شاركها 0FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram 69 من الذي يرسم الخط الفاصل بين المبتذل والمأساة؟، أهو الفرد أم المؤسسة أم الجماعة؟، ما الفرق بين رواية تتحدث عن الموت أو الله أو أسئلة الوجود، وأخرى تتحدث عن تفاهات الحياة اليومية، عن المطبخ أو السوق أو فساتين الموضة؟، هل يمكن أن يكون المبتذل طريقًا لفضح المأسوي في الحياة الإنسانية، أم أن المأساة مكتفية بذاتها؟. في رواية «حدائق الرئيس» لمحسن الرملي، ينطلق السارد من صناديق الموز، ليقدم لقارئه أبشع صورة ممكنة عن الموت. تبدأ الرواية كالآتي: في بلد لا موز فيه، استيقظت القرية على تسعة صناديق موز في كل واحد منها رأس مقطوع لأحد أبنائها، ومع كل رأس بطاقته الشخصية التي تدل عليه لأن بعض الوجوه تشوهت تمامًا بفعل تعذيب سابق لقطعها أو بسبب تمثيل بها بعد الذبح. أما رواية كافكا الشهيرة «التحول» أو -«المسخ» حسب الترجمات- فلا تبدأ بفاكهة بل بحشرة، موظف يستيقظ في الصباح ليجد نفسه قد تحول فجأة إلى حشرة، وعوض أن يفكر في أسباب ذلك، لا يشغل باله إلا كيف سيصل إلى عمله. لتنتهي الرواية، بموت الحشرة وإلقاء جثتها في مكب النفايات دون نعي أو دفن؛ لأن الشخصية كانت قد فقدت كل دلالاتها الإنسانية في عيون أفراد الأسرة، ومن ثمة لم يكن لهم أن يعاملوها إلا على هذا النحو. أما في رواية مغربية عنوانها «عين الفرس»، فيحكي السارد عن قرية مطلة على البحر، غرق معظم رجالها بسبب إشاعة مفادها أن بواخر أمريكية تلقي أكداسًا من «البسطيلة» الساخنة والشهية في وسط البحر، في هذه اللحظة تكتفي «البسطيلة» بموقعها كوجبة طعام مبتذل لتتحول إلى رمز للغنى، وللـ«هناك» حيث كل شيء بخير، تتحول باختصار رمزًا لكل ما تفتقده «الأنا» في أرضها لتتجه نحو «الآخر» علها تجد فيه ما تفتقده في وطنها؛ أي تتحول إلى يوتوبيا تستحق الموت من أجلها. مثال رابع، ولعله أهم هذه الأمثلة جميعًا، هو قصة «مليكة مستظرف» المعنونة «موت»، التي يبدو من العنوان أنها تجرد الموت من كل دلالته المأساوية، بتجريده من أداة التعريف، لتنقلنا بذلك من «الموت» كمصير محزن يتهدد الوجود البشري إلى موت تحاصرنا أخباره في الإذاعة والتلفزيون، إلى درجة أننا نصل إلى درجة سماعه ولا سماعه في الآن ذاته. وهو ما يوضحه المقطع الآتي [1] : أضغط على الريموت كنترول…المذيعة تبتسم، تظهر أسنانها البيضاء اللامعة.. كيف تستطيع الحفاظ على أسنانها بيضاء؟ «… وقد هاجمت إسرائيل مدينة غزة انتقامًا لمقتل جنديين إسرائيليين» تزداد ابتسامتها اتساعًا…تضع عدسات لاصقة خضراء اليوم بنفس لون الفستان الضيق. اللون الأخضر لا يناسبها يكشف استدارة نهديها. … «جثت متعفنة ..رؤوس مفصولة عن أجسادها» أغرز الشوكة والسكين في قطعة اللحم، ألتهمها بتلذذ .. اللحم لذيذ: يقول زوجي — ….. المذيعة تحاول أن تبدو حزينة…التكشير لا يناسبها «أمهات يبكين…بؤس .. فقر…صراخ.. دماء يمتصها الإسفلت» (…) المذيعة لا زالت تتكلم وأحمر الشفاه الوردي لا يناسبها، يجعل فمها يبدو كبيرًا «… وستغادر اليوم باخرتين محملتين بالسياح باتجاه إسبانيا … الحرب المفاجئة على لبنان… وقد رفضت إسرائيل…. إلى… حين … مغادرة السياح» أيقظيني بعد ساعة.. نعاسي ثقيل كالميت: يقول زوجي ثم يتمدد على الكنبة المواجهة لجهاز التلفزيون. تقوم القصة على تقنية سردية يسميها «فيرغاس يوصا» بالأواني المتحاورة «Les vases communicantes»، وهي عبارة عن «واقعتين أو أكثر، تجري في أزمنة، أو أمكنة، أو مستويات واقع مختلفة، وتجمع بينها كلية سردية بقرار من الراوي، بهدف أن يتمكن هذا التجاور أو المزج من إحداث تعديل متبادل، مضيفًا لكل منهما دلالة، جوًا، رمزية إلخ.. مختلفًا عما هو مروي في كل واقعة منها بصورة منفصلة» [2] . ذاك أننا نسمع أخبار الموت كل يوم، ولكن ما يضفي عليها سخرية ومرارة في القصة، هو تلقيها من منظور أسرة مشغولة بالأكل وفستان المذيعة عن الإصغاء لقصص ضحايا الحرب. تفضح القصة إذن تقابلاً فظيعًا بين اليومي المبتذل، وما يفترض فيه أن يمثل مأساة كان من شأنها أن تنفر هذه الأسرة من التفكير في اللحم المشوي على المائدة ودفعها للتفكير ولو للحظة في تلك الأسر المشردة والجثث المحترقة. هنا بالضبط يكمن دور الأدب، في فضحه ليس فقط لما سماه «لوكاش» بانفصال الفرد عن المجتمع، وتحوله إلى بطل إشكالي ذي قيم تتنافى مع قيم المجتمع، بل في فضحه كذلك لأنانية فرد انغمس في ذاته لدرجة أنه نسي وجود آخر خارج ذاته. تتعدد الأصوات في القصة إذن لفضح هذا التوحد الصوتي الذي يرى الفرد من خلاله العالم. هكذا نجد صوتًا خارج فضاء الأسرة يحاول أن يوجه انتباهها للمأساة، وأصواتًا من داخل الفضاء المشترك، لا تفكر إلا في همومها الصغيرة؛ الأب في زوجته المبذرة التي لم تكتفِ بطبخ اللحم لتضيف إليه الدجاج المحمر، المرأة المنشغلة بغيرتها من المذيعة الجميلة (ربما الرجل كذلك مشغول بجمال المذيعة ولكن هذا لم يصل القارئ لأن وعي الساردة هو من ينقل إلينا الأحداث)، والطفل بامتحان التاريخ أما الطفلة بأغنية نانسي عجرم «بص بص». في وسط هذا الابتذال، ينبعث صوت المذيعة ليذكرنا بأن هناك أمورًا أهم منا؛ هناك شيء اسمه الموت تعيشه أمم أخرى يفترض منا أن نرثي لحالها (ليس فقط في رمضان). تحاول المذيعة بدورها أن تبدي شفقتها وحزنها ولكن العبوس يجعلها قبيحة. لم يعد السرد يحفل بإدهاشنا كما هو الحال في الرواية البوليسية حيث يكون المجرم دائمًا هو آخر من نشك فيه، كل ما يهمه الآن هو أن يحاصرنا بما نعرفه وندركه جميعًا، لنتوقف عن إدراك المدلول «Meaning»، ونرتقي لتفكير في الدلالة «Significance»؛ أي لننتقل من المدلول اللغوي المباشر، إلى الإحالات الرمزية والسياقية. بالتركيز على المبتذل نكون قد قلبنا إستراتيجية الرواية البوليسية، إذ نكون على معرفة بالمجرم منذ البداية، على الأقل نعرف اسمه وهويته، ولكننا مع الوقت نتعرف عليه من قرب ونسبر أغواره، ونتوقف عن رؤيته كشيء منفصل، ليصبح شيئًا منا وجزءًا من ذواتنا التي ما كان لنا أن نتعرف عليها بدونه. بالاحتكاك بالمبتذل فقط نعرف ذواتنا، ونفضح ليس فقط تفاهة الوجود بل تفاهتنا كذلك. بانتقال المبتذل من الألفة إلى الغرابة، تنتقل الذات القارئة من الاغتراب عن ذاتها إلى المعرفة والألفة. ليتبين من ثمة أن السرد يبئر المبتذل ويجعله موضوعًا له، لا لعدم قدرته على الحديث عن أشياء أهم، ولا لعجزه عن طرح أسئلة وجودية، بل لأن السرد قد انبثق في رحم المبتذل. وإذا كان السياسي والإعلامي والأكاديمي يركزون على المأساوي في محاولة لتضخيمه، لينتهوا بإفقاده قيمته، فإن الروائي والقاص يبئران المبتذل حتى يفضحوا بالمبتذل والقبيح مأساة الواقع. إن أعظم الأشياء تصبح مبتذلة بتكرار الحديث عنها، الحرب نفسها من كثرة ما تعودنا سماع أخبارها لم تعد تحرك فينا شيئًا، ومن ثمة فالسرد على عكس الوسائل الإعلامية لا يكرر المتعالي حتى يفقد موقعه وتأثيره، بل ينطلق أصلاً مما لا موقع له أصلاً، معتمدًا على خلفيات القارئ وموسوعته، وقدرته على الاستدلال والتأويل. ربما كانت هذه هي فائدة الأدب، في كونه يضعنا في مواجهة مع أنفسنا، في كونه يواجهنا بمدى أنانيتنا وانغماسنا في ذواتنا إلى درجة هوسنا بأشيائنا الصغيرة والسخيفة، عن الالتفات للآخر، هكذا وحده الأدب بفضحه وكشفه يستطيع أن يكشف مأساتنا الكبرى؛ وهي غياب المأساة في حياتنا. [1] مليكة مستظرف، «موت»، موقع وزارة الثقافة المغربية، تاريخ النشر: يناير 2010 (بتصرف). http://www.minculture.gov.ma/index.php/2010-01-11-01-40-04/naration/373-2010-01-09-14-00-27 [2] ماريو فرغاس يوسا، «رسائل إلى روائي شاب»، ترجمة: صالح علماني، الطبعة الثانية (دمشق: المدى، 2010)، ص122 قد يعجبك أيضاً مسلسل 60 دقيقة: دراما خادشة للحياء الجانب الآخر من «جيم كاري» إسعاد يونس: لأن فاقد الشيء لا يعطيه بخلاف «بكار»، ماذا تعرف عن الكارتون المصري؟ شاركها 0 FacebookTwitterPinterestLinkedinRedditWhatsappTelegram أسماء السكوتي Follow Author المقالة السابقة «أخضر يابس»: عن جدران الروح التي لم تعد تحتمل المقالة التالية بعد أزمة الأوسكار: لماذا علينا أن نهتم بفن أنماط الكتابة؟ قد تعجبك أيضاً احفظ الموضوع في قائمتك «حصن التراب»: من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك رواية «حارس سطح العالم»: الديكتاتورية تحاكم الخيال 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك ليس دفاعًا عن نجيب ومنير، إنما عن فان جوخ وراديوهيد 01/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك الفنان «محمد شرف»: فتى الاسكتش الأول 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك فيلم «كيرة والجن»: بين ضخامة الإنتاج والشخصيات النمطية 05/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك بين مسلسل «You» وأغنية «سالمونيلا»: عشان تبقي تقولي لأ 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك «في غرفة العنكبوت»: العالم المجهول للمثليين في مجتمع شرقي 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك مسلسل «ليه لأ»: لماذا كل تلك الجدية؟ 03/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك العربي في هوليوود: من لورانس العرب إلى حرب العراق 05/03/2023 احفظ الموضوع في قائمتك من السينما إلى «شبرا البهو» : فلنقتل كل «أسماء» 03/03/2023 اترك تعليقًا إلغاء الرد احفظ اسمي، البريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح للمرة القادمة التي سأعلق فيها.