الحداثة في شرقنا تنتج الحاجات، وتنتج أيضًا عدم القدرة على تلبيتها.





عزمي بشارة

في العاشر من ديسمبر/كانون الأول 2016ـ، وقبل يوم واحد فقط من تفجير الكنيسة البطرسية في القاهرة، نشر كينيث روث

تغريدة

له على موقع تويتر ينتقد فيها تأييد الأقباط المصريين للسيسي قائلا: «اكتشف الأقباط المصريون بعد دعمهم لانقلاب السيسي أن قمعه لن يقتصر على الإخوان المسلمين».عبارة روث التي جاءت تعليقًا على مقال نشرته

فورين بوليسي

في هذا السياق، هي تعبير عن تموضع الطائفية في قلب المعادلة السياسية في العالم العربي، وهو نفس التموضع الذي يتيح للآلاف من الميليشيات الأفغانية والباكستانية والإيرانية واللبنانية الشيعية موطئ قدم في مدينة حلب التي لا تبدو ذات ارتباط تاريخي أو اجتماعي أو اقتصادي بحياة أي فرد منهم.بعد خمسة أعوام من ثورات الربيع العربي التي طالبت بالتحرر من الاستبداد، يبدو هذا الطفو للقضايا الطائفية وارتفاع سهم الفعل والفاعل الطائفي مثيرًا للتساؤل وباعثًا على التقصي ومحاولة الفهم.


سياسات الهوية

يستغرب البعض المساحة التي يحتلها الدافع الطائفي في الفعل السياسي العربي باعتبار أن الحداثة بما تعنيه من تذرير للمجتمع، أي تفكيك الأنماط الوصائية القديمة مثل القبيلة والعائلة الممتدة وحتى الوصاية الدينية المباشرة، قد استطاعت تغييب هذا الدافع تمامًا بما يستجلبه من أساطير ومتخيَّلات تعود إلى ما قبل العصر الحديث.يجادل المفكر السياسي عزمي بشارة، كما يوضح الباحث هاني عواد في دراسته «تحولات مفهوم القومية العربية»، على أن الوضع في العالم العربي أقرب للحداثة المشوهة التي فشلت فيها الدول القطرية في بناء الأمة داخلها وذلك تحت ضغط المباشر من الاستبداد والاستعمار.



لجأت الدولة العربية في كثير من الأحيان إلى التصرف كأنها جسم هوياتي بالأساس يتحالف مع جماعات هوية ضد أخرى لتدعيم شرعيته

الحداثة المشوهة بحسب تعبير بشارة هي أحد إفرازات النيوليبرالية التي سادت العالم في أواسط السبعينيات، حيث انتقل نمط الإنتاج الرأسمالي من عالمية السوق، وهو مجال التبادل والتداول والتجارة، إلى عالمية عملية الإنتاج نفسها بما يعنيه ذلك من انتقالات لرؤوس الأموال والسلع والمواد الخام دون توقف عند حدود وسيادة الدول المختلفة. أدى هذا النمط الاقتصادي الرأسمالي العميق لعرقلة استكمال بناء الدولة العربية للأمة، وبما أنها منتج استبدادي استعماري فاقد للشرعية، فقد تحولت إلى وعاء يحيط بالتناقضات والهويات المحلية بدلا من أن تحتويها عبر حوار في ظل نظام ديمقراطي.

لجأت الدولة العربية في كثير من الأحيان إلى التصرف كأنها جسم هوياتي بالأساس يتحالف مع جماعات هوية ضد أخرى لتدعيم شرعيته، وهو ما يراه المفكر السياسي السوري برهان غليون كرد فعل على حالة التنازل المشترك عن الهوية سخطًا على القمع، بدلا من الاعتراف المشترك بها.يؤدي هذا التنازل المشترك من وجهة نظره إلى إحساس الهوية الغالبة أو الأغلبية بالخداع، مما يؤدي لإعادة تخندقها خلف بواعث ومنطلقات وانتماءات قائمة على العصبوية الثقافية والدينية في محاولة للنفوذ لجسد السلطة، أو التعبير عن المقاومة، وهو ما يدفع الأقلية الطائفية أو الهويات المحلية الأخرى للتحالف مع السلطة والاستبداد كرد فعل لحماية نفسها.بالعودة إلى بشارة ومفهوم الحداثة المشوهة، فهو يرى أن عملية عرقلة بناء الأمة، وما يسميه «احتجاز التطور»، قد أعاقت نشوء مجتمع مدني قائم على وحدة غير عضوية بين أفراده في مقابل نشوء نخب رأسمالية غير منتجة متحالفة مع دولة القطاع العام. أي أن عملية التمدين وتكسير الروابط الريفية والقبلية لا توفر بديلا رأسماليًا صناعيًا قادرًا على استيعاب الهجرة إلى المدن.



ساهم تكثف وسائل الإعلام ودخولها لكل بيت وكل مقهى في سرعة وسهولة إنتاج الهويات الجزئية. أصبحت الصراعات الاجتماعية محصورة بين «نحن» و «هم».

هذه المجتمعات الريفية المتمدنة في ظل عدم وجود بديل مؤسساتي ضمن إطار مشروع الأمة، تقوم باستدعاء ثقافة جماهيرية مبنية على المتخيلات القديمة ما قبل الحديثة بطريقة مشوهة تهدف لحماية مصالح نخب معينة. فالقبيلة والطائفة اليوم هي تطويرات حديثة مشوهة لأشكالها التاريخية السابقة. لهذا بإمكاننا أن نلاحظ تجاور الأنساق المنتمية إلى أزمنة مختلفة كتجاوز القطاع الحكومي (النسق الحديث) والبناء الطائفي (النسق القديم) في جسد المجال العربي.ساهم تكثف وسائل الإعلام ودخولها لكل بيت وكل مقهى في سرعة وسهولة إنتاج الهويات الجزئية. وفي ظل اختفاء عوامل الصراع الطبقي أو المبني على المصالح كالاختلاف على فاعلية هذه المنظومة أو تلك، أصبحت الصراعات الاجتماعية محصورة بين «نحن» و «هم» دون أن تحتوي «نحن» هذه أو «هم» على أي برامج سياسية أو فكرية.في المحصلة، لم تعد الهوية الجزئية أو الطائفية بنية فوقية تحملها البنى الاقتصادية والاجتماعية، إنما أصبحت، على حد تعبير عزمي بشارة، «سقف وملجأ وحيز للعيش» يختفي فيه الوعي الطبقي، ويختفي فيه العقلاني خلف الغيبي، والوظيفة وراء الأسطورة، والقوة الاقتصادية والسياسية الكامنة خلف الانتماء، وحسابات المصالح خلف العصبيات والتشنج.


الهويات المغدورة

على الرغم من ذلك، فليست كل الهويات الطائفية أو الجزئية هي استجلاب حداثي مشوه للمخيال القديم. فالطائفية قد تكون في أصلها انتقام الطائفة المغدورة التي سلبها التاريخ حقها في أن تكون أساسًا للأمة بدلا من الاكتفاء بدور الأغلبية غير القادرة على خلق مواطنيتها في الدولة.في الساحة الشرقية، لم يكن من السهل أبدًا للطائفة السنية المسلمة أن تتقبل هذا التطابق الجديد الذي فرض عليها مع القومية العربية، وأن تجد فيه تحقيقًا لذاتها، في الوقت الذي تُدين فيه ثقافتها الإسلامية هذه النزعة العصبوية القبلية باعتبارها ردة إلى ما قبل الازدهار والتقدم الإسلامي، وتقليدًا للغرب، وتخلٍ عن الهوية القومية الحقيقية. لم تكن هذه المخاوف من وحي الخيال، ففي كل البلاد التي ظهرت فيها حركة قومية ذات طابع علماني، ارتبط بناء الوعي القومي بالعودة إلى التراث ما قبل الإسلامي مثل الفرعونية والفينيقية والبربرية والآشورية والفارسية القديمة في إيران و الطورانية في تركيا التي رمت العرب عمليا خارج السلطة والدولة الجديدة.جاور هذا التحول عملية تدخل كثيفة من المستعمر الأوروبي لحماية أو إثارة الأقليات الدينية المسيحية واليهودية، وهو ما أدى إلى نوع من عمليات العزل بين هذه الطوائف التي تستكشف وضعًا جديدًا لذاتها مقربًا من السلطة، ومستحوذًا على الاقتصاد والتجارة، وبين طائفة الأغلبية التي ما زالت تقاوم عملية إعادة تطبيع مع الهويات القومية الجديدة.على المستوى الاقتصادي، انتقلت معظم تجارة الشرق الأوسط إلى الأقليات الدينية المسيحية واليهودية، وإن ظل أغلبية سكان هذه الطوائف من الفلاحين، لكن احتكار جماعات معينة من هذه الطوائف للتجارة تحت مظلة الحماية الأجنبية؛ الاحتكار الذي صاحبه، للمفارقة، ارتفاع دائم في الأسعار وتدهور مستمر للأحوال الاقتصادية، هو ما أدى إلى أن المعارضة الاجتماعية ضد السلطة المركزية كانت تأخذ شكل الهجوم على الفئات الاجتماعية المتغربة المسيطرة على الشؤون الاقتصادية.على المستوى الثقافي أدى دخول المذاهب الجديدة على المسيحية الشرقية، وكذلك المذاهب الحداثية والقومية على الهيكل أو الشرعية الدينية القائمة، إلى مزيد من التقوقع داخل الطائفة في منحى تضامني، أو بمعنى أدق، جاء هذا التقوقع اختبارًا لروح التضامن الطائفية ضد لا-يقينية وغرابة الجديد الوافد.


صفيح الطائفية الساخن



أدى دخول المذاهب الجديدة على المسيحية الشرقية، وكذلك المذاهب الحداثية والقومية على الشرعية الدينية القائمة، إلى مزيد من التقوقع داخل الطائفة في منحى تضامني

تحت مطارق الحرب الطائفية في العراق وسوريا، كان يجب على نظرية «المستبد المستنير» الذي يقضي على نزعات الرجعية والتخلف أن تنهار تمامًا في السياق العربي. فما إن انكشف غطاء هذا الاستبداد عن العراق حتى تفجرت فيه حرب طائفية هي الأقسى، دون وجود أي مؤسسات أو توافقات اجتماعية أو سياسية قادرة على منع هذا التدهور.غياب الوعي الطبقي أو المصلحي الذي يعبر عن توافقات المجتمع المدني كذلك في العراق، وحتى في سوريا التي استعان نظامها في لحظة الأزمة والتفكك بالبعد الطائفي كملجأ أخير، يدل على أزمة حداثية في جسد النظام العربي.بعكس ما يتصور أصحاب مشروع التحديث وأفراد النخبة المتعلمة، كان الدين بمبادئه الأخلاقية العامة ومنطلقه العدالي اللازم لنشوء أي عمران هو السد الرئيس أمام التفتت النهائي للجماعة، وظهور تيار النكران والتصفية المتبادلين على حد تعبير برهان غليون. لكن الانفجار المفاجئ للصراع الإقليمي، وهو صراع علماني في الشقوق التي خلفها الربيع العربي، واستخدام الأنظمة للدين كأداة ضبط اجتماعية داخلية كما في إيران والسعودية، فقد تسببا في تعزيز الأزمة الطائفية باعتبار أن وسائل السياسة الخارجية والنفوذ الإقليمي لابد وأن تنبع من منطلقات الضبط والسيطرة الداخلية.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.