أثار

التقرير الذي تم تسريبه مؤخرًا

من مكتب مراجع الحسابات العام في كينيا ضجة كبيرة حول العالم، إذ تشير الوثيقة المسربة إلى أن الحكومة الكينية رهنت أكبر وأهم مرفأ بها، وهو ميناء مومباسا، لدى الحكومة الصينية عام 2013، في مقابل قروضها المتراكمة المستحقة لبكين. رفض مراجع الحسابات العام، إدوارد أوكو، تأكيد أو إنكار صحة الوثيقة، التي تم نشرها على نطاق واسع على شبكة الإنترنت، مكتفيًا بالقول إن ما يُـتداول على وسائل التواصل الاجتماعى ليس رسميًّا.

وفي سبتمبر/ أيلول الماضي صُنفت كينيا من بين البلدان الأكثر تعرضًا لخطر فقدان الأصول الاستراتيجية لصالح الصين بسبب الديون، حيث بلغ حجم الديون 5.55 مليار دولار تقريبًا، وهو مبلغ كبير يصعب على حكومة نيروبي توفيره، رغم التصريحات المطمئنة للمسئولين التي تشير إلى عكس ذلك.

وتشهد كينيا في الفترة الأخيرة غليانًا شعبيًّا ضد رجال الأعمال الصينيين بسبب تورطهم فيما يُوصف محليًّا بـ «السلوكيات الاستعمارية» تجاه السكان، إذ تم توثيق وقائع تعمد فيها هؤلاء الأجانب القادمون من وراء البحار إذلال المواطنين الكينيين الذين يعملون تحت إمرتهم والتنكيل بهم بدوافع عنصرية، كان أشهرها حادث

الفيديو المهين

، الذي وصف فيه أحد الصينيين الشعب الكيني بأنه عبارة عن «مجموعة من القردة‌»، وأصدرت سفارة الصين في نيروبي بيانًا تبين فيه أن ما قاله مواطنها تصرف فردي.


ليست كينيا وحدها التي وقعت في فخ الاستدانة من بكين ورهن أصولها في مقابل الديون، فكثير من دول القارة الأفريقية وقعت في نفس المأزق،

فمطار كينيث كاوندا الدولي في زامبيا

هو الآخر في طريقه ليلقى مصير ميناء مومباسا الكيني، في حال فشل الحكومة الزامبية في سداد ديونها الضخمة للصينيين في الوقت المحدد، بعدما سلمتهم معظم أسهم شركة الإذاعة الوطنية، كما أن شركات التعدين الكبرى في غانا من المرجح أن تلقى أيضًا نفس المصير.

وقد كشفت المعارضة السودانية عن

منح الخرطوم ملايين الأفدنة

من أخصب الأراضي الزراعية بكين لاستغلالها لسنوات طويلة دون فوائد مقابل جدولة ديونها، وهذا ما يفسر إعلان الرئيس الصيني شي جين بينج خلال لقائه الرئيس عمر البشير تقديم مساعدات مالية جديدة للحكومة السودانية والتراجع عن مطالبة الخرطوم بسداد ديونها البالغة أكثر من 10 مليارات دولار بشكل عاجل.

اقرأ أيضًا:

الرهينة: مديرة «هواوي» الصينية في قبضة أمريكا


عقدة سريلانكا

أما في جنوب آسيا فتتضاعف الأهمية الجيوسياسية للمنطقة لدى بكين، فهذا الجزء من العالم هو عصب مشروع «الحزام والطريق» الذي تم إطلاقه عام 2013 ويضم 65 دولة، بتكلفة تصل إلى تريليون (مليون مليون) دولار.

في باكستان، حيث بلغت قيمة الاستثمار في مشروع الممر الاقتصادي هناك 46 مليار دولار، استأجرت الصين ميناء «جوادر» لمدة 40 عامًا كاملة طبقًا لاتفاقية ​وقعتها مع إسلام أباد عام 2015.

اقرأ أيضًا:

المممر الاقتصادي: طوق الصين حول عنق العالم

في بنغلاديش يضع التنين الأصفر يده على أكبر وأهم ميناء بحري فيها وهو

مرفأ شيتاغونغ

، في ظل تصاعد حجم الديون على الحكومة البنغالية لتصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، وفي الجوار في ميانمار، حيث شهد إقليم راخين العام الماضي مجازر بشعة راح ضحيتها الآلاف من المسلمين الروهينجا، استهدفت إخلاء الإقليم الغني بالثروات من سكانه الأصليين، لتسليمه إلى الصين التي وقّعت بالفعل

اتفاقية

مع حكومة ميانمار، لتطوير ميناء بحري عميق بمليارات الدولارات في منطقة كيوك فيو الاقتصادية في الشهر الماضي.

لكن حالة سيريلانكا تعتبر النموذج الأكثر فجاجة، إذ أغدقت بكين القروض على هذه الدولة الصغيرة حتى وصلت إلى نحو 8 مليارات دولار، ثم استغلت عجزها عن السداد في المواعيد المقررة، لتحصل على70 بالمائة من حصة مرفأ «هامبانتوتا» الاستراتيجي في عقد انتفاع لمدة 99 سنة، في عام 2017، بالإضافة إلى حوالى 15 ألف فدان قريبة من الميناء كمنطقة صناعية.

وقد نسج الصينيون الفخ ببراعة، فكانوا أسخياء جدًّا عند تقديم القروض التي أسالت لعاب قادة سيريلانكا، لاسيما وأنها ستوجه لخدمة مشاريع التنمية في بلادهم، متغافلين عن حقيقة أنهم اقترضوا بسعر فائدة قدره 6.3 في المائة، في حين أن سعر الفائدة على القروض الميسرة التي حصلوا عليها من البنك الدولي وبنك التنمية الآسيوي كانت تتراوح بين 0.25 و 3 في المائة فحسب.

ويستغل التنين الأصفر تلك الاتفاقيات الاقتصادية لخدمة نفوذه السياسي حول العالم، وتبني وجهات نظره في القضايا الخلافية، كالتضامن مع مطالبه في بحر الصين الجنوبي أو التراجع عن الاعتراف باستقلال تايوان، أو تأجيل التدريبات العسكرية المشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية، كما فعلت كمبوديا مؤخرًا على سبيل المثال.

إذ تتبع بكين استراتيجية تسمى «إقصاء المنازعات لمصلحة التنمية المشتركة»، أي الإغداق على الخصوم بالقروض والمساعدات، واتباع سياسة «الجزرة» كما فعلت مع الفلبين عندما أصدرت محكمة التحكيم الدولية في لاهاي حكمًا لصالحها في نزاعها مع الصين على جزر سكاربورو شول، لكن مانيلا تراجعت عن إثارة القضية – رغم صدور الحكم لصالحها – بعدما وعدها جارها الكبير باستثمارات وصفقات تجارية بقيمة 13.5 مليار دولار.


لن نتمكن من السداد!

وقد أثارت هذه السياسة الأحزاب المعارضة في البلدان التي رزحت تحت الديون، ففي ماليزيا كان أحد أسباب معارضة مهاتير محمد للحكومة السابقة هي دورانها في الفلك الصيني، ولذلك ألغى عددًا من المشروعات الاقتصادية العملاقة التي كانت الصين ستمولها، بسبب التكلفة العالية التي قد ترهق البلاد فيما بعد في سلسلة من الديون التي لا يمكن تحملها،

وقال لمقرضيه

بكل حسم: «لن نتمكن من السداد».

وفي جزر المالديف التي بلغت ديونها لبكين نحو 1.3 مليار دولار استأجرت الأخيرة إحدى الجزر لمدة 50 عامًا، في حين تقول المعارضة هناك إن 15 جزيرة أخرى تم إعطاؤها للصين. وبعد فوز إبراهيم صلح بالرئاسة في سبتمبر/ أيلول الماضي، أخذ على عاتقه مراجعة الاتفاقات مع الجانب الصيني التي وصفها بأنها مشروع لـ «الاستيلاء على أراضي الدولة»، وفتحت الشرطة المالديفية تحقيقات مع الرئيس السابق عبدالله يمين، لاستجوابه بشأن صفقات أبرمها خلال ولايته، منح فيها شركات صينية عقودًا بأسعار مبالغ فيها.


طريق في اتجاه واحد

شهدت قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك)، التي عقدت الشهر الماضي، سجالًا بين واشنطن وبكين على خلفية هذا الأمر، إذ وصف نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس الذي مثل بلاده في القمة مبادرة «الحزام والطريق» بأنها طريق في اتجاه واحد، متهمًا الصين باتباع

دبلوماسية دفتر الشيكات

التي وصفها بأنها «غير شفافة»، ودعا دول المنطقة إلى التقرب من الولايات المتحدة قائلًا: «نحن لا نغرق شركاءنا في بحر من الديون، لا نفرض قيودًا ولا ننشر الفساد ولا نسيء إلى استقلالكم».

اقرأ أيضًا:

الكتالوج الصيني: طريق طويل لسيادة العالم

وفي الوقت الذي تؤدي فيه مبادرة الحزام والطريق لهيمنة الصين على اقتصاديات الدول المشتركة بها، فإن المبادرة سيكون لها تأثيرات عالمية كثيرة تتجاوز تلك الدول، منها ما حذرت منه الكاتبة الهندية براكريتي غوبتا من أن اليوان قد يحل محل الدولار كعملة عالمية معتمدة لدى جميع الدول.

لكن الصينيين يصرون على أنهم ليس لديهم أي نيات توسعية أو ميول استعمارية، متجاهلين حقيقة أن القوى الاستعمارية السابقة كانت تستبق توسعاتها العسكرية بإغراق الدول المستهدفة في الاستدانة من أجل إخضاعها، فبحسب الخبير الاقتصادي محمود رمزي صاحب كتاب «خدعة الديون» فإن إخضاع الشعوب لا يحتاج إلى الآلات العسكرية، فالديون تؤدي هذه المهمة.