نريد تعريض اللاعبين لبيئة قاسية نفسيًا بعض الشيء. هنا تعيش واحدة من أقوى القوات العسكرية على مستوى العالم في ظروف صعبة، سيدرك اللاعبون أن هناك عالمًا آخر أكثر توترًا وأقل رفاهية.

في شهر يونيو/حزيران من عام 2017، وصل لاعبو المدير الفني للمنتخب الإنجليزي جاريث ساوثجيت إلى سان جورج بارك في مدينة بورتون الإنجليزية في معسكر تحضيري لملاقاة منتخبي إسكتلندا وفرنسا ضمن تصفيات مونديال روسيا عام 2018.

ما لبث لاعبو إنجلترا الوصول إلى المدينة حتى

استقبلهم أحد قادة فرقة المارينز

الملكية في بريطانيا ليخبرهم أن هناك تغييرًا في خطة المعسكر هذه المرة. لن يكون هناك تدريبات بالكرة، لن يكون هناك سبورة لشرح خطط وتكتيكات الفرق المنافسة. كل ما عليهم فعله هو استبدال أطقم التدريبات ببدل المارينز المموهة والانصياع الكامل للتعليمات.

قضى

لاعبو المنتخب الإنجليزي 48 ساعة

في سلسلة من التدريبات البدينة الشاقة في الطين والصرخات التي تنشر توترًا في الأجواء حتى يستطيع ساوثجيت تصنيفهم وفقًا لتحملهم لضغوطات المواقف الصعبة. ومثلها مثل أي شيء في الحياة، ستجد أن تلك التجربة نالت رضا بعض اللاعبين وتسببت في سخط البعض الآخر. ولكنها تظل تجربة اختيارية، تستطيع رفضها كُرهًا في الحياة العسكرية وضوابطها التي يراها البعض مبالغًا فيها في بعض الأحيان.

لكن ماذا لو كان الأمر إجباريًا؟ ماذا لو كان ذلك التجنيد هو الصخرة التي ستتحطم عليها طموحاتك؟ بل ماذا لو كانت تلك الطموحات قد بلغت عنان السماء ولم يستطع أحد من أبناء بلدك مجاراتها؟ هذا بالتحديد ما يحدث مع بعض لاعبي كرة القدم الذي يأتون من بلاد سنّت قوانين التجنيد الإجباري دون مراعاة لنجاحات استثنائية مثل تلك.


الأمثلة لا تنتهي

1. سون هيونغ مين

شاب موهوب من مواليد عام 1992 في كوريا الجنوبية. تألق منذ عام 2010 على ملاعب البوندسليجا في ناديي هامبورج وبايرن ليفركوزن على الترتيب، حتى التقطته أعين المدرب الأرجنتيني ماوريسيو بوتشيتينو عام 2015 فانتقل إلى نادي توتنهام هوتسبير الإنجليزي ليصبح واحدًا من أهم نجوم البريمييرليج.


تنص القوانين الكورية

على أداء الذكور للخدمة العسكرية بمجرد بلوغهم سن الـ 27 مهما كانت أوضاعهم الاجتماعية والوظيفية طالما لا يوجد عائق بدني يمنع ذلك. الاستثناء الوحيد الذي يمنح المواطن الكوري إعفاءً من أداء الخدمة العسكرية هو تحقيق ميدالية ذهبية في إحدى البطولات الدولية المعتمدة من اتحاد اللعبة.

في كرة القدم يبدو الأمر صعبًا بعض الشيء لـ سون نظرًا لعدم قوة منتخب بلاده عالميًا. فالمنتخب الكوري لم يقنع في المونديال باستثناء انتصارهم على الماكينات الألمانية بهدفين دون رد، لكن تلك المباراة لم تشفع لـ سون بالطبع لنيل إعفاء من الخدمة العسكرية. فرصة سون الوحيدة ستكون الحصول على ذهبية دورة الألعاب الآسيوية. تحقيق أي ميدالية لونها غير ذهبي يعني ضمنيًا أن سون سيترك لندن ويعود إلى بلاده نهاية هذا الموسم لتأدية «الواجب الوطني».

2. إريك كانتونا

بدأت مسيرة كانتونا بشكل احترافي مع نادي أوكسير الفرنسي عام 1983. قضى إريك موسمًا واحدًا فقط مع الفريق و

تم استدعاؤه في نهايته

لقضاء الخدمة العسكرية في فرنسا لمدة عامين. نص الدستور الفرنسي عقب الثورة الفرنسية على التجنيد الإجباري للذكور لضمان وجود قوة بشرية كبيرة في جيش الدولة لحمايتها في تلك الفترة، وفي عام 1996 تم البدء في تعطيل العمل بهذا القانون حتى تم تعطيله نهائيًا عام 2001.

كانتونا كان محظوظًا بشكل كبير حيث أُلزم بالخدمة العسكرية وهو في سن الـ 18 عامًا، مما سمح له بالعودة للملاعب وهو في سن صغير للمحاولة مرة أخرى. وقد أتت محاولاته بثمارها وهو في سن الـ 26 حيث انضم إلى كتيبة المانيونايتد ونجح في حصد 4 ألقاب للدوري الإنجليزي والعديد من الألقاب الفردية وشهرة لا زالت متمسكة به حتى اليوم!

3. محمد صلاح

في عام 2014 قرر «المعهد العالي للدراسات المتطورة بالهرم»

إلغاء قيد الطالب محمد صلاح

حامد غالي نظرًا لعدم حضوره الامتحانات لعدد معين من السنوات. أدرك عزيزي القارئ أنك مررت على اسم المعهد دون تركيز، حتى وإن ركزت في اسمه فإنك لن تستطيع تحديد أي نوع من الدراسات التي يقوم بها هذا المعهد، وما مدى تطورها الذي حرصوا على تصديره في اسم المعهد.

أغلب الظن أن صلاح نفسه لا يعرف الإجابة مثلنا تمامًا، ولكن لا يهم، فتلك هي الحيلة البسيطة التي يلجأ لها لاعبو الكرة في مصر لتأجيل خدمتهم العسكرية حتى سن الـ 30 الذي يسقط عنده التجنيد الإجباري مقابل دفع غرامة مالية غير مُجهدة. لكن صلاح لم يحضر الامتحانات لسنوات متتالية مما اضطر إدارة المعهد إلى فصله فأصبح لاعب تشيلسي الإنجليزي حينها مطلوبًا في مصر لأداء الخدمة العسكرية لأنه لم يعد على ذمة وزارة التعليم العالي.

تدخل على الفور إبراهيم محلب رئيس وزراء مصر حينها

وتم حل المشكلة بشكل غامض

، فلا أحد يعلم أي قانون قد استندوا إليه لاستثناء صلاح من الخدمة العسكرية، ولا أحد يعلم علام استندت وزارة التعليم العالي في إلغاء قرارها بالفصل. صحيح أن قرار الاستثناء قرار جيد خاصة عند النظر لإنجازات صلاح بعد استكمال مشواره الاحترافي، لكن الغموض في حل المشكلة هو الذي لم يكن جيدًا على الإطلاق.

4. مالديني وديل بييرو، وآخرون في إيطاليا

حتى عام 2004 كانت الخدمة العسكرية إجبارية في إيطاليا، لكن الوضع مع لاعبي كرة القدم كان مختلفًا بعض الشيء.

فوفقًا لتقرير سابق لصحيفة الجارديان

، فقد تم استدعاء باولو مالديني وروبيرتو مانشيني لأداء الخدمة العسكرية عام 1988. ضجت الصحافة والإعلام الذي كان قد هدأ لتوه من ضجة مماثلة قبلها بأيام قليلة بسبب استدعاء روبيرتو بادجيو لأداء الخدمة ذاتها لمدة 12 شهرًا.

كان الجيش الإيطالي حريصًا على صورته أمام الشعب بشكل كبير، فسمح للاعبي كرة القدم بخوض المباريات وأداء بعض الالتزامات مع أنديتهم وقضاء بعض الأيام القليلة في ثكنات الجيش.

يقول أليساندرو ديل بييرو

، والذي انضم رفقة فابيو كانافارو للجيش الإيطالي عام 1995، إن فترة انضمامه لكتيبة الرماة في ثكنات نابولي كانت كوميدية بعض الشيء، فقد كان يتظاهر بالتصويب فقط لكنه فعليًا لم يصوب في حياته بالبندقية إلا مرة واحدة فقط.

يؤكد حديث ديل بييرو مديره الفني في منتخب إيطاليا العسكري والذي قال ضاحكًا إن ديل بييرو وزملاءه اللاعبين كانوا يصيبون أعينهم عندما يؤدون التحية العسكرية! يبدو أن الأمر لم يكن معقدًا في إيطاليا وأن قرار إلغاء التجنيد الإجباري في عام 2004 كان لإنهاء تلك المسرحية الساذجة.


هل بالفعل هو الواجب الوطني؟

كرة القدم هي الحرب، فقط ينقصها تصويب النار.


قالها الكاتب الإنجليزي

جورج أورويل، والذي عُرف عنه معارضته لهوس الناس بكرة القدم في النصف الأول من القرن الماضي، ولكنه لم يكن يعلم بالفعل أن مع انتشار اللعبة سيضطر بعض من ممارسيها إلى تصويب النار بالفعل.

اقرأ أيضًا:

جورج أورويل يكتب: الروح الرياضية

أداء الواجب الوطني.

تلك هي الجملة التي عادة ما تصاحب أخبار استدعاء لاعبي كرة القدم لأداء الخدمة العسكرية. ولكن من قال إن الواجب الوطني قد تم اختزاله فقط في الخدمة العسكرية؟ فالواجب الوطني يتمثل في أداء كل فرد في هذا الوطن لمهامه على أكمل وجه فيما يتقنه ويبدع فيه.

العالم الدنماركي الفذ نيلز بور، صاحب الجهود الأبرز في كشف بناء الذرة وما ترتب عليها من نظريات فاعلة في ميكانيكا الكم، قد بدأ حياته كحارس مرمى في الدوري الدنماركي مع أخيه الفيزيائي هارالد بور. لكن مع مرور الوقت اكتشف بور أنه ليس في المكان المناسب لخدمة الوطن عندما تم استدعاؤه لتمثيل منتخب بلاده في سن صغير مع أخيه.


يقول «جيمس دارت»

الصحفي بجريدة الجارديان إنه في إحدى المباريات مرت الكرة بشكل كوميدي داخل مرمى نيلز بور الذي كان مستندًا على العارضة وعندما سأله أخوه قال إنه كان يفكر في معادلة لا يستطيع حلها منذ أيام. أكمل هارالد مشواره مع الكرة واتجه نيلز بالطبع للفيزياء حتى حصل على جائزة نوبل بعدما قدم خدمات عظيمة للبشرية ما زلنا نذكرها حتى اليوم. الشغف، الأمر برمته يتمحور حول الشغف!

الحديث عن الشغف ومدى ملاءمة كل شخص لدوره بدافع الإخلاص للوطن يقتصر بالطبع على الأوطان التي تتعامل بشفافية مع مواطنيها في هذا الأمر سواء كان التجنيد إجباريًا أم اختياريًا. أما حينما يتعلق الأمر بتصفية الحسابات واستخدام الخدمة العسكرية كعامل ضغط على اللاعبين إما لإجبارهم على موقف معين أو على اللعب لفرق الجيش المختلفة في هذا البلد، فلا مجال إذن للحديث عن شغف أو إخلاص أو ملاءمة. عفوًا، لا مجال إذن للحديث عن وطن من الأساس.