عقد من البقاء في السلطة كان كافيًا للإطاحة بحزب العدالة والتنمية المغربي بعد تلقيه هزيمة مدوية في الانتخابات العامة (2021) بحصوله على 13 مقعدًا فقط من إجمالي 395 مقعدًا، ما يعني فقدانه 112 مقعدًا من حصته في البرلمان السابق دفعة واحدة.

في المقابل تصدر حزب «التجمع الوطني للأحرار»، بقيادة رجل الأعمال المقرب من الملك عزيز أخنوش، نتائج الانتخابات بحصوله على 102 مقعد، فيما حل حزب الأصالة والمعاصرة في المركز الثاني بـ 86 مقعدًا، تبعهما حزب الاستقلال بـ 81 مقعدًا.

هزيمة وصفها عبد الإله بنكيران، الأمين العام السابق للحزب، بـ «المؤلمة»، وطالب على إثرها خلفه سعد الدين العثماني بتحمل نتيجتها وإعلان استقالته إيذانًا ببدء مرحلة جديدة سيواجه فيها الحزب الإسلامي تحديات صعبة، من شأنها أن تحدد دوره المستقبلي بعدما انتقل بين ليلة وضحاها من المركز إلى هامش الحياة السياسية بفضل خياراته البراجماتية.

ترويض الإسلاميين

استغل الحزب الإسلامي موجة الربيع العربي للعبور إلى السلطة، حيث شكلت احتجاجات 20 فبراير 2011 التي اندلعت في المغرب – رغم عدم مشاركة الحزب فيها – ضغطًا على السلطة التي لجأت لاحتوائها عبر سن دستور جديد يمنح الحكومة والبرلمان صلاحيات واسعة، لكنه يبقي مركزية الحكم في يد المؤسسة الملكية.

صعود العدالة والتنمية صاحبته آمال عريضة بقدرة الحزب على قيادة تحول ديمقراطي في وقت كانت أحلام التغيير تسود فيه المنطقة، غير أن هذه الطموحات سرعان ما اصطدمت بمقاومة الدولة العميقة التي حاول رئيس الحكومة وقتها بنكيران مواجهتها حتى إنه في بعض الأوقات بدا كما لو كان معارضًا سياسيًّا وليس رئيسًا للحكومة.

سقوط الإخوان المسلمين في مصر منتصف عام 2013 وما صاحبه من موجة إقليمية استهدفت القضاء على تيار الإسلام السياسي بأكمله مثلت نقطة تحول في مسار الحزب، لا سيما بعد العرقلة الأولى التي تعرض لها إبان انسحاب حزب «الاستقلال» من الحكومة (يوليو 2013) مع دفع بنكيران لتقديم أول التنازلات، ليرسم الحزب سياسته التالية على معطى واحد، وهو إرضاء المؤسسة الملكية والخضوع التام لها.

«المخزن»* نجح في ترويض الإسلاميين بالطريقة التقليدية، وهي منحهم سلطة منقوصة ووضعهم تحت ضغط مستمر وحاجة ملحة لتجديد الولاء في كل مرحلة، قبل أن يشرع في سحب هذه السلطة تدريجيًّا عبر ورقة التلاعب بالأحزاب السياسية المقربة منه، لتحقق المؤسسة الملكية عدة أهداف دفعة واحدة، لعل منها استيعاب الإسلاميين بطريقة أكثر دهاءً من الأنظمة العربية التي اختارت الصدام معهم، كما أنهم ساعدوا النظام في فرض الهدوء على الشارع السياسي لنحو 10 سنوات سكنت خلالها نسبيًّا المطالب الإصلاحية وعادت الآلة الأمنية لتحكم قبضتها، فيما اكتفى العدالة والتنمية بتبرير هذه الممارسات القمعية والانتهاكات الحقوقية، وهو ما يؤكد النظرية التي تفترض أن الإسلاميين كثيرًا ما يمثلون عائقًا أمام الديمقراطية في العالم العربي.

موت الأيديولوجيا

لو احتسبنا فقط الأعضاء والمتعاطفين والأقرباء والأصدقاء والجيران لكنا في الرتب الأولى، وبامتياز.





عزيز رباح – عضو الأمانة العامة بالحزب

العدالة والتنمية خذل محبيه والمتعاطفين معه قبل خصومه، وذلك بعدما تحول إلى حزب همه الوحيد هو البقاء في السلطة مهما كلفه ذلك من تنازلات، بدأت بتخليه عن زعيمه التاريخي، وانتهت بمشهد توقيع اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، هذا التخلي عن المبادئ والشعارات كان صادمًا للمحبين الذين لم تعد تقنعهم مبررات السياسة بعد 10 سنوات رأوا خلالها كيف يتحول المناضلون إلى رجال دولة من الدرجة الثانية، ليس عليهم سوى التوقيع والتبرير لما يمليه عليهم الملك.

الأمر نفسه – مع اختلاف السياقات – حدث مع حزب النهضة الإسلامي في تونس، حيث دفع تشبثه بالسلطة وتطبيعه مع المنظومة الحاكمة إلى جانب تخليه عن المسار الإصلاحي الذي انتخبه الجمهور من أجله، وما استلزمه ذلك من تقديم تنازلات سياسية وأيديولوجية، دفع كل ذلك إلى إحداث حالة من اليأس لدى الحالمين بالتغيير والبسطاء، استغلها الرئيس قيس سعيد لإعلان تحركه ضد البرلمان والأحزاب، هذا التشابه بين التجربتين يعطي مؤشرًا حول خيارات الإسلاميين إذا ما سُمح لهم بلعب دور في الساحة السياسية لمدة طويلة نسبيًّا، حيث سرعان ما تدنسهم السلطة مثل غيرهم، وهو ما يجب دراسته بشكل أعمق.

المخزن كان ذكيًّا مرة أخرى عندما أجبر الحزب الإسلامي على استبدال بنكيران بالعثماني بعد أشهر من فشل الأول في تشكيل حكومة ائتلافية أريد لها ألا تتشكل. ورغم أن الرجلين اتبعا سياسة واحدة في التودد للمؤسسة الملكية، فإن بنكيران بما يتمتع به من خبرة سياسية ودهاء فضلًا عن كاريزما القائد كان أكثر صلابة في مواجهة الضغوط والتعامل معها. فبعد رفضه شروط أخنوش لتكوين الحكومة، سارع العثماني بالموافقة عليها، وبعد سنوات من تعطيله قوانين تتعارض مع أفكار الحزب المحافظة، مثل فرنسة التعليم وتقنين القنب الهندي، نجحت المنظومة الحاكمة في تمرير هذه القوانين بسهولة خلال حقبة العثماني.

العدالة والتنمية يدفع اليوم ثمن خياله السياسي الذي صوَّر لقادته أن البقاء في السلطة بأي كلفة وحتى مع الاستسلام لواقع أن السلطة الحقيقية ليست في أيديهم هو الخيار الأفضل لهم، ورغم ظهور أصوات من داخل الحزب تطالب بالانسحاب من الحكومة والعودة لصفوف المعارضة حفاظًا على مبادئ الحزب وصورته في أعين محبيه، فإنها كانت تتعرض للتهميش ولا يتم الاستماع إليها.

الحزب الإسلامي الذي شهدت ولادته مخاضًا عسيرًا بات على مشارف الموت السياسي؛ إذ يتوقع أن تتصاعد الخلافات الداخلية بين الأجنحة المتصارعة، والتي مثل البقاء في السلطة مسكنًا لها، ولا يستبعد كذلك أن تضرب الانشقاقات جدرانه حيث تمنح الهزيمة القاسية فرصة لطرح مشاريع جديدة لعلها تتخلص من إرث التجربة التي صوت المغاربة بقوة ضدها، فيما يبقى التحدي الأصعب، وهو إعادة بناء الحزب من الداخل وتغيير اتجاه بوصلته ليعود إلى قوى الشعب الحقيقية بدلًا من السلطة التي ارتكن إليها فهوت به.