيد التصريف و لا توحيد الطاعة:

1. فتأسيس الوحي لنفسه ككلام إلهي واضح مأمون لمختار مصطفى منزه عن الغموض والخطأ، عبر أرشفة الشيطاني المتسمع والملهم، هو أساس تحديد كل أمر فوق أخلاقي كأمر إلهي لا شيطاني، أي هو أساس توحيد الطاعة.

2. كذلك هو أساس تحديد كل خرق كمعجزة لا كفعل شيطاني أي هو أساس توحيد التصريف، مما يجعله في حقيقة الأمر المفهوم المركز في النظام العقدي الإسلامي كله، فهو أصل كل المفاهيم الأخرى.

نحتاج بهذا أن نراجع خطاطتنا السابقة فنجعل الوحي محل التوحيد في خطاطة فضل، فتصبح نواة الإسلام المركزية هي «الوحي» «الحساب» «البعث»، ونجعل التوحيد كإعجاز واستحقاق للطاعة مفهوما فرعيا يدور حول هذا مفهوم «الوحي». فالوحي النداء الإلهي يمثل مركز هذا الكون الإبراهيمي. (بالطبع لا نحتاج طويل استدلال على كون مفاهيم «الحساب» و «البعث» هي مفاهيم متفرعة على الوحي أيضا، فهذه قضايا غيبية صرفة لا يمكن الإيمان بها إلا عبره مما يعني أنها لاحقة على تأسيسه ومتعالقة به)

كما أن علينا أن نراجع تقسيمنا للمجال القصصي في القرآن، حيث تتزحزح بهذا قصة السجود عن مركز المجال القصصي القرآني لتصبح قصة الجن هي المركزية التي تدور حولها قصة السجود و قصة إبراهيم و قصة موسى! فهي، أي قصة الجن، التي تحدد أهم مفاهيم الإسلام «الوحي»(2).

لكن وللمفارقة فإن هذا المفهوم صاحب المركزية المطلقة، أي الوحي، و الذي يشترط فيه أن يكون شديد الوضوح مما يبرر نفي التسمع والتشويش والتأكيد على سلامة الوحي عبر نقله بواسطة القوي الأمين القادر على صيانته، هو نفسه يحمل ذكرى حيرة وغموض، تمثل نصيب الشيطاني من كل وحي. فيبدو أنه، وفي كل وحي واثق، ذكرى تحير لا هوادة فيه.

وقد احتفظ لنا القرآن بهذه الحيرة في الآيات التي تورد ذكرى التسمع «إنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع»، كذا في حيرة مريم السابقة على التعرف على رسول الله إليها والظن بكونه شيطانا، كذا احتفظت لنا السيرة بذكرى الحيرة المحمدية في ماهية الهاتف هل هو شيطان أم ملاك، ولم يتم حسم الأمر إلا عن طريق ما يسميه التونسي بن سلامة برهان خديجة و المتمثل في حسر خديجة الحجاب عن رأسها وغياب الهاتف إثر هذا مما يؤكد ملائكيته(3).

لتصبح آيات التسمع كما الشهب في السماء كما برهان خديجة «أطياف الأرشيف» التي تؤكد على صحة الوحي ووضوحه، في نفس الوقت الذي تسجل فيه ذكرى غموضه واختلاطه وتعرضه للخطر، لتضعنا أمام حقيقة: كون المفهوم المركزي في النظام العقدي الإسلامي والذي يقوم عليه الكون التوحيدي، هو مفهوم لا يمثل الوضوح والثبات فيه إلا قمته الثلجية التي لم تستطع إخفاء كونه يضرب تماما بجذوره في بحر من الغموض و اللاتحدد.


إني شهيد

في قصة توفيق الحكيم «الشهيد»، يصور لنا الحكيم الشيطان رافضا للعنة التي أصابته وعازما على التوبة النهائية والعودة إلى الله، لكن يبدو أن الأمر ليس بالسهولة التي تصورها الشيطان، فقد أفضى الأمر إلى خيبات أمل متعددة، فقد رفض توبته الكاهن والحبر والشيخ، ولم يتغير الأمر بالعودة للسماء وطرق أبوابها، فقد رفضت السماء توبته أيضا لتنتهي القصة بسقوط الشيطان مطرودا من السماء مرة أخرى مرددا «إني شهيد .. إني شهيد».نستطيع إرجاع عنوان قصة الحكيم «الشهيد» لبعض القصص الصوفي عن عذوبة عذاب إبليس وتضحيته وتفضيله العذاب على السجود لغير الله مما يجعل موقفه أقرب للشهادة والتضحية؛ لكن هذا لا يتواءم و سير القصة.

فرغبة الشيطان في التوبة تعني إقراره بخطأه «كان لا بد لي أن أبصر الحق ذات يوم .. كان من المحتوم أن أحن إلى صدر الله يوما»، لكن هذا الرغبة الصادقة لم تشفع لإبليس فتردى شهيدا بمعنى آخر. فظننا أن الكلمة أي كلمة شهيد لا تعبر هنا عن معنى الشهادة-التضحية، فربما يقصد الحكيم (أو تقصد قصته! فللنص قصد كما يخبرنا إيكو) بهذه الكلمة، شهيدا بمعنى الشهود لا بمعنى الشهادة-التضحية.

فالشيطان هو الشهيد أي الشاهد في إدانة وكبت وأرشفة تعددية مفهومه (غموضه «الشاعر» وخفاؤه «الكاهن» وسحره «الساحر» وتمرده «إبليس»)، على وضوح وظهور ومعجزة قول الإله التوحيدي.

هذا الموقع الذي يتبوأه الشيطان كشاهد «أرشيف» هو ما يجعل المغفرة له أمر متعذر؛ فالغفران يعني تحرير الكبت، أي نزع الأرشفة «اللعنة»، وهذه الأرشفة شديدة الارتباط بنشأة الإله التوحيدي الإسلامي كما رأينا، فهي التي خلقت الحدود بين ما هو داخل الكون التوحيدي وما هو خارجه، مما يعني أن نزعها يضيع هذه الحدود -من هنا حديث الكاهن والحبر والشيخ ثم جبريل عن كون التوبة تهديد للنظام- فينفذ الشيطان للداخل مرة أخرى ويختلط الوحي بالمس، وبعدها الخرق بالسحر، والأمر الإلهي بالوسوسة، فتضيع معالم الكون التوحيدي الإسلامي.

من هنا يقاوم الإسلام أي نزع للأرشفة، في كلمة واحدة: إن الشيطان لا يغفر له بسبب «حمى الأرشيف» الإسلامية(4) والتي تتجلى في الرجم القصصي والشعائري المستمر للشيطان.


أرشفة الشيطان كجواب عن سؤال الأرواحية الإسلامية



ما يدفعنا إليه الشيطان ليس التفكير في الغفران بالأساس، بل التفكير في الاعتراف، ونزع الكبت والتصالح مع مكبوت كمحدد يجسد وضع حدي لا يمكن إلغاؤه

أثار عدد من الباحثين تساؤلات حول سبب دمج الإسلام للشيطان -والمفاهيم الأرواحية التي سادت الجزيرة بإطلاق (الجن والشياطين والسحر والقوى الخفية)- داخل منظومته التوحيدية، هذا لأن الأرواحية تعارض في رأي بعضهم التوحيد حيث لهذه القوى تدخل في التصريف وفقا لمعتقدات الجاهليين.

كما تعارض في رأي بعضهم قيم العقلانية التي قررها الإسلام حيث استمرار هذه التصورات يعني عندهم استمرار الخرافة، مما دفعهم للتساؤل عن سبب استمرار الأرواحية داخل الإسلام، ومن الممكن وضع ثلاثة عناوين كبرى لإجابات هؤلاء الباحثين عن سبب هذا الاستمرار.

أولا فكرة عدم قطع الإسلام تماما مع نمط الحياة البدوية واستمرار بعض عناصر هذه الحياة داخل الإسلام لتقتحم لا الشعائر «الحج» والتقويم «التقويم القمري بدلا عن الشمسي والنجمي» فحسب؛ بل كذلك بنى المقدس نفسه. وهو الرأي الذي يدافع عنه يوسف شلحت كتفسير لدمج الإسلام بعض المفاهيم الأرواحية السابقة عليه في تصوره للقداسة والمقدس والمدنس.

ثانيا فكرة ضرورة دمج الدين لعناصر الأرواحية حتى لا يتحول لدين عقلاني جاف، فكل دين حي يحتاج لعناصر أرواحية. وهو الرأي الذي يدافع عنه هاملتون جب والذي يسمي هذه العناصر بـ«العناصر الإحيائية».

ثالثا فكرة حاجة النص كي يؤسس نفسه داخل الثقافة إلى قبول مفاهيم هذه الثقافة والعمل على تعديلها تدريجيا دون رفضها بالكامل. وهو الرأي الذي دافع عنها نصر حامد أبو زيد في نقد الخطاب الديني، حيث يكون قبول مفاهيم الأرواحية، ومنها وجود الشياطين هو قبول يحتمه موقع النص في الثقافة كنص يبتدئ عمله كنص منتَج، ويكون الخروج منه خروجا تدريجيا عبر تغيير دلالي بطيء يخفي «مغزى» النص المتجاوز لحرفيته بإقرار قيم العقلانية والوضوح ونبذ التصورات الأرواحية «الأسطورية بمعنى الخرافية».

مشكلة هذه التصورات الثلاثة أنها تسحب علاقة الإسلام بالأرواحية لفضاءات خارجة عن تحليل مفهوم التوحيد نفسه، وعلاقته بالمفاهيم الأرواحية -الشيطان بالنسبة لمقالنا. بدلا عن هذا تصر على قراءة هذه العلاقة من خلال إشكالات البدوية/المدنية (شحلت)، الدين الرسمي/الدين الحي (هاملتون جب)، العقلانية/الخرافية (نصر).

في حين أن دمج الإسلام للشيطان في تصوراته غير مرتبط بالأساس بكل هذه الإشكالات المقحمة عليه إقحاما. إن دمج الإسلام للشيطان مرتبط كما حاولنا البرهنة طول هذه المقالات بتأسيسه لمفهوم «التوحيد» المركزي، وهذا الدمج الذي يقوم به الإسلام لا يمثل الإبقاء على هذه التصورات الأرواحية كما هي أو إخضاعها لمحض تغيير دلالي أو إعادة رسم علاقتها بالمقدس.

بل إن دمج الإسلام للشيطان كمفهوم أرواحي هو دمج يعمل على تعيين هوية جديدة للشيطان تجعله شهيدا/شاهدا، أرشيف يعطي للكون التوحيدي ملامحه و يتعذر إفناؤه أو الصفح عنه أو المغفرة له.

هذا الشيطان ليس بأي حال شيطان النظام العقدي الجاهلي ومفاهيمه الأرواحية، فقد تبدل تماما واكتسب معنى جديدا مرتبطا تماما بالكون التوحيدي الإسلامي.

إذن، وكما إنه لا يمكن المغفرة للشيطان لأنه ليس مجرد عاص بل أرشيف من قيم تهدد نزع أرشفتها بانهيار الكون التوحيدي، فكذلك لا يمكن الغفران له تأويليا -إن صح التعبير- بإنهاء مأساته عبر إلغاء وجوده هذا أو تقليصه لوجود طارئ مؤقت سببه استمرار البدوية أو تأسيس النص لنفسه أو بث الحياة في الدين، هذا لأنه وعلى العكس، مفهوم مرتبط جوهريا بالتوحيد الإبراهيمي متضافر معه بل محدد له.


لكن لماذا أصلا هذا الخلاف؟ هل الشيطان بوقوفه هناك على حدود الكون التوحيدي يطالبنا فعلا بالغفران أو النسيان؟

أظن ما يدفعنا إليه الشيطان ليس التفكير في الغفران بالأساس(5)، بل التفكير في الاعتراف، من حيث الاعتراف لا مجرد نزع الكبت إفصاحا عن مكبوت يظل مدانا، بل التصالح مع هذا المكبوت كمحدد يجسد وضع حدي لا يمكن إلغاؤه.

إن الشيطان بما تركه من أطياف على النص وبكشفه عن كون القيم المؤرشفة عبره هي مطمورات جبل الثلج الذي تمثل قمته مفاهيم التوحيد يدفعنا لا لغفران أو النسيان بل للتذكر و الاعتراف بـ: كون هذه القيم (الحيرة والشك والغموض والتمرد) الغائبة تحت السطح هي مكونات رئيسة على طريق سماع صوت الإلهي و العيش فيه. فهذه القيم كامنة حتى في أعمق نواة للكون التوحيدي، في مفهوم الوحي، المفهوم المركز بامتياز.


الهوامش:

[1] في تحليله لـ بنى المقدس في الإسلام في كتابه الذي يحمل نفس الاسم، يرى شحلت أن الإسلام احتفظ ببعض التصورات الدينية البدوية، فقد أخذ عنها الطابع الغامض والحميم للمقدس ص22، واستعاد الازدواج البدوي بين تعالي الإلهي وشيوعه بعد أن بدله في العمق ص11. هذا الشيوع للإلهي الذي يتميز به الإسلام وفقا لشلحت يجعل الإلهي وقواه مختلطا بقوى أخرى لا تقل غموضا هي القوى الشيطانية الخفية ص57. في مثل هذا الكون الغامض المختلط مقدسه «الإلهي الشائع وليس المتعالي» بمدنسه «الشيطاني الشائع» يختلط الوحي بالوسوسة مما يجعل من الهام تحديد معيار للتفرقة بينهما ص51.[2] لعل هذه الملاحظة تؤكد ما يذهب إليه الزاهي من أولولية السمع على العين، والكلمة على الجسد الطقوسي في الإسلام. والمفارقة هي الوصول لهذا بتحليلنا الطقس نفسه! انظر نور الدين الزاهي، المقدس الإسلامي، بدءا من ص39، تحت عنوان «الألوان القدسية لصراع العين و الأذن».[3] لـمالك بن نبي في الظاهرة القرآنية تحليل مختلف لهذه القصة. في هذا الكتاب يحاول مالك إثبات أحقية الوحي عن طريق البرهنة على كونه ظاهرة موضوعية لا ذاتية، بالتالي يرفض بن نبي تعريفات الوحي التي تجعل يقين الوحي نابعا من الشعور الذاتي للنبي بهذا اليقين. بدلا من هذا يعتبر مالك أن إيمان النبي بصحة الوحي لا يستند على شعوره الذاتي بل على تجربة موضوعية. من هنا لجوؤه لاستشارة خديجة من أجل إيجاد برهان على موضوعية الوحي، وقد برهن غياب الوحي وفقا لعامل خارجي هو حسر حجاب خديجة على استقلال هذه الظاهرة عن النبي أي على موضوعيتها.نظن أن هذا التحليل من مالك يحمل القصة أكثر بكثير مما تحتمل؛ فهذا التفريق الحاسم بين الموضوعي والذاتي وقصر الحقيقة على ما يتصف من الظواهر بالموضوعية، أي الاستقلال عن الذات، هو تفريق حديث، يصعب علينا القبول بتحكمه في تصورات النبي. الغريب أن مالك على شدة نقده طوال الكتاب للذين ينطلقون من المنهج الديكارتي (الذي يفسر كل شيء بمعيار أرضي ص85) لنفي الوحي فإنه لا يخرج عن تصوراتهم: فإذا كانوا هم ينفون الوحي لذاتيته وارتباط هذه الذاتية عندهم بالوهم والخيال في مقابل اليقين الموضوعي، فإن مالك يشاركهم تماما نفيهم للذاتي حين يصر على الإمعان بإدانته ونفي أي عنصر ذاتي في الوحي.يتضح هذا إذا قارنا محاولة مالك بمحاولة ولتر ستيس مثلا لإثبات أحقية الظواهر الروحية. فهذا الأخير لجأ للتساؤل عن شرعية التفريق بين الذاتي والموضوعي، وتساءل كذلك عن مشروعية رمي الذاتية بالوهم، وحين رسم تصوره لعالم الأزل الذي يتعلق بالظواهر الروحية التي يدافع عن أحقيتها، اعتبر أن هذا العالم يخرج عن تصنيفات الذاتي والموضوعي الخاصة بعالم الزمان، وقد توصل لهذا عبر تحليل وقائع الخبرة الروحية، فكل وصول لإثبات أحقية ظاهرة ما مرتبط ببحث حقيقة هذه الظاهرة، (انظر كتاب ستيس الزمان و الأزل، كذلك التصوف والفلسفة الفصل الثالث «مشكلة المرجع الموضوعي» تحت عناوين: برهان الإجماع، تجاوز الذاتية، الشعور بالموضوعية)؛ وهو مالم يفعله مالك.حيث وبدلا من بحث حقيقة الوحي، اكتفى بدمجه في التصور المعرفي الوضعي وما يبطنه من فصل بين الذات والموضوع وإدانة للذاتية، حتى تحول النبي محمد في ظن مالك لرجل ذي ذهن موضوعي (يتكرر هذا اللفظ كثيرا في طيات كتاب مالك في وصف فكر النبي) ينكر الذاتية ويبحث عن دلائل موضوعية للظواهر، و يمارس الشك المنهجي (ص157) كأي ديكارتي حصيف. إن قصة خديجة لا تتعلق في ظننا بذاتية أو موضوعية ظاهرة الوحي، بل بإلهية الوحي أو شيطانيته، فالنبي لم يشك فيما سمع، و لم يسأل عن الذاتي والموضوعي -حيث هذا سؤال خاص بالقرن السابع عشر- بل النبي وكما تذكر القصة شك هل ما يسمعه شيطان أم ملاك؟ هل هو مسحور أو مبعوث؟ كان برهان خديجة جوابا على هذا التساؤل شديد التحديد.[4] حمى الأرشيف وفقا لـدريدا تنتج من دافع الحفظ والصون لما يتم أرشفته، والخوف من ضياعه و تبديده. (جاك دريدا: حمى الأرشيف، ص36).

[5] في خاتمة دراسته عن الشيطان، يعتبر فتحي المسكيني أن كل تدين محارب هو ثأر أصلي من الشيطان، آدم-المضاد. فـآدم-المضاد الذي نحمله في كينونتنا هو سر شيطنة الآخر. لذا يقترح المسكيني بدلا من هذا أن ننسى آدم-المضاد، فهذا هو الطريق إلي توبة جيدة؛ توبة لا تحاسب أحدا، وتنجح في صنع هوية تحمل الإنسانية على الإنصات إليها ثم الاعتراف بها كجزء من ماهيتها. بعيدا عن تفاصيل دراسة المسكيني وأهدافها، فإننا نتساءل عن معنى النسيان هنا: هل هو مجرد الصفح عن آدم-المضاد؟ إن الصفح لا يعني النسيان كما يعلمنا إيكو، فالنسيان هذا في رأيه هو مصدر العصاب. فهل يقصد فتحي بالنسيان إذن ما هو أكبر من الكبت و من الصفح؟ هل يعني التصالح و الاعتراف بآدم-المضاد كجزء أصيل منا؟