لم يعرف العرب قبل الإسلام نسقًا دينيًا واحدًا، فبجانب الوثنيين وُجد
الحنفاء الذين رفضوا عبادة الأصنام واعتقدوا بوجود إله واحد، وفي المقابل وُجد
الدهريون الذين أنكروا الإله، وآمنوا بأن الكون من صنيعة الدهر، وأن الحياة من
تصريفه.

يذكر الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه «تاريخ العرب قبل الإسلام»، أن مرحلة الجاهلية الأخيرة شهدت اتجاهًا فكريًا متميزًا سُمِّي «الدهرية»، وأشير إليه في القرآن الكريم في قوله تعالى {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24].

ما يهلكنا إلا الدهر

اعتقد الدهريون بإسناد الحوادث إلى الدهر، فنسبوا كل شيء إلى فِعل القوانين
الطبيعية، أي الأبدية، مع التأثير في حياة الإنسان وفي العالم،

ولهذا أضافوا إليه بعض الألفاظ والنعوت التي تشير إلى وجود هذا التأثير،
مثل «يد الدهر»، و«ريب الدهر»، و«عُدواء الدهر»، و«أصابتهم قوارع الدهر وحوادثه»،
و«أبادهم الدهر».

والدهر بمفهومهم غير مخلوق ولا
نهائي، أي أنهم يعتقدون بقدمه وعدم فناء المادة، والدهر أيضًا هو حركات الفلك،
وذهبوا إلى أن العالم يُدار بمقتضى تأثير هذه الحركات، كما نسبوا الإماتة إلى
الدهر، فقالوا «وما يهلكنا إلا الدهر»، أي ما يميتنا إلا الأيام والليالي، أو مرور
الزمان وطول العمر، ورأوا في الزمان السبب الأول للوجود، والزمان هذا غير مخلوق
ولا نهائي أيضًا.

وكان
الدهريون ينادون بالتعطيل، أي نكران البعث والحشر والنشر، ويتجلى ذلك في قولهم
للرسول «إن كنت صادقًا فيما تقول، فابعث لنا جدك (قصي بن كلاب) حتى نسأله عما كان
يحدث، وما يحدث بعد الموت»، وأمثال ذلك مما له علاقة بنفي وقوع البعث.

وجعل أبو الفتح محمد عبدالكريم الشهرستاني دهرية الجاهلية من «المعطلة»، أي الذين ينكرون البعث والحشر والنشر، ورفض آراءهم بشكل حازم، وصنَّفهم في كتابه «الملل والنحل» إلى ثلاث مجموعات؛ الأولى تضمُّ مَن أنكروا الخالق والبعث والإعادة، وقالوا إن الدهر هو المحيي والمفني، والمجموعة الثانية، هم من أقروا بالخالق والخلق الأول، وأنكروا البعث والإعادة، والثالثة، من أقروا بالخالق والخلق الأول، وأنكروا الرسل.

ويتبين من تصنيف الشهرستاني أن فريقًا واحدًا على الأقل من الدهريين رفض الاعتراف بوجود إله، غير أنه لم يسم أي ممثل لذلك الاتجاه الدهري.

أما أبو الحسن البلاذري فذكر في «فتوح البلدان» أن من بين نُسب إليهم القول
بالدهر الحارث بن قيس السهمي، وهو ابن الغيلطة وأحد المستهزئين المؤذين للرسول،
وهو الذي أُنزلت فيه الآية {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ
عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ}. [الجاثية 23]، وكان يقول: «لقد غرّ محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد
الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث».

معتقدات دينية بدائية

يذكر طقوش، أن هناك عوامل أسهمت في نشر الدهرية بين العرب، منها تأثر
الدهريين العرب بالدهريين الفرس، فضلًا عن المناقشات التي كانت تجري بين التوجهات
الدينية والفكرية المختلفة المتواجدة في الجزيرة العربية وخارجها، وذلك عن طريق اللقاءات
في المواسم التجارية والدينية والأدبية، والصلات التجارية مع البلدان المجاورة.

يضاف إلى ذلك تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في القرن السادس الميلادي، لا سيما ما خلّفته المتغيرات في وعي المثقفين المتنورين المعارضين للوثنية.

وتجلّت صور هذا التطور في عدة ملامح، منها تطور القوى المنتجة، وقيام صلات حضارية بين العرب والعالم الخارجي، إلى تطور في مستوى الوعي الديني تمثل في تراجع الظواهر الدينية البدائية (عبادة الأسلاف والأحجار والنباتات) دون زوالها نهائياً.

غير أن الدهرية لم تقوَ بشكلٍ تستطيع معه الوقوف في خط معارض للوثنية
السائدة والديانتين اليهودية والنصرانية، وكذلك الالتفاف حول إله واحد الذي كان
متمثلًا بتيار الحنفاء، ومن أجل ذلك كان انتشارها محدودًا.

دهريون وزنادقة

في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، يقول الدكتور جواد علي، إن لقب الزنادقة أُلصق أيضًا بالدهريين القائلين بدوام الدهر، ولا يؤمنون بالآخرة، ولا وحدانية الخالق.

ويشرح أن «الزندقة» كلمة معربة ذكر العلماء أنها أُخذت من الفارسية، وأريد بها في الأصل الخارجون والمنشقون على تعاليم دينهم، وهي في معنى «هرطقة»، وقد صار لها في العهدين الأموي والعباسي مدلولًا قُصد بها «الموالي الحُمر»، وهم الذين تجمعوا في الكوفة وكانوا يظهرون الإسلام ويبطنون تعاليم المجوسية والإلحاد. و«الموالي الحُمر» لقب أُطلق على الخدم والحلفاء العجم لاختلاف ألوانهم وامتلاء أجسامهم، وكُثر استخدامه في الدولة الأموية.

وفي كتابه «المحبر»، ذكر محمد بن حبيب البغدادي أسماء زنادقة قريش، ومنهم
أبو سفيان بن حرب، وعقبة بن أبي معيط، وأبي بن خلف الجمحي، والنضر بن الحارث بن
كلدة، و«منبه»، و«نبيه» ابنا الحجاج الهميان، والعاص بن وائل السهمي، والوليد بن
المغيرة المخزومي، وقال إنهم تعلموا الزندقة من أهل الحيرة بحكم اتصالهم بدهرية
الفرس.

غير أن «علي» يتحفظ في كتابه على هذه الأسماء، باعتبار أن المذكورين كانوا من المتمسكين الأشداء بعبادة الأصنام، مُدللًا بأبي سفيان الذي كان يستصرخ «هُبل» على المسلمين يوم غزوة أُحد، ويناديه «اُعل هُبل، اُعل هُبل»، لذا فإن زندقة من ذُكرت أسماؤهم لا يمكن أن تكون بهذا المعنى ولا على هذه العقيدة.

دهرية الدولتين الأموية والعباسية

وكان من المنطقي أن يختفي الدهرية بعد ظهور الإسلام وامتداد التوسعات في
فترة الخلفاء الراشدين، لكنهم عادوا للظهور مرة أخرى خلال الفترة الممتدة من أواخر
عصر الدولة الأموية إلى أوائل عصر الدولة العباسية (724 – 775)، وبالتحديد
من فترة حكم الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك (724 – 743) حتى حكم
الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (754 – 775).

ويذكر الدكتور محمود محمد السيد خلف في دراسته «جهود العلماء في مواجهة
جماعة الدهرية. الإمام أبو حنيفة نموذجًا (105- 158هـ/ 724- 775م)»، أن هذه الفترة كانت أكثر
الفترات التي تعرضت فيها الأمة الإسلامية للاضطرابات الداخلية نتيجة الخلافات
السياسية، وسمح ذلك بعرض كثير من الأفكار «الشاذة» وفي مقدمة هؤلاء الدهرية.

ويرصد الدكتور أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام»، أن ظهور الدهريين كان
أوضح وأكثر في الدولة العباسية منها في أواخر الدولة الأموية، لأن الدهرية في بعض
معانيها (وهو الشك والإلحاد) إنما تقترن عادة بالبحث العلمي، وهو في العصر العباسي
كان أبين وأظهر، ذلك أن العلم الذي شاع في العصر الأموي كان دينيًا، من جمع للحديث
وتفسير للقرآن، واستنباط للأحكام الشرعية منهما، وهذه العلوم لا تثير في النفوس
شكوكًا تبعث على الجنوح الفكري الدهري.

الشعوبية وإحياء الدهرية

ويذكر الدكتور أحمد شيال غضيب وأحمد خلف عيسى في دراستهما «نشأة الحركات الدهرية
في العصر العباسي»، سببًا آخر لظهور الدهرية يتمثل في «الشعوبية»، والتي تعني تعصب
كل شعب لقوميته وحضارته، وبُغض العرب، وقد اشتدت هذه الحركة في العصر العباسي،
ونجمت عن تعدد الشعوب التي ضمها المجتمع العباسي من فرس وزنج وروم وهنود إلى جانب
العرب الذين يمثلون الأمة الحاكمة، ومن ثم سعت هذه الشعوب لإثبات وجودها والفخر
بمآثرها وحضاراتها، والبرهنة على أن العرب ليسوا أفضل من سائر الأمم، بل هم دونها
شأنًا.

وكان العراق هو المسرح الذي ظهرت عليه الشعوبية وترعرعت فيه، لأنه كان ملتقى
العنصر العربي بالعنصر الفارسي، وهي حركة بدأت في النصف الثاني من القرن الأول
الهجري، وبقيت مستترة طوال العصر الأموي، حتى نجح العباسيون في إنشاء دولتهم،
واستخدموا الموالي، واستعملوهم في المراكز المهمة، فتسلطت فيهم النزعة القومية وقويت
حركة الشعوبية بينهم، وتصاعد خطرها، إذ تحولت إلى ما يشبه المنظمات التي يشرف
عليها ويخطط لها وزراء وكتاب وشعراء، وكل ذلك ساعد على نشر كثير من الأفكار
الدخيلة على الإسلام ومنها المانوية
والزرادشتية والمزدكية والدهرية.

أربعة أركان لنشأة الكون

وبحسب «أمين» في كتابه، لم تكن تعاليم الدهرية في كل العصور واحدة، ولذلك اختلف
مؤرخو العقائد في مصدر أقوالهم وأفكارهم، لكن يمكن القول أنهم استمدوا أكثر
تعاليمهم من مذاهب فلسفية يونانية قديمة، ثم تسلسلت هذه الأفكار إلى القرون
الوسطى، ثم ترقت في العصور الحديثة على يد مذهب النشوء والارتقاء وغيره من
الطبيعيين الذين يقولون بتطور الكائنات والحيوانات بطريقة طبيعية، كما تسلسل الرد
عليهم من اليونانيين أنفسهم إلى فلاسفة القرون الوسطى ومنهم المعتزلة، وعلى رأسهم إبراهيم
بن سيار بن هانئ النظّام.

وأورد الجاحظ في كتابه «الحيوان» بعض فقرات من آراء «النظّام» وردوده على
الدهرية، ومنها ما يتعلق برؤيتهم لنشوء الكون في ذلك العصر، إذ يقول «منهم (أي
الدهرية) من زعم أن الكون من أربعة أركان، حر وبرد ويبس وبلة، وسائر الأشياء نتائج
وتركيب وتوليد، وجعلوا هذه الأربعة أجسامًا، ومنهم من زعم أن هذا العالم من أربعة
أركان، هي أرض وهواء وماء ونار، وجعلوا الحر والبرد واليبس والبلة أعراضًا لهذه
الجواهر، ثم قالوا إن سائر الأراييح والألوان والأصوات ثمار هذه الأربعة على قدر
الأخلاط في القلة والكثرة والرقة والكثافة». وأشار الجاحظ إلى أن ردود «النظّام»
على الدهرية كانت من الناحية الطبيعية العقلية، لا من الناحية الدينية.

غير أن كمال القنطار في كتابه «فكر المعري.. ملامح جدلية»، يلفت إلى أن القول بالدهرية لا يعني إلحادًا بالضرورة، فمن الدهرية من يجمع بين الإيمان بإله مدبر للكون وأزلية العالم، وهو ما يذهب إليه أيضًا فلاسفة إسلاميون كأبي بكر الرازي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد، وإن لم يعدوا من الدهرية.

ومن أبرز أعلام
الدهرية في العصر العباسي أبو الحسين أحمد بن يحيى بن اسحق ابن الرواندي الذي
تناوله الشيخ علي بن منصور الأريب الحلبي والمعروف بـ«ابن القارح» بالذم في رسالته
على المعري، وذكر عددًا من مؤلفاته الكثيرة التي لم يُعثر علي أي منها حتى الآن.
وفي رده على ابن القارح يسفه أبوالعلاء المعري كتب ابن الرواندي، على الرغم مما في
إرث أبي العلاء نفسه من تضمين أو تصريح بقدم العالم.

ويذكر «خلف» في دراسته، أن مناظرات عدة دارت بين الدهرية وعلماء المسلمين، وكان أشهرهم الجهم بن صفوان (696- 746)  زعيم فرقة الجهمية، وواصل بن عطاء (699 – 767) مؤسس فرقة المعتزلة، والإمام أبوحنيفة النعمان صاحب المذهب الحنفي وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإن كان الأخير أكثرهم جهدًا في ذلك.