دائمًا وأبدًا، لا تسلم الحياة من سلاسل المقايضات المستمرة، ومن خلفها نأكل أو نُؤكل، نتمسك بالسلم أو نركب الخطر، هذا ما اتبعته حرفيًا الجماعة الإسلامية، التي تعقد أول انتخابات لذراعها السياسية حزب البناء والتنمية، بعد عامين من تجميد نشاطها في تحالف دعم الشرعية، المساند للرئيس المعزول محمد مرسي، تمهيدًا لعقد المؤتمر العام للحزب في مايو / أيار المقبل، ما يعد ضربة جديدة لحلف الإخوان المتداعي، منذ 3 سنوات، ولا تزال أفكاره تبحث عن تجارب تلائمها !


كيفت عادت الجماعة الإسلامية للمشهد السياسي؟


تعلم الجماعة الإسلامية جيدًا أن الاختلاف مع سنن الإخوان السياسية أو الفكرية من مستحيلات الواقع، خاصة في ظل إدارة «مكتب لندن» الحالية، التي فسّخت جسد الإخوان وزادت مستقبلها ظلمةً وحلكةً، فاتخذت قرارًا قبل عامين بالانسحاب نهائيًا من تحالف دعم الشرعية، وسط أنباء عن عقد صفقة مع الأجهزة الأمنية، ربما أكثر ما يشير إلى إبرامها بقوة خروج القيادي التاريخي بالجماعة حسن الغرباوي، أميرها في شرق القاهرة، بعد القبض عليه، بتهمة الانضمام إلي جماعة أنشئت على خلاف القانون عقابًا له على مشاركته في تحالف دعم الشرعية.

نفي طارق الزمر، رئيس الحزب المقيم في قطر، انسحاب «البناء والتنمية» من تحالف الإخوان، ومحاولته التماسك قبل عامين وحث أتباعه على الصمود، كان سرابًا ومحاولة لاستهلاك الوقت دون داعٍ، في ظل تأكيد كل الشواهد إجراء اتصالات مكثفة بين قيادات الجماعة في مصر والنظام، للوصول إلى تسوية سياسية، خوفًا من عودة شبح صدام التسعينيات المسلح، وزاد الاتصالات سرعة وفاة عصام دربالة، رئيس مجلس شورى الجماعة، وأحد أهم أقطاب الجناح المساند للإخوان في سجنه، ما كان ينذر بتصعيد غير مأمون العواقب، إثر اتهام الجماعة رسميًا للأمن بالتسبب العمد في وفاته.

قبل الانسحاب تدرج ظهور قيادات الجماعة القدامى في المشهد العام، بعد فترة اختفاء عن التأثير والزخم السياسي والدعوي، فيما بعد ثورة 25 يناير، مرورًا بفترة حكم محمد مرسي لصالح طارق الزمر المقرب من الإخوان، وعاد عبود الزمر وأسامة حافظ لتوجيه انتقادات علنية قاسية لمواقف الإخوان المناهضة لموقف الجماعة الرامي إلى إيجاد حل سياسي سلمي في البلاد، اتقاءً لشر الضربات الأمنية، التي يعلمون قوتها جيدًا.

وحذر عبود وحافظ «صف الجماعة» من التحالف مع الإخوان الرافضة للتهدئة، خاصة أنها كانت تروج لنفسها في السابق بالأوساط السياسية، وخلال عقد صفقاتها مع نظام مبارك، أنها البديل السلمي للجماعة، التي انتهجت العنف في الثمانينيات والتسعينيات، ما كان يعود عليها بمزيد من التضييق والذم المجتمعي والسياسي.

وتبع هجوم قيادات الجماعة علي الإخوان الابتعاد تدريجيًا عن انتقاد الرئيس عبد الفتاح السيسي، مرورًا بفض التحالف رسميًا، وهو ما أنهى فعليًا اتحاد دعم الشرعية، وتبخر في الهواء، بعدما كان يحتل الواجهة الإعلامية والسياسية للتيار الإسلامي الداعم للإخوان، في ضربة سياسية ناجحة للأمن الوطني، الذي عاد إليه ملف الإسلام السياسي مرة أخرى، بعد أن كان في عهدة رئاسة الجمهورية، إبان عزل مرسي، وهو الأمر الذي تقرؤه قيادات الجماعة الإسلامية بامتياز، وترغب في استثماره، حتي تبقي على الرمق الأخير لوجودها في حيز التفاهمات السياسية، وعدم تحولها إلى ملف أمني لا حيلة له ولا قوة.

وكان لافتًا عودة «الجماعة الإسلامية» دعويًا للعمل في بعض المساجد، وتنظيم مؤتمرات وندوات، دون مضايقة من الأمن، وبالتبعية أجهزة الإعلام، وآخرها المنتدى الأدبي 36 للجماعة في أسيوط، وليس الدعوة وحدها، بل يمارس حزب البناء والتنمية نشاطه السياسي بكل أريحية، بعد ما نفذ كل بنود تعهداته بالانفصال عن الإخوان، عبر سلسلة من القرارات التدريجية، أبرزها وأكثرها وضوحًا كان الانسحاب من «مبادرة واشنطن» التي دشنتها كوادر إخوانية العام الماضي، في محاولة للتوافق مع قيادات وكوادر وأفكار ثورة 25 يناير.

وردت الأجهزة الأمنية على التزام الجماعة الإسلامية بتسهيل كل إجراءات جنازة الشيخ عمر عبد الرحمن، الزعيم الروحي للجماعة، والسماح بتنظيم جنازة له، وهو أمر غير مسبوق في فترات التوتر السياسي بين الدولة والإسلاميين، الأمر الذي استدعى توجيه شكر رسمي لأجهزة الدولة من الجماعة وأسرة الشيخ الراحل.

وتبع ذلك تصريحات لأسامة حافظ، رئيس مجلس شورى الجماعة، يحاول فيها استباق أي انتقاد إخواني وتشكيك في انتخابات البناء والتنمية، واعتبر القيادي المخضرم بالجماعة أن الانتخابات تجري لعدم وجود خصومة تمنعهم من مد أيديهم لما فيه صلاح الوطن، واعتبرها إحدى حلقات السعي لترميم مؤسسات البلاد السياسية، في ظل قناعاتهم أن كوادر الجماعة الإسلامية يستطيعون المشاركة في البناء لا الهدم.


ماذا بعد العودة؟

يبدأ «البناء والتنمية» حركة تجديد شاملة، تناسب وضعه الحالي سياسيًا وفكرياً عبر اختيار قيادات جديدة في كل المناصب، في ١٣ مايو/ أيار المقبل، بعدما فتح باب التسجيل للراغبين في خوض انتخابات الحزب، على مقاعد أمناء المحافظات، وأعضاء الهيئة العليا، ورئاسة الحزب، والأمين العام، مع رفض حق ترشح أعضائه من خارج مصر، ما يعني حذف كل المناصرين للإخوان من ذاكرة الحزب السياسية والدعوية، وعلى رأسهم دون شك طارق الزمر، رئيس الحزب الحالي، وأهم المطلوبين لأجهزة الدولة الأمنية.

وتحافظ الجماعة وذراعها السياسية على تقاليد التيارات الإسلامية، في السماح لقياداتها الموجودة بالسجون داخل مصر، بالمشاركة في الانتخابات، وعلى رأسهم علاء أبو النصر، أمين عام الحزب، المحبوس على ذمة قضية أمن دولة، بجانب صفوت عبد الغني، رئيس المكتب السياسي، بسبب مشاركتهما في تحالف دعم الشرعية المساند للإخوان، ولكن فرص نجاحهما تكاد تكون معدومة حال ترشحهما فعليًا، بينما تبقى فرص الفوز كاملة على رئاسة البناء والتنمية، في جانب نصر عبد السلام، القائم بأعمال رئيس الحزب، وينافسه من بعيد صلاح رجب، الذي سبق له القيام بأعمال رئيس الحزب، أثناء وجود نصر في السجن، رغم عدم إفصاحهما عن نية الترشح لرئاسة الحزب حتى الآن .

فيما يتنافس على منصب الأمين العام جمال سمك، أمين عام الحزب حاليًا، الذي تم تصعيده بعد القبض على علاء أبو النصر، وينافسه أحمد الإسكندراني، المتحدث الرسمي باسم الحزب، وتبدو الفرص الأقرب حاليًا للحصول على مقاعد القيادة داخل الحزب، للقيادات الذين قاموا بعمل مراجعات، للتخلي عن العنف كمنهج حال وقوع أي خلاف مع الدولة، بل للذين يؤمنون بأهمية التنسيق الأمني حاليًا، وهو الأمر الذي أعلنه جمال سمك بلا مواربة، في أحد تصريحاته، وأكد فيها أن حزبه يرحب بالتنسيق مع الأمن لإتمام إجراء الانتخابات، التي لا تتضمن أى مخالفة قانونية أو أمنية، حسب وصفه.


اشتباكات تاريخية بين السلفيين والإخوان

دون استعراض تاريخي، يكفي الإشارة في سطور إلى إشكاليات صعبة، تحكم علاقة الإخوان بعموم السلفيين، فالأولى ترى أنها الجماعة الأم، وعلى كل فصائل الإسلاميين أن يقبلوا بقيادتها دون قيد أو شرط، بينما ليس من حقهم مراجعة الإخوان في شيء، حتى لو كان أمرًا خاصًا يؤتي أثره على شئون عامة بعموم التيار الإسلامي، مثل انفجار الصراع داخل الإخوان.

والحلف المتبقي مع الإخوان من فصائل السلفيين أثار الأزمة قبل أسابيع، بعدما بات يجاهر بضرورة مشاركته في حل أزمات الإخوان الداخلية، التي تنعكس سلبًا على صورة التيار الإسلامي، خاصة بعدما ولاها القيادة، وشاركها في معاداة النظام الحاكم، وهو الأمر الذي ترفضه الإخوان بكل قوة، وعبرت عن ذلك بوضوح على لسان حسين عبد القادر، المتحدث السابق لحزب الحرية والعدالة، الذي أكد في حلقة ساخنة على قناة مكلمين بمشاركة قيادات سلفية، أحقية «شورى الإخوان» القبول أو الرفض في الأخذ برأي علماء الأمة تجاه الأزمات والمشاكل الإخوانية.


ودائما ما تزعج النظرة الفوقية للإخوان التيار السلفي، ويختزن أبناءه مواقف سلبية سابقة في حق قادتهم الأوائل، ما يجعلهم يجاهرون برفض هيمنة الجماعة الأم على خيارات التيار الإسلامي، لدرجة أن بعض خبراء الإسلام السياسي يرجعون أصل حالة العداء المعلن من حزب النور للإخوان والمشتعلة منذ عزل مرسي لترسبات مهينة وموجعة، انتهجتها الإخوان ضد قيادات الدعوة السلفية بالإسكندرية في بداياتها.

ولا تزال واقعة إهانة الشيح ياسر برهامي حاضرة في الأذهان بعدما اعتدوا عليه وحملوه وألقوا به خارج أحد المساجد، الذي كان يلقي به خطبة، لمخالفته نهج الإخوان في الدعوة، وخوفًا من سطوة التيار السلفي الجديد وقتها، الذي انطلق من أرضية دينية، لطالما غردوا فيها وحدهم على المستوى السياسي والدعوي.