الزمان: 2011

المكان: شوارع الإسكندرية

الحدث: أول استفتاء شعبي بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني «المجيدة»

فتاة في العشرينات تمشي متلفتة حولها باحثة عن المدرسة التي تقع فيها لجنتها الانتخابية، تمسك بيديها ورقة صفراء مكتوب عليها اسم المدرسة ورقم اللجنة ورقمها الانتخابي، تضع سماعات هاتفها في أذنيها وتحرك شفتيها بلا صوت بابتسامة خافتة فشلت أكثر من مرة في أن تداريها. إذا اقتربت منها جداً سوف تسمعها تردد

إررررفع راسك انت مصري..

إنت واحد م اللي نزلوا في الميدان..

إرررفع راسك انت مصري..

إنت وقفت جمب جارك في اللجان..

إرفع راسك انت مصري..

إنت رجعت المصري بتاع زمان





الزمان: 2018

المكان: إحدى شقق الطبقة المتوسطة بالقاهرة

الحدث: يوم عادي جداً

امرأة تخطو نحو الثلاثين تهدهد رضيعاً وتمسك بيديها هاتفاً ذكياً، تجد كل الأصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي يتشاركون أغنية ما ويذكرون بعضهم البعض بذكريات من فرط رومانسيتها مؤلمة، يحذرون بعضهم البعض من العمر الذي سينزف من السماعات رغماً عنك إذا ضغطت زر التشغيل، يأخذها الفضول وتضغطه

كل اللي معاك في الصورة غاب..

وطنك والأهل والصحاب..

كام واحد ودع وساب من غير أسباب..

شايف ف عنيك نظرة حنين..

بتحن لمين وللا لمين..

طول عمرها ماشية السنين والناس ركاب


وعملت إيه فينا السنين


ليس من الطبيعي أن نظل في نفس الموضع للأبد، الطبيعي فعلاً أن نتغير، أن يتبدل كل شيء حولنا وأن نتبدل نحن أنفسنا، من يظن أن الاستقرار هو سمة الأشياء شخص غير عقلاني، المشكلة أن التغيير لا يجب أن يكون درامياً جداً، التغيير التدريجي والتطور المنطقي هو القاعدة، أما التغيير الدراماتيكي الذي يصلح أن يكون فيلماً، هو الاستثناء.

في 2008 كانت أغنية «حمزة نمرة» «احلم معايا» تميمة يتبادلها الشباب فيما بينهم، نوع معين من الشباب المتعلم المهندم المثقف المصاب بمرض الطموح المزمن، لم تكن الأغنية منتشرة جداً وقتها وكانت مقتصرة على فئة معينة، جاءت الثورة وتبدل الحال، ولمدة 18 يوماً لم تكن هناك فئات، كان هناك قلب واحد، وصوت واحد، والملايين من الأجساد.

وقتها انتشرت الأغنية ورددها الجميع تقريباً وأصبح اسم «حمزة نمرة» يتردد بقوة في الشارع، والتليفزيون، وعلى الإنترنت بالطبع. ثم هدأت الأمور وظننا – وبعض الظن إثم – أننا في سبيلنا للنور، وقتها في 2011 أصدر «حمزة نمرة» ألبوم «إنسان» الذي كان يردده كل الشباب تقريباً.

ثم تبدلت الأشياء مرة أخرى، تغيير دراماتيكي عنيف آخر، كل شيء يقع، كل الجدران تنهار، الغبار يعلو ليحيطنا جميعاً حتى لا نرى كفوفنا، حمزة نمرة إخوان، حمزة نمرة خائن، حمزة نمرة ثائر، حمزة نمرة مطلوب، حمزة نمرة مطرود، حمزة نمرة ممنوع من دخول البلاد، حمزة نمرة يختفي تماماً ويبتعد عن الساحة الفنية المصرية، ربما أغنية هنا أو هناك تنتشر على السوشيال ميديا، ربما فيديو مصور من حفلة أحياها في بلد ما يحيطه مصريون يصرخون ما أن يهتف «بلدي يا بلدي.. كله بيروح لحاله.. واللي يتبقى بلدي».

ثم منذ أيام قليلة، اجتاح «حمزة نمرة» مواقع التواصل الاجتماعي ويتبادل الشباب – الذين كبروا الآن – أغنيته الجديدة بنشاط محموم. الأغنية تنتشر، تراها على حائط كل صديق من أصدقائك على فيس بوك، الأخبار الفنية تتساءل هل يعود «حمزة نمرة» من جديد؟ الأغنية تتخطى حاجز الخمسة ملايين مشاهدة في ثلاثة أيام و«داري يا قلبي مهما تداري حزننا مكشوف».


اللي على راسه بطحة

الأغنية حزينة، بين «احلم معايا» و«داري يا قلبي» عشر سنوات بحسابات الأيام، والكثير جداً بحسابات الخسارة، ولكن هل الأغنية فعلاً تتحمل كل هذا القدر من الشجن؟

الإجابة ربما لا، آخرون بإمكانهم أن يسمعوها ولا يشعرون بكل هذا الشجن وكل تلك الحسرة. عشر سنوات ليست قليلة أبداً. الفتاة التي بدأنا المقال بالتلصص عليها مثلاً في أقل من عشر سنوات تزوجت، وغيرت مجال عملها، وأنجبت، وبدلت محل إقامتها، وتكتب هذا المقال الآن. من الطبيعي أن نكبر وطالما نكبر فمن الطبيعي أن نخسر، ولكن هذا الشجن الذي تثيره الأغنية له أسباب أخرى.

سوف يستمع للأغنية شاب من جنسية أخرى ولن يشعر بكل هذا، لأنه ببساطة لم يقم بثورة وفشلت، لن يشعر بهذا الكم من الحزن لأنه لا يحمل نفس الميراث، لم يقف في ميدان مكتظ يستمع لصوت نفس هذا المطرب خارجاً من سماعات ليشيد به، وبالحلم، وبالوطن، ولم يخسر الحلم ولا الوطن فلن يشعر بقهر عندما يخبره هذا المطرب الآن أن «عادي عادي محدش في الدنيا دي يتعلق بشيء إلا وفراقه يشوف».


الأغنية بريئة.. نحن المذنبون

صنف «حمزة نمرة» من قبل كفنان ثائر، ثم صنف بعدها أنه ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، الآن يصدر أغنية لم يشر فيها من قريب أو بعيد لا للثورة ولا لأي فصيل سياسي ومع ذلك تصطبغ الأغنية رغماً عنه بتاريخنا الذي التصق بهذا الجيل كله كوشم مستحيل الإزالة.

الحقيقة أن الأغنية عادية، حزينة نعم، رهيفة وكلماتها شجية، ولكنها لا ترثينا ولا ترثي الثورة ولا لها أي علاقة بما كان، نحن فقط من ترجمناها على أنها امتداد لما حدث من قبل لأننا عشنا هذا التاريخ معاً، ولأننا نعرف هذا الصوت وعاصرنا كل ما حدث معه ومعنا.

الأغنية بريئة، نحن المذنبون، أذنبنا قديماً عندما جرؤنا على الحلم، ونذنب الآن في كل مرة نوبخ نفسنا فيها أننا فعلنا.