لا شك أن العتبة الأولى لقراءة أي عملٍ أدبي هي عنوانه، ولا شك أن القارئ سيكون مدفوعًا من اللحظة الأولى لاستكشاف ماذا وكيف يمكن أن يكون «ابتكار الألم» الذي يريد القاص والروائي الجزائري محمد جعفر الإشارة إليه في مجموعته القصصية الصادرة مؤخرًا، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة الملتقى للقصة القصيرة بالكويت.

سيكون القارئ مدفوعًا إلى التعرف على طريقة أو وسيلة ما لابتكار الألم، عوضًا عن ابتكار واكتشاف أشياء أخرى أكثر أهمية وجدوى في حياته، كالسعادة والاستقرار والهدوء والراحة مثلاً، وهذا ما سيجد صداه في قصص المجموعة العشر والتي تنتقل بين حالات ومواقف مختلفة بين أبطال مهزومين مترددين قلقين، يبحثون طوال الوقت عن شيءٍ مفقودٍ أو حلمٍ ضائع، وإذا هم بالنهاية أمام الألم والمأساة بأي وجهٍ من الوجوه، وبطريقة ربما لم يحسبوا لها أبدًا حسابًا!

منذ البداية يؤرق «الشك» حياة الزوجة في القصة التي تحمل هذا العنوان، فتدور حول سيناريوهات مختلفة للتعامل مع زوجها حتى نهاية القصة، كذلك في «الحاجز» يقف المناضل السابق محتارًا متأهبًا مترددًا بين ما خرج إليه وما يدور حوله، فيما الكاتب يبث بين السطور ما انتهى إليه وضع الناس في الجزائر في تلك الفترة العصيبة من تاريخها، كذلك ينتقل جعفر من قلق العالم الواقعي ومنغصاته المعروفة إلى عالم الكتابة كاشفًا للقارئ بعضًا من كواليسها التي تبدو مألوفة للبعض غامضة عند الآخرين، في قصته «القضية» التي تدور حول الكاتب الذي يسعى لاسترضاء الجميع بحثًا عن فكرة ومضمون قصته التالية:

حدَّث نفسه، الأفكار متاحة للجميع، وله أن يتصيد منها ما هو مناسب. وحملق داخله مفكرًا. عليه أن يملك مهارة وخِفة القط ليتصيد ما يصلح منها. ولم يكن يقصد بأي حال من الأحوال ذلك القط الأسيان الذي يعيش وسطهما، هو وزوجته. فمثله لا يصلح لغير التمسح برجله ومضايقته وطرح برازه أينما حل. لم يكن قد حدد بعد الموضوع الذي يخوض فيه. يريد أن يكتب ما هو جدير وملفتٌ للانتباه، كذلك يجب أن يأسر لجنة التحكيم قبل القراء. عليه أيضًا أن يستلهم مما هو جريء ومثير. كما لن يسعه أن يعري واقعه ويفضحه إلا إذا تحرر من خوفه. هكذا يكون الإخلاص للكتابة، القراء سيفهمونه لا محالة. إن لم يكن اليوم فغدًا. لكن ماذا عن لجنة التحكيم؟





من قصة «القضية»

وإذا كانت قصص المجموعة تتعرض لمواقف وحالات يومية معاشة بسيطة أو عابرة، يتم رصدها بقلم القاص القادر على التقاط أدق التفاصيل، فإنه لايبقى إلا أن يمارس بعض ألعابه السردية، تلك التي يجرب فيها قلمه وربما يستفز بها القارئ، متبعًا أسلوب كسر الإيهام مثلاً حينما يتدخل في تفاصيل قصة «الأعمى مبصرًا» ليضع بين قوسين تدخلات الكاتب وأفكاره المختلفة التي يمكن أن تغير من خط سير العمل ومصائر أبطاله، وكأنه بذلك يشرك القارئ في كتابة النص وإعمال خياله مع أبطاله، لا سيما أن القصة تدور بين حبيبين فرقهما الزمن وآن أوان لقائهما.

اقرأ أيضًا:

مجموعة «مأوى الغياب»: دوران الخيال في عوالم الكتابة

بل وأكثر من ذلك حينما يقدم في قصته «التباس» حكاية مقسمة على ثلاث لوحات/مشاهد تبدو سينمائية ولكنها مكررة بنفس تفاصيلها، للدرجة التي قد تدفع القارئ إلى استعادة قراءتها وتأمل تلك التفاصيل ربما يجد فروقًا بين اللوحات الثلاث لكنه يفاجأ بهذا التطابق والتكرار، وهو ما يشير بطريقة مختلفة إلى تكرر مثل تلك الحوادث القمعية بلا أي رد فعل مختلف من جانب المواطنين البسطاء! وفي قصة «المرأة التي سقطت من غيمة» يقسّم القصة إلى أربعة أقسام كل قسم بعنوان مختلف، ولكنها تجتمع في حالةٍ واحدة، سيكتشف القارئ أن من بينها اسم المجموعة «ابتكار الألم»، وكأن هذه الحالة هي التي أوحت للكاتب أن يسمي المجموعة كلها باسمها.

جاهد يكبت أمله فيما راحت دماؤه تسيح وتغطي الأرض حوله. كان يتنفس بصعوبة. وما من حكمة يمكنها أن تلطف ما بات يحدسه. وفي انتظار ذلك الذي قد يأتي ولا يأتي محنةٌ أخرى. وطال انتظاره حتى غشاه اليأس فغاب عن الوعي. لاحقًا استفاق على شبح يقف عليه. شخص مظلم وبلا ملامح قام يغطي له وجهه بجريدة كان يحملها معه. ثم إنه انصرف عنه يتجاوزه بخطى وئيدة..





من قصة «صاحب ظله»

يمزج الكاتب ببساطة بين عوالم القصة الواقعية والفانتازية المتخيلة، ويدور بشخصياته وأفكار عالمه بين هذا وذاك بكل بساطة، وهو في إطار ذلك يسعى لتقديم فكرته التي يحملها العنوان بأكثر من طريقة، نجد ذلك بوضوح في قصة «صاحب ظله» حيث تحل الفانتازيا محل الواقعية، ويحكي فيها ما يدور من صراع بين الكاتب الصحفي وأفراد مجتمعه الذين يمكن أن ينهوا حياته، كما نجده في قصة «الفحل الذي أكل قلبه» التي تمتزج فيها حالة من الواقعية متمثلة في موقف الكاتب ودوره في مساعدة كاتبة شابة، في الوقت الذي يفكر فيه هذا الكاتب في استغلالها لتتحول إلى فانتازيا كما يطرحها عنوان القصة.

هكذا تدور عوالم قصص المجموعة العشرة حول شخصياتٍ تسعى جاهدةً للتحقق والوجود، ولكنها تتعثر بشكلٍ أو بآخر وكأنها تبقى أسيرة لألمٍ خفي يصاحبها، مما يجعلها وكأنها تخلق هذا الألم وتبتكره، سواء كان هذا الألم من همٍ خاص بها وبعلاقتها بأقرب الناس إليها أو هو همٌ عام يتعلق بقضايا كبيرة كقضايا الوطن أو غير ذلك.

محمد جعفر روائي وشاعر وقاص جزائري، صدر له رواية «هذيان نواقيس القيامة» عام 2014 التي تعد تجربة خاصة في أدب الرواية البوليسية، و«مزامير الحجر» عام 2015 وبدا فيها مهتمًا بحال المثقف الجزائري، كما أصدر ديوانًا شعريًا بعنوان «العبور على متن الحلم» عام 2013، ومجموعة قصصية بعنوان »طقوس امرأة لا تنام»، تعد «ابتكار الألم» الصادرة عن منشورات ضفاف مجموعته القصصية الثانية وقد وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية.