مساء الأحد 20 أكتوبر/ تشرين الثاني الجاري، لم يكن اثنان من النسوة الجزائريات اللواتي يعشن في باريس يتوقعن أن يظهر لهن فرنسيتان تطعنهما بسكين حاد عدة طعنات ليسقطا على الأرض مدرجتين في دمائهن أمام أطفالهما بالقرب من متنزه دي مارس المطل على برج إيفل… فقط لأنهما محجبتان.



تعتبر أزمة المسلمين في فرنسا عبر العقود الماضية من أبرز القضايا التي تشتعل من حين لآخر سواء على الجانب السياسي أو العقائدي، فالرئيس ماكرون الذي يتحدث بخطاب يميني يستقطب فيه أحزاب اليمين لدعمه في الانتخابات القادمة بعدما فقد الكثير من شعبيته خلال احتجاجات السترات الصفراء، كان هو نفسه من حصل على دعم الجالية المسلمة في فرنسا حتى ينتصر على ممثلة اليمين المتطرف، وكأنهم كانوا بين شقي رحى وفي كليهما يكمن الألم.

لكن الأزمة الفرنسية مع المهاجرين المسلمين قديمة فعلاً، ولها جذور وقصص كثيرة باعتبارها تتعامل مع ثاني أكثر ديانة في فرنسا من حيث عدد السكان ومن حيث احتوائها على أكبر جالية مسلمة في أوروبا بحسب الأرقام الرسمية، لذا ربما من المهم النظر على ذلك البعد التاريخي لتلك القصة.

متى بدأت القصة؟

ترجع الدراسات بداية الهجرات الكبيرة للمسلمين إلى فرنسا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي الفترة التي كانت تعاني فيها فرنسا من ويلات الخروج من الحرب وبحاجة لأيدي عاملة بنسبة وفيرة لإحياء الحالة الاقتصادية من جديد، وقد كانت البلدان الأفريقية هي المورد الأكبر لهؤلاء المهاجرين، حيث تشير دراسة Muslim Immigration in France: An Interdisciplinary Exploration التي أجرتها الباحثة كاثلين جويل عام 2007 بجامعة ميامي أن أعداد المسلمين في فرنسا في العام 1989 قدرت بحوالي 1.9 مليون شخص من المغرب العربي ومن تركيا وغرب أفريقيا قدرت الأعداد بـ 200 ألف و100 ألف على التوالي، وعلى مدار السنوات التالية شكلت الجالية المسلمة ازديادًا واضحًا في فرنسا نظرًا لارتفاع معدلات الخصوبة وزيادة الإنجاب بجانب استمرار توافد الهجرات على فترات مستمرة.

يصل عدد المسلمين في فرنسا إلى أكثر من 5 مليون نسمة من عدة بلدان الشق الأكبر منها من البلدان المغاربية والغرب الأفريقي وتركيا.

وتشير الدراسة كذلك إلى أن جزءًا كبيرًا من هذه الهجرات وخصوصًا القادمة من شمال أفريقيا، كان السبب الرئيسي فيها هو الدمار الذي لحق ببلدان شمال أفريقيا اقتصاديًا ومجتمعيًا بسبب الاستعمار الفرنسي، وبسبب الخطاب الترويجي الفرنسي الذي كان يعمل طوال الوقت على التعامل مع نطاق الدول المغاربية باعتبارها امتدادًا للدولة الفرنسية في أفريقيا، وعلى الرغم من القيود التي كانت موضوعة على الهجرة إلى فرنسا، إلا أن المهاجرين بحثوا فيها عما فقدوه في بلدانهم بسبب الاستعمار الفرنسي نفسه.

تشير الدراسة كذلك إلى أن معظم المهاجرين إلى فرنسا يقطنون في مارسيليا وليون وليل وباريس، أما الذين تنقصهم الشهادات التعليمية، يميلون إلى التحرك نحو المناطق الصناعية وأن الغالبية العظمى من المتواجدين عند المناطق الصناعية من القادمين من الغرب الأفريقي.


تكشف الدراسة أيضًا أن الكثير من القادمين من العمق الأفريقي يكثر تواجدهم على أطراف المدن الكبرى ويصعب حصولهم على سكن في الأحياء الموجودة في المدن الرئيسية، كما أن الكثير منهم يعيش في حالة من الفقر، وتشير الدراسة إلى أن الكثير منهم ينتمون إلى الديانة الإسلامية كمسمى فقط، لكنهم لا يمارسون أي شعائر مرتبطة به، وهؤلاء لا يشكلون خطرًا ملحوظًا ونادرًا ما يتم تداول قضاياهم في الإعلام الفرنسي، على الرغم من أن بلادهم حتى الآن ترسل نواتجها القومية المحلية السنوية إلى الخزانة الفرنسية ضمن الاتفاقية الاستعمارية التي فرضتها فرنسا تحت مسمى فرانك غرب أفريقيا.

تشير المراجع التاريخية التي اعتمدت عليها الدراسة كذلك إلى أن الهجرات التي وصلت فرنسا لم تحظى بأي اهتمام إعلامي أو سياسي وظل الجانب المتعلق بالتعامل معها هو ذلك المتعلق بفرض حالة من الاندماج وهو ما يشكل جزءًا مهمًا من صراع الهوية.

يشير تصنيف أعدته إحدى الجامعات إلى أن شقًا لا بأس به المهاجرين المسلمين إلى فرنسا ما زالوا مستمسكين بعقائدهم ويمارسون الشعائر بشكل منتظم، حيث قسم ذلك التصنيف المهاجرين عبر بلدانهم فجاءت الجزائر في المركز الأول بحوالي 1.55 مليون مهاجر، تليها المغرب بمليون مهاجر وتونس بـ 350 ألف مهاجر وبعدهم السمر الأفارقة بـ 250 ألف شخص وتركيا بـ 315 ألف مهاجر ومن تحولوا للإسلام من الفرنسيين أنفسهم بحوالي 40 ألف شخص ويليهم مهاجرين غير شرعيين وطالبي لجوء من عدة بلدان مختلفة بحوالي 350 ألف والآسيويين بحوالي 100 ألف و100 ألف من مختلف بلدان العالم، وعلى الرغم من تلك الكثافة وذلك التنوع إلا أن أزمة هوية ومعتقد لا زالت قائمة في فرنسا حتى الآن.

جزء من تلك الأزمة متعلق بأن فرنسا وعبر تاريخها الاستعماري لم تقبل في أي وقت أن تواجه بأي شكل من أشكال الاختلاف عنها، وكان تاريخها الكولونيالي دائمًا يشير إلى رغبة جامحة في وضع المعايير الخاصة بها سواء داخل الدول التي تستعمرها أو في الداخل الفرنسي نفسه، حتى أن أول مسحد بني في فرنسا عام 1926 كان لأجل الجنود المتواجدين في القوات الفرنسية إبان الحرب العالمية الأولى، على الرغم من أن المراجع تشير إلى أن المسلمين موجودون في فرنسا منذ 1830 لكن لم يحصلوا على حق إنشاء مسجد واحد طوال تلك المدة، وكان يلزمهم المشاركة في الحرب مع فرنسا حتى يحصلوا على تلك الميزة، كما أنها وبحسب الدراسة لم تتأخر في استخدام مستعمراتها في الشمال الأفريقي كمصدر للعنصر البشري إبان الحرب العالمية الثانية.

فقر وتهميش

يفرض الواقع الاجتماعي نفسه دائمًا في أزمة المهاجرين، فالأزمة السياسية والعقائدية ليست وحدها هي من يحكم تلك القصص، فأزمات الفقر والتهميش الاجتماعي والعيش في أطراف المدن هي السمة الغالبة لشق كبير من المهاجرين في فرنسا، فمعدلات الفقر بين المهاجرين المسلمين أعلى بثلاث مرات من المعدلات القومية، بجانب الارتفاع الحاد في نسب البطالة وانخفاض الأجور بنسبة تصل إلى 30 بالمائة عن معدلات الأجور المعتادة.

تشير التقارير كذلك إلى حالة حادة من التهميش الاجتماعي تظهر في العجز عن الحياة في المدن والأحياء الرئيسية والاقتصار على التجمع مع مختلف فئات المهاجرين في أحياء معزولة على أطراف المدن يسود فيها الفقر والبطالة ومعدلات الجريمة.

والملاحظ بالذكر أن التقارير الاستخباراتية الفرنسية نفسها أشارت سابقًا إلى تلك الظاهرة وإلى أن زيادة نسب الفقر والتهميش في تلك الأحياء يجعل من التفكير في مسألة الولاء للدولة الفرنسية بالنسبة لسكان هذه الأحياء أمرًا صعبًا وغريبًا، نظرًا لشعورهم بالاغتراب الكامل عن النطاق العام، وأن تلك الحالة المزرية تجعل منهم هدفًا سهلاً لاستقطاب الجماعات المتطرفة التي يمكنها تقديم الدعم المادي والوظيفي، ذلك أن الكثير منهم يُرفضون في طلبات التوظيف في كثير من المؤسسات حتى في حالة الكفاءة لأسباب عنصرية.

تكشف دراسة بعنوان Being Muslim in France أن نسبة كبيرة من المهاجرين باختلاف جنسياتهم لا يستطيعون الحصول على مساكن مناسبة، وأنهم يعيشون في تجمعات سكنية أشبه بالجيتو، حيث تكشف الدراسة أن هناك مالا يقل عن 700 ألف مهاجر يعيشون في تلك التجمعات السكنية.

تكشف الدراسة كذلك أنه ما لا يقل عن 1.8 مليون مهاجر في تلك الأحياء يعيشون تحت خط الفقر، ولا يمتلكون سوى حد الكفاف.

أجرت الباحثة ماري آن فولت دراسة ما بين الأعوام 2013-2014 كشفت فيها عن مجموعة هامة من الحقائق فيما يخص المهاجرين المسلمين في فرنسا، أبرزها هو قيام الباحثة بإرسال مجموعة كبيرة من السير الذاتية -غير الحقيقية- لأشخاص مسلمين إلى شركات مختلفة ومتعددة في مختلف الأنحاء الفرنسية وفي نفس الوقت أرسلت سيرًا ذاتية مطابقة لأشخاص مسيحيين كاثوليك ويهود إلى الشركات نفسها، وكانت النتيجة أن المسلمين هم الأقل حصولاً على القبول لدى الشركات في مختلف القطاعات على الرغم من تطابق السير مع نظيراتها المسيحية واليهودية، حيث إن نسبة قبول المسلمين شكلت 10% فيما شكلت سير اليهود الذاتية 16% والكاثوليك 21%.

كما كشفت الدراسة أن النساء بوجه عام هم الأكثر قبولاً لدى الشركات، حيث إن معدل قبول النساء لدى الشركات من المسيحيين الكاثوليك بلغ 40% فيما انخفض أمامه معدل قبول النساء المسلمات بصورة واضحة، مما يعني أن كونك امرأة مسيحية في فرنسا فإن فرصتك للحصول على وظيفة أعلى من الجميع رجال ونساء بكافة دياناتهم وجنسياتهم.

كشفت الدراسة كذلك عن ملاحظة مهمة للغاية وهو أن المسلمين الذين يحملون أسماء فرنسية وضعوا في نفس خانة الرفض مع أصحاب الأسماء الأخرى حيث إن السير الذاتية المرسلة باسم آدم أو ماريا عوقبوا بعدم التواصل معهم على عكس السير الذاتية المرسلة باسم ناتالي أو ميشيل.

الملاحظ في تلك الحالة هو أن الدولة الفرنسية ممثلة في ماكرون كرئيس للجمهورية لم تضع في اعتبارها أزمات الفقر والتهميش الاجتماعي والبطالة كواحدة من العوامل التي يجب إصلاحها من أجل الحصول على الولاء الكامل الذي تبحث عنه الدولة الفرنسية، وهو تساؤل يستدعي التحقق والتفكير.

تابع لا صديق

شكلت أزمة الحرب الفرنسية في الجزائر معضلة هامة في تاريخ مواجهتها مع المسلمين بشكل عام، فالجزائر ولوقت طويل كانت مستعمرة فرنسية بقوة الاحتلال وكذلك كانت تجبر على تجنيد أبنائها قسرًا للمشاركة في القوة الفرنسية خلال الحربين العالميتين، لكن محاولات الجزائر نيل استقلالها قوبلت بأقسى قبضة ممكنة، فلو تجاهلنا إلقاء جثث المقاتلين الجزائريين من الطائرات فوق منازلهم والمذابح القاسية التي أصبحت الجزائر بموجبها بلد المليون شهيد، إلا أن ذلك الخط الممتد استمر في الداخل الفرنسي نفسه.

مذبحة باريس.. هكذا سجلها التاريخ ففي السابع عشر من أكتوبر/تشرين الثاني عام 1961 اجتمع مجموعة من المتظاهرين الجزائريين في مظاهرة سلمية تطالب بالرحيل الفرنسي عن الجزائر وحصولها على الاستقلال، لكن النتيجة كانت تحرك مفوض عام الشرطة موريس بانون الذي قرر قتل المشاركين في التظاهرة، وكانت النتيجة بحسب ما ذكر مؤرخون ونقلت صحيفة اللوموند الفرنسية ما بين 150-200 ضحية.

كان الحدث مفزعًا للكثيرين في أوروبا حتى أن بعضهم صنفه بأنه أبشع مواجهة لتظاهرة سلمية في أوروبا كلها كما صنفها المؤرخان جيم هاوس ونيل ماكماستر.

في النهاية يمكننا فهم أن الحالة الفرنسية على وجه التحديد وفي وسط كل القوميات الأوروبية تحمل خصوصية تستحق النظر، فالتاريخ الاستعماري لفرنسا وإن لم ينته حتى الآن، فهو لا زال متبوعًا في الدمج القسري وانتزاع الهويات وإحلال هويات جديدة تتلاءم مع ما تراه فرنسا مناسبًا لها مع التغاضي الكامل عن نتائج الاستعمار الدامية المستمرة حتى الآن والتي لا يمكن إغفال آثارها المدمرة بأي شكل، كما أن حادثة طعن السيدتادين الجزائريتين قرب برج إيفل أمام أطفالهمة فتحت الباب أمام التفكير في تداعيات خطاب ماكرون الأخير وحالة الهياج الجماعي التي خلقها والتي يخشى أن تكون لها تداعيات خطيرة.