تخيَّل عزيزي القارئ أنك تجلس على مقعدك في يوم حار، وبينما ترتشف من زجاجة الكوكاكولا الباردة خاصتك، فجأة يتوقف بجوارك شخص غاضب ويبدأ في الصياح بوجهك: كيف يمكنك أن تشرب الكوكاكولا؟ ألا تعلم أنها تفضح حقيقة الرغبات البشرية المزيفة؟!

وقبل أن تحاول الرد على ذلك الغريب المتطفل لتخبره أنك كنت تشعر بالعطش ليس إلا، تلمح في يده عددًا من زجاجات الكوكاكولا، فتبادر في الإشارة إليها وإلى كونه منافقًا من الدرجة الأولى ومتناقضًا من الطراز الرفيع.

ليُفاجئك برده قائلًا إنه لن يشربها، فلقد اشتراها فقط حتى يُحضِّر حفل توقيع الفيلسوف المثير للجدل سلافوي جيجك، والذي

يوقع على زجاجات الكوكاكولا بدلًا من الكتب

.

وعندها تكتشف أن السبب هو أن جيجك نفسه لديه نظرية تحمل اسم

نظرية الكوكاكولا

، يدَّعي من خلالها أن الرغبة في الكوكاكولا تفضح خواء وتشتت الفرد في المجتمع الرأسمالي.

المشروب الذي ليس له غرض

لماذا
نشرب الكوكاكولا؟

يُجيب جيجك: لو كنت عطشان وشربت الكوكاكولا، فكلما شربت ازداد عطشك، أي كلما رغبت في الكوكاكولا ازدادت رغبتك في الشرب، وهنا الرغبة ليست في الشيء نفسه، بل في استمرار الرغبة ذات نفسها … وهذا هو سر نجاح كوكاكولا.

يمكننا أيضًا أن نلاحظ أن معظم الرغبات المعاصرة هي رغبات بديلة، معظمنا لا يرغب في الشيء نفسه بل في بديل خالٍ من المادة الأساسية للرغبة: قهوة بدون كافيين، جعة بدون كحول، علكة بدون سكر، بل سكر دايت بدون سكر.

ولكن
ما هو مشروب الكوكاكولا؟

يعود جيجك ليقول بغضب وانفعال: إنه المشروب الذي ليس له غرض، مذاقه ليس حلوًا بدرجة تجعله ينافس بقية المشروبات، لا يروي العطش مثل الماء أو العصائر، وكذلك ليس له أي فائدة غذائية، بل لا يلبي أي احتياج عضوي.

وذلك يجبرنا على طرح السؤال الأهم: لو كان الأمر كذلك، فلماذا يتم شراء ما يقارب ملياري زجاجة كوكاكولا يوميًّا؟!

يزداد
انفعال جيجك من السؤال، يُحرِّك يديه باضطراب وتتقافز الكلمات من فمه وهو يقول:

الغرض الرئيسي لشراء الكوكاكولا هو المتعة فقط، لكن مع ذلك لا يمكن لألف زجاجة أن تُشبِع هذه الرغبة الخاوية، وتلك الرغبات الخاوية تُمثل نموذجًا لشكل الرغبات في المجتمع الرأسمالي، حيث يرغب الأفراد في الأشياء ليس طمعًا في الأشياء نفسها، بل في الحلم الذي تمثله.

مثل
الرغبة في اقتناء السيارة التي تمثل حلم الحرية، هاتف الآيفون الذي يُمثل حلم
الرفاهية، السيجارة التي تمثل حلم الاستقلالية، وهكذا دواليك.

حتى في

شعارات كوكاكولا الإعلانية

، يمكننا أن نلاحظ الأحلام التي تُمثل المنتج الحقيقي خلف الصناعة:

افتح قلبك

سحرها حقيقي

دوق اللحظة

هل
سمعت أي شيء عن الطعم اللذيذ؟ إشباع الحاجة؟ القيمة الغذائية؟

بل أجبني بصراحة، لو سمعت تلك الشعارات بدون أن ترى المنتج المعروض، فهل سيمكنك التخمين أن المنتج لا شيء سوى زجاجة مياه غازية؟!

أترى؟
الغرض بأكمله هو إيهام المستخدم أن المنتج يمثل حلمًا يحاول الجميع تحقيقه، حتى لو
كان المنتج ليس له علاقة به من قريب أو من بعيد. فالكوكاكولا ليست فقط تبيع حلم
المتعة والشعور الجيد والاستمتاع باللحظة، بل إنها تمثل المادة الخام من خواء
الاستهلاكية التي ليس لها أي غرض سوى الاستهلاكية نفسها، الرغبة من أجل الرغبة
وحسب، الرغبة في شيء لن يبلغ منه المستهلك حد الكفاية أبدًا.

وذلك النموذج يجبرنا على التعمق في أصل الرغبات البشرية وأساسها، بل طرح السؤال الأهم:

كيف تنشأ الرغبة بداخل الفرد من الأساس؟

وهنا نتطرق إلى نظريتين حاولتا الوصول إلى السبب الحقيقي خلف تكوُّن الرغبات بداخل المرء.

نظرية الكافيار وجان جاك روسو

في كتابه «

أصل التفاوت بين الناس

»، يُعرِّف الفيلسوف الفرنسي «جان جاك روسو» الرغبات بأنها نتيجة للرفاهية، وأنها لا تنشأ سوى حين يدرك المرء قدرته على إشباعها، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستيقظ إنسان طبيعي من النوم جائعًا ويشعر بالرغبة في تناول الكافيار ليسد جوعه، وذلك لأن الرغبة في الكافيار تُولد عندما يكتشف الفرد أن لديه الرفاهية الكافية لتناول الكافيار.

فمن وجهة نظر روسو، كان الإنسان البدائي يعيش وحده ويأكل من أوراق الشجر ويتحدث مع الطيور ويستلقي في الخلاء، وظلَّ على ذلك الوضع حتى وصل لدرجة من الرفاهية اكتشف خلالها أنه بدلًا من العيش في الخلاء، يمكنه أن يقطع الأشجار ويبني البيوت، وبدلًا من أن يُكلِّم الطيور يُمكنه أن يتخذ له شريكة حياة ليتزوجها، وبدلًا من أن يعيش وحده، يمكنه أن يبني أحياء سكنية حوله ويعيش بداخلها الجيران والعائلة والأصدقاء.

ومن هنا نشأت كل الرغبات البشرية، عدا الاحتياجات الأساسية بالطبع، عن طريق الرفاهية التي جعلت الإنسان قادرًا على إشباع رغباته مُتبعًا أسلوب: لمَ لا؟

فكلما ازدادت الفرص وتوافرت أساليب الرفاهية، نشأت رغبات جديدة عند الإنسان لم تكن موجودة من قبل.

النظرية المضادة: الكافيار من أجل الرفاهية

النظرية الثانية هي نظرية المؤرخ «يوفال هراري» مؤلف كتاب «

Sapiens

»، حيث يقول في كتابه إن الرغبات ليست نتيجة الرفاهية، بل العكس، الرفاهية هي التي تنتج عن تلبية الرغبات.

بمعنى
أن الإنسان البدائي كان يهيم في الأرض مثل الحيوانات، وكان ليظل كذلك لو أنه لم
يكتشف الزراعة التي أدت إلى أهم حدث في تاريخ البشرية بأكملها، ألا وهو الثورة
الزراعية.

الإنسان البدائي الذي اعتاد أن يسير مسافات طويلة بحثًا عن الطعام كل يوم، اكتشف – أثناء سعيه للرفاهية – طريقة يُوفِّر من خلالها بعض المشقة، وهي أن يزرع بعض الأشجار بجواره ويأكل منها بسهولة، لكنه مع الأسف اكتشف أيضًا أن الزراعة ليست بهذه البساطة.

لكي يزرع البدائي مساحة كبيرة تكفي لتوفير الطعام لمدة طويلة، اكتشف أنه وحده ليس كافيًا، وأنه بحاجة إلى عدد أكبر من المزارعين، ولذلك بدأ يكوِّن صداقات ويجمع شركاء لكي يساعدوه في هذه المهمة.

وبعد ذلك اكتشف أنه لا بد أن يعيش بجوار أرضه الزراعية لرعايتها، فبدأ لأول مرة يعرف عادة الاستقرار ويبني الأكواخ والبيوت، ولمَّا استقر في مكان واحد بدلًا من التنقل ودوام الحركة، بدأ يشعر بالوحدة في مكانه، فاكتشف أنه بحاجة إلى زوجة تعيش معه وتشاركه استقراره بدلًا من الشريكات المؤقتة المتعددة.

ولحسن الحظ، لم يتوقف الأمر عن هذا الحد …

فبعد فترة ليست بالطويلة، اكتشف الإنسان البدائي أن الزرع بحاجة إلى حماية من الحيوانات الجائعة والبشر الطامعين، فبدأ يجمع حوله عددًا من الأفراد ويُشجِّعهم على أن يبنوا بيوتهم بجواره بغرض حماية الأراضي المزروعة، وبالطبع كلما زاد عدد الأفراد الذين يعيشون في منطقة واحدة زاد عدد الأراضي المزروعة ومساحتها، وكلما زاد المحصول ازداد خطر الطامعين، وبالتبعية ظهرت الحاجة إلى جيش قوي يزداد عدده كلما زادت مساحة الرقعة المزروعة.

ومع استقرار الأوضاع وإحساس الإنسان البدائي بالأمان، بدأ يُكثر في إنجاب الأبناء ليساعدوه في الزراعة، مما أدى إلى زيادة عدد السكان وبالتبعية مساحة الأراضي المزروعة لتلبية الحاجة من الطعام. ومع ازدياد المحاصيل وكثرتها، ظهرت الحاجة إلى ظهور الكتابة والأرقام لحساب المحاصيل وطرق توزيعها على أفراد القبيلة بنظام وعدل.

وبهذه الطريقة نشأت رغبات الإنسان البدائي واحتياجه إلى المجتمع والأسرة والجيش والدولة وأيضًا للمدنية والحضارة، كل ذلك بدافع البحث عن الرفاهية، التي بدورها أدت إلى خلق رغبات جديدة كان الإنسان البدائي في غنًى عنها قبل الثورة الزراعية، بل كان يعيش من دونها مكتفيًا وهادئ البال.

وهكذا
يكون منشأ الرغبات بسبب السعي خلف الرفاهية أينما كانت، وبالتبعية تنشأ الرفاهية
نتيجة لإشباع الرغبات لا العكس.

أنت لا تريدها لكننا سنجعلك تريدها

الآن نعود لسلافوي جيجك، فسواء كانت الرغبات تنشأ نتيجة الرفاهية أو العكس، فأهمية نظرية الكوكاكولا أنها تلفت انتباهنا لما يحدث في مجتمعنا الحالي من عملية لخلق الرغبات من العدم.

فوسائل الإعلام والسوشيال ميديا لا تبيع منتجات تلبي رغباتك وتشبع احتياجاتك، بل إنها تصنع رغبات واحتياجات ليس لها وجود من الأساس، ثم بعد ذلك تُوهِمك بأنها تساعدك في إشباعها.

أشياء لا ترغب فيها ولا تحتاجها، لكن بالتكرار في الأفلام والمسلسلات والإعلانات، تبدأ تلاحظ الاحتياج يتكوَّن فجأة والرغبة تُخلق بداخلك، وكما قدمنا، فتلك الرغبة لا تكون في الشي نفسه، بل في الحلم الذي تمثله.

وحتى تلك الأحلام نفسها تضعنا وجهًا لوجه أمام نظرية أخرى لجيجك المثير للجدل، والتي يُسمِّيها بمعضلة العشيقة

Mistress Paradox

، والتي تناولها من قبله الأديب الكبير نجيب محفوظ في روايته «

الشحاذ

».

تقول المعضلة:

على سبيل المثال، لو كنت تملك زوجة وفي نفس الوقت هناك امرأة أخرى تحلم بها (العشيقة)، وبسببها تقضي معظم وقتك في تخيل اليوم الذي ستترك فيه زوجتك وتهرب مع تلك العشيقة لتقضي حياتك بعيدًا عن زحام المسئوليات وضجر الحياة. وفجأة، في يوم من الأيام يتحقَّق الحلم وتنجح بالفعل في التخلص من زوجتك، أو لنقل إنها اختفت فجأة بخدمة جليلة أسداها لك القدر، وفي إحدى الصباحات غير المتوقعة استيقظت فلم تجد سوى العشيقة في سريرك وقد اختفت زوجتك ومعها كل ما كنت تحلم بالتخلص منه، سواء مسئوليات أو قيود. في هذه اللحظة بالضبط، يقول جيجك، ستخسر العشيقة أيضًا، ليس بالمعنى المادي بل بالمعنى المعنوي، أي سوف تبدأ في أن تراها بثياب الزوجة، وبدون أن تدري سيتجه كل تركيزك إلى البحث عن عشيقة جديدة تشاركك أحلام اليقظة والهروب من كل المسئوليات.

وما حدث هنا ليس لأن العشيقة ناتجة عن الرتابة أو الملل، بل إن العشيقة في المعضلة ما هي إلا رمز لحلم الحرية، هي نفسها رغبة تمثل ذلك الحلم، رغبة بعيدة تسعى لها في خيالك فقط، وأي محاولة للحصول عليها في الواقع سوف تنقلب بالضد، ولن تُلبِّي الحاجة ولا تُشبِع الرغبة، بالعكس سوف تزيدها مثلما يزيد الهواء اشتعالَ الحرائق.

الدافع النفسي ونبوءة براد بيت

ومثل حلم التخلص من المسئوليات، هناك أحلام كثيرة لا حصر لها ولا سبيل لتحقيقها والكفاية منها، تمثلها رغبات هي أيضًا لا وظيفة لها سوى الرغبة فقط لا الإشباع، وكلا الأحلام والرغبات يتم تغذيتها من قبل الميديا المحيطة بنا، والتي تتغلغل في عقولنا كل يوم.

ومعظم هذه الأحلام من وجهة نظري، نابعة من إحساسين سيكولوجيين عميقين في النفس البشرية.

الأول هو الإحساس بعقدة النقص، أنك لست كافيًا وتحتاج أشياء خارجية تجعلك كافيًا، وذلك الإحساس تقوم عليه صناعات عديدة؛ بدايةً من صناعات الملابس والعطور ومستحضرات التجميل، حتى كتب التنمية البشرية والدورات التدريبية والكورسات التي تعِد بحياة أفضل في 21 يومًا فقط!

والإحساس الثاني هو الخوف من تفويت شيء ما أو التخلف عن المجموعة، وذلك الإحساس هو الذي تقوم عليه كل استراتيجيات التسويق التي تعتمد شعار العرض لفترة محدودة أو استراتيجية «الجميع اشترى ولم يتبق غيرك».

وأشهر تلك الصناعات: السيارات وأجهزة التكنولوجيا، بل العقارات مؤخرًا، والتي بدلًا من أن تبيع لك تكنولوجيا معينة أو وحدة سكنية في موقع ما، تحاول إيهامك أنها تبيع لك الانتماء لطبقة معينة أو كما يُقال كوميونتي مميز.

وبتلك الطريقة تستمر الدائرة وتتحقق نبوءة الممثل براد بيت في فيلم

Fight Club

حين قال إن المجتمع بالتدريج يساهم في تحويلنا إلى مستهلكين بدون عقول، نعمل في وظائف لا نحبها، لنشتري أشياء لا نحتاجها، حتى ننال إعجاب أشخاص لا نطيقهم، نعيش ونكد ونعمل من أجل أن نلبي رغبات ليست لدينا من الأساس!



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.