صمتت «سمية عمرو» هنيهة بعدما غلبتها دموعها وأردفت قائلة: «إن مرض الاكتئاب في مجتمعنا يمثل وصمة عار على صاحبه، وأتعجب لماذا؟ هل نُعيِّر من كُسرت قدمه أم نعالجه؟»

كماء منهمر، تتدفق الأفكار الانتحارية إلى رأسي، لا أقوى على السيطرة عليها، قطعاً لا أحد منَّا يريد أن يفقد حياته، أو أن يسعى لإنهائها بملء إرادته، الحياة غالية، ولكنها أفكار تسطو على دماغي، ولا أتمكن من طردها، وبالفعل أقدمت على الانتحار عدة مرات، ولولا أسرتي، لأمسيت الآن في عِداد الموتى.

هكذا عبرت سمية عن نفسها ومعاناتها مع مرض الاكتئاب في فيديو قصير لا تتعدى مدته الخمس الدقائق عبر صفحتها الشخصية على فيسبوك، وهنا قررت أن أتواصل معها وأبحث عن تعريف الاكتئاب وأسبابه وعلاجه وتأثيره على الفرد وبيئته.

ما هو الاكتئاب؟

تُعرِّف

منظمة الصحة العالمية

الاكتئاب على أنه تفاعل بين العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية، وقد يُصاب
الشخص بالاكتئاب نتيجة فقدان أشخاص في حياته أو المرور بصدمات نفسية.

يقول د. «أحمد علي مصطفى»، استشاري الطب النفسي وعلاج الإدمان في المستشفى الجوي التخصصي: «أصبح من اليسير الوصول إلى العوامل المؤدية للاكتئاب، فهناك عوامل جينية، وعوامل بيئية وبيولوجية؛ وقد أظهرت بعض الدراسات أن مركز الانفعال في المخ لا يعمل بنفس الكفاءة أثناء الاكتئاب، إذ تتغير مستويات الموصلات العصبية به مثل مادة السيروتونين والدوبامين، والتي تؤثر على الحالة المزاجية، فيشعر الإنسان بالحزن البالغ والنظرة الدونية للنفس والتشاؤم والإحساس بالعجز والشعور بالذنب والرغبة في الانعزال عن الناس وقلة الهمة وفقدان الاستمتاع بالأشياء والعمل والانتقاء السلبي».

ويوضح د. أحمد علي أن أغلب زوار الأطباء النفسيين من النساء، ويعود سبب ذلك لسبب الطبيعة البيولوجية وتغير الهرمونات أثناء الدورة والحمل، وتبلغ نسبة الإناث اللائي تم تشخصيهن بالاكتئاب 1:3 نسبة إلى الذكور، أي أمام كل رجل يتوجه إلى الطبيب تذهب ثلاث سيدات له.

الاكتئاب والتحكم في الانفعالات

ويرى «

ألبيرت إليس

»، مؤسس المدرسة العقلانية في العلاج النفسي السلوكي، أن أفكار الفرد
ومعتقداته هي التي تؤثر على صحته النفسية فتسلبه طاقته، ويدخل في نوبة من لوم
الذات على الانفعالات غير المنطقية التي تصدر منه، فبدلاً من محاولة تقييم المواقف
بطريقة عقلانية وإيجابية، ينغمس الفرد في وصلة من لوم الذات وتقريعها، ومن ثَمَّ
تظهر عليه أعراض الاكتئاب والخوف واليأس والغضب.

يقول دكتور أحمد علي: إن «الشعور بالذنب والاكتئاب عبارة عن دائرة مفرغة، مثلاً قد تشعر الأم بالتقصير تجاه أبنائها فتكتئب، والاكتئاب بدوره يثبط من عزيمة الفرد ويحد من نشاطه، فتُهمِل الأم أبناءها وهكذا …».

ويُمكن القول بأن أبرز الأعمال الدرامية التي صورت تأثير الشعور بالذنب ولوم النفس والاكتئاب على الأفراد إلى درجة قد تودي بحياتهم، فيلم The Professor and the Madman، وهو مأخوذ عن قصة حقيقية لطبيبٍ ساهم في تأليف الإصدار الأول لقاموس أكسفورد في بداية القرن العشرين. وجسَّد الفيلم معاناة الطبيب مع مرض الفصام والشعور بالذنب، حتى إنه حاول مرات عديدة الانتقام من نفسه الآثمة بالعنف تجاه جسده تارة، وبمحاولات الانتحار تارة أخرى، وللأسف لم يتلقَّ الدعم النفسي والعلاج الصحيح؛ لأن الطب النفسي حينها كان مثل طفل صغير يحبو.

بداية الرحلة

تشرح «سمية»:

أعتقد أن تسلسل الأحداث بدأ منذ طفولتي، أتذكر أن أول ما قاسيت منه هو حرماني من والدي، كنت في التاسعة من عمري حينما قرر السفر خارج مصر بغرض العمل لتأمين حياتنا الأسرية، كان لغيابه وقع شديد السوء على نفسي، فقد كنت متعلقة به وقريبة منه، وفي هذه الفترة انشغلت أمي أيضاً بالعمل والسفر أحياناً، فشعرت بالوحدة.

بدأت رحلة «سمية» مع الاكتئاب في عمر الـ 17 عندما لاحظت أن لديها أفكاراً انتحارية، وأنها تغضب بسهولة من أقل شيء، ولا تقوى على التحكم في انفعالاتها، ما أثَّر بالسلب على علاقاتها مع أصدقائها وعائلتها، وفي لحظة معينة، قرَّرت سمية أن عليها التحدث إلى والديها لطلب الدعم والمساعدة.

استطردت «سمية»:

أدركت أن ثمة مشكلة يجب أن أعيرها اهتماماً، كنت حينها في الثانوية العامة، تأثرت دراستي، وكان الحزن مُلازماً لي طوال الوقت، ولكن لحسن حظي، تفهَّم والداي شكواي وقرَّرا أنه عليَّ زيارة طبيب نفسي. ولم تكن رحلة البحث عن طبيب نفسي باليسيرة، فأول طبيب ذهبت إليه لم يسمعني جيداً، ولم تكن تجربتي حسنة معه على الإطلاق، بعدها، ترددت على أكثر من طبيب إلى أن وجدت ضالتي.

كيف نقلل من أعراض الاكتئاب ونحافظ على صحتنا النفسية؟

عمري الآن 24 عاماً، رحلتي مع الاكتئاب طويلة حقاً، لا سيما وأنه تم تشخيصي باضطراب الشخصية الحدية، هذا الاضطراب الذي يتسبب في اختلال حالتي المزاجية واستقراري النفسي؛ فأشعر بين الفينة والأخرى بالسعادة والتعاسة وتوجيه الأذى للنفس والتفكير في الانتحار، وأكثر ما ساعدني أنني لجأت لكتابة القصص القصيرة والشعر للتعبير عن أفكاري ومشاعري وتجاربي طوال 7 سنوات خلت.

دائماً ما ينصح الأطباء النفسيون مرضى الاكتئاب باللجوء للكتابة، وذلك

حسب دراسة نُشرت في دورية

Journal of Health Psychology عام 2005، تفيد بأن للكتابة دوراً فعالاً في رحلة تعافي مريضات الاكتئاب (خاصة اللاتي تعرضن للعنف الجسدي).

ويقول د. أحمد علي: «ثمة أشياء قد تساعد في التغلب على بوادر الاكتئاب الخفيف؛ منها الطعام الصحي المتوازن الغني بالأوميجا 3 والفيتامينات المتنوعة ومادة السيروتونين. ومنها تربية الحيوانات الأليفة، وممارسة الرياضة، واكتشاف القدرات الشخصية على الإبداع في أي هواية، كالموسيقى والرسم والتصوير، وكذلك اللجوء للاسترخاء والتأمل قد يكون مفيداً للغاية، ولا بد من أخذ القسط الكافي من النوم».

الاكتئاب الحاد والتأخر في طلب المساعدة

في الآونة الأخيرة، تواترت إلينا أخبار مؤسفة عن انتحار
شباب في العقد الثالث من عمرهم، وكان ما يجمعهم هو معاناتهم من الاكتئاب الحاد، وقد
أشارت منظمة الصحة العالمية إلى أن 92% ممن يعانون من الاكتئاب لديهم أفكار
انتحارية.

يقول د. أحمد علي: «إنه يتعين على من يشعر بالحزن بدون مبرر أو فقدان الاستمتاع بالحياة أو كسل وعدم الرغبة في الذهاب إلى العمل واختلال القيمة الذاتية، أن يلجأ فوراً إلى الطبيب النفسي إذا استمرت هذه الأعرض لمدة تزيد على الأسبوعين، وإلا فسيتطور الأمر إلى استسلام المريض للأفكار الانتحارية، وقد يجنح لهذه الأفكار ويخسر حياته».

ويُشدِّد د. أحمد علي على أن المرض النفسي مرض كأي مرض عضوي آخر وليس له علاقة بضعف الإيمان، فمرض السكري أو السرطان يصيب المؤمن والكافر، الصالح والطالح. بالطبع يلجأ المؤمن إلى الله لمناجاته والاستعانة به لمواجهة مرضه بإيمان ورضا بقضائه، وفي الوقت نفسه سيتناول العقاقير التي قررها الطبيب المعالج.

التعافي والنجاة

تختم سمية حديثها قائلة:

أدين بالفضل لأسرتي التي ساندتني في رحلتي ولولاهم ما كنت لأصل إلى هنا، لم يقللوا من حجم معاناتي يوماً ما، ولم يحدث أن شكَّكوا في مشاعري قط، وفي كل مرة كنت أطلب فيها الدعم كانوا بجانبي. حالياً أنا أتفهَّم جيداً اختيارات والدي ووالدتي السابقة، وأصبحت أكثر إدراكاً للعوامل التي أجبرتهما على ذلك، وأؤكد أنني أكنّ لهما كل الحب والاحترام والتقدير، وأنصح الجميع بعدم التردد في طلب المساعدة لأن الحفاظ على الصحة النفسية لا يقل أهمية عن الحفاظ على الصحة البدنية، وألا نستمع لصوت عقلنا في الرغبة في الانعزال. كنت لا أنصت لصوت عقلي عندما يأمرني مثلاً بالانعزال وأطرد الأفكار السلبية.

يؤكد د. أحمد علي أن 90% من مرضى الاكتئاب يتعافون بشكل كامل إذا ما تلقوا العلاج السلوكي أو الدوائي، ويعودون لممارسة حياتهم الطبيعة ويستمتعون بها.

أُنتج هذا التقرير ضمن مشاركة الكاتبة بمشروع «العلم حكاية» التي ينظمها معهد جوته والهيئة الألمانية للتبادل الثقافي DAAD في مصر، وأونا أكاديمي، بدعم من وزارة الخارجية الألمانية.