في وسط الكم الهائل من الأفلام المعتمدة على التطور التكنولوجي أو الأفكار المعقدة، تأتي المخرجة (شين هيدر) بفيلم بسيط في فكرته وسهل في تناوله، لكنه بشكل مدهش قد يغيّر نظرتك لأشياء كثيرة في الحياة.

استوحت شين هيدر قصة فيلمها من الفيلم الفرنسي La Famille Belier الذي ترشح لست جوائز سيزار وحاز على واحدة منهم وهي جائزة أفضل ممثلة، فيلم (شين هيدر) الذي يحمل اسم CODA هو الآخر حاز على أربع جوائز في مهرجان (صندانس) من بينها جائزة أفضل إخراج والجائزة الكبرى في المهرجان.

فيلم CODA يحكي قصّة فتاة اسمها (روبي) تبلغ من العمر 17 عامًا، وهي الابنة الأصغر في عائلة كلها من الصم، وهو ما يحمله اسم الفيلم Child of Deaf Adult. (روبي) تعيش آخر أعوامها في الدراسة الثانوية وتعاني من التنمر الدائم لزميلاتها في الدراسة. بجانب دراستها، تساعد عائلتها في عملهم على قارب الصيد باعتبارها الشخص الوحيد الذي يسمع، هي وسيلتهم الوحيدة في التواصل.


(روبي) تحمل مشاكل عائلتها على عاتقها، تترجم لغة الإشارة إلى البائعين، مطلوبة في كل موعد عمل لهم، وفي كل زيارة للطبيب، وهذا يؤثر عليها ويزيد من حالة التوتر والضغط وتجد (روبي) في الغناء متنفسها الوحيد، تغني في حجرتها وعلى القارب وكلما سنحت الفرصة لذلك. وعلى الرغم من حبها للغناء فإن الدافع الأساسي الذي جعلها تنضم لفرقة الغناء في المدرسة كان انجذابها لزميلها في الدراسة بعد انضمامه إلى فرقة الغناء هو الآخر.

تبدأ عقدة الفيلم بعد لقائها بالمعلم (بيرناردو) أستاذ الموسيقى الذي يجد في صوتها خامة تستحق أن تكمل الدراسة وتلتحق بكلية الموسيقى في (بوسطن). في نفس الوقت تواجه عائلتها مشكلة الاضطهاد ويقررون العمل دون وسيط، ويزداد احتياجهم لابنتهم وهو ما تضارب مع موعد درس الموسيقى، وبهذا تصطدم أحلامها بمعيشة الأهل، بخاصة أنهم لا يستطيعون تحمل نفقة وجود مترجم آخر.


القليل من كل شيء

لدينا هنا الآن العديد من التفرعات التي يمكن الخوض فيها، تقدم (روبي) في العمر ومرحلة المراهقة ورغبتها في الهروب والانعتاق من ضغط الأسرة، والصراع الذي تعيش فيه بين رغبتها في تحقيق حلمها ودراسة الموسيقى ووجودها وسط الأهل لمساعدتهم في عملهم، كذلك الانجذاب وقصة الحب البسيطة التي جمعت بينها وبين (مايلز) زميل الدراسة، وهناك الصعوبات التي يواجهها الصم في مجتمع قاس لا يرحم أحدًا.

ومع كل هذه التفرعات والصراعات إلا أن الفيلم يحافظ على حدودها بتوازن مذهل، يصبح قصة عن الحالمين ومن يريدون أن يكونوا شيئًا، ويصبح قصة عن الشراكة والسند التي تجمع ثنائيًا في علاقة قبل أن يجمعهما الحب في جزئية ذكرتني بتحفة (داميان شازيل) الموسيقية La La Land، ويصبح أيضًا تمردًا ونقدًا مبطنًا عن استغلال النظام الرأسمالي للعاملين فيه دون أدنى رحمة أو شفقة، حتى لو كانوا من فاقدي السمع.

في واحد من أجمل مشاهد الفيلم، تقفز (روبي) في المياه بسعادة تعكس رغبة حقيقية في الانعتاق، رغم أن عملها مع عائلتها في الصيد يفرض وجودها الدائم في محيطات مائية فإنها لم تفعل ذلك إلا بعد مرور أكثر من نصف مدة الفيلم، ربما لأنها شعرت للمرة الأولى بالحرية والاقتراب من تحقيق الحلم في عالم خانق مليء بمتاهة الخيارات ومجتمع قاس على مراهقة مثلها.

البقاء أم الشغف؟

أزمة روبي في وجودها ضمن عائلة من الصم أنها تقع في مكان منعزل بين المجتمع الكبير وعائلتها، وكلما حاولت أن تخطو خطوة تجاه مستقبلها تسحبها عائلتها خطوات للوراء “ستحبين الرسم لو كنا عائلة من العمي”.

هذه العزلة التي صنعتها عائلة (روبي) لها كانت ربما بغرض الحماية من العالم الأوسع، لكن الفتاة بحكم سنوات المراهقة والرغبة في التجربة كانت ترغب في المحاولة والتعلق في حلمها، ورفض العائلة لذلك لم يتطور إلى درجة أن تكرههم (روبي)، بل تخلت عن حلمها وقررت البقاء بجوار أهلها برغبة حقيقية، الأمر الآخر الذي تعاني منه (روبي)، والأكثر ألمًا بالتبعية، هو أن حلمها في الغناء شيء لا يمكن لعائلتها تقديره والاستمتاع به ، بل هو شيء لم يختبروه مطلقًا، وهو ما جعل (روبي) نفسها تخاف من تجربة الغناء لأول مرة وتفقد الثقة في الذات، لم يسمعها أحد من قبل!

نص الفيلم في أساسه يعتمد على الروح الجميلة بين أفراد العائلة، وبالتالي يتخذ الصراع في داخل (روبي) بين العائلة والشغف منحنى أكثر إقناعًا وأكثر قوة، وعلى الجانب الآخر تتمسك العائلة بوجود (روبي) لأسباب تتعلق بالبقاء وليس حب السيطرة، ولأن الشغف الذي تعلقت به (روبي) أمر غير مفهوم بالنسبة لهم.


في مديح البساطة


في مشهد آخر مهم، تنظم المدرسة حفلًا سنويًا، وتغني (روبي) مع الفرقة الغنائية أغاني جماعية ومقطعًا فرديًا مع رفيقها (مايلز)، العائلة لا تسمع أي شيء وكذلك لا يفهمون، لا يوجد من يترجم بلغة الإشارة، لكنها تحاول التفاعل وتقليد الجمهور المستمتع من حولهم، وفجأة ينقطع الصوت عنا نحن المشاهدين لدقيقة كاملة، تحاول المخرجة أن تضع المتفرج مكان العائلة، لتثبت أن الصمت في أحيان كثيرة ليس من ذهب، لكنه ربما يكتسب مذاقًا خاصًا ويجعلنا جميعًا نشعر بالتوتر والضغط النفسي مثلما شعرت به عائلة (روبي).

بعد انتهاء الحفلة والعودة للمنزل يجلس الأب مع ابنته، يطلب منها أن تحكي له عن كلمات الأغنية التي غنتها، ويطلب منها أن تغنيها له، يرى التأثر في ملامح وجهها ويستشعر اهتزاز حبالها الصوتية، وهو الذي يحب أغاني الراب لأنه يشعر بوتيرتها المرتفعة، يقرر صباحًا أن يقف بجوار ابنته من أجل أن تحلم.

من الممكن أن يستشعر المشاهد وجود العديد من المصادفات التي تساهم في تسيير أحداث الفيلم، مثل ظهور المعلم (بيرناردو) في النهاية لمساعدة (روبي) أو في مشهد النهاية وعودة (روبي) لوداع العائلة، لكن كل هذه الأمور تختفي وطأتها تحت الكيمياء المميزة بين ممثليه، بخاصة أفراد العائلة من اختارتهم المخرجة من الصم والبكم لتقديم دور الأبوين والابن، كذلك والأسلوب البسيط في الحكاية، لا يوجد ما يفاجئ في الفيلم، تتدفق أحداثه بسلاسة وتخبرنا بكثير عن الأمل والطموح والهزيمة وقيمة العائلة والروابط بين أفرادها.

فيلم CODA يجعلنا نريد أن تعيش (روبي) حلمها، وفي نفس الوقت نتمنى أن تنجح العائلة في البقاء والمواجهة، يظهر هنا الانسجام والتوازن الذي تقف وراءه مخرجة موهوبة اسمها (شين هيدر) في أول منجزاتها الإخراجية وواحد من أجمل أفلام العام.