خمسون عاما من المهانة والوحشية، دير يس، بحر البقر، قانا. خمسون عاما من محاولات سرقة الأرض وتشريد أهلها وتهويد القدس الشريف. خمسون عاما من تجاهل القرارات الدولية والمواثيق والأعراف، وأمريكا تقف وراء هذا كله وتحميه، وتفتح صدورنا نحن العرب لأسلحتها الفتاكة تجربها فينا وتغض الطرف عن تصرفات إسرائيل وممارساتها العنصرية. ولكن هل يعني ذلك أننا أصبحنا فعلا في عداد الأموات، ولم يعد فينا بقية من دماء وحياة؟ وهل دراستنا هنا ستنسينا هويتنا وانتماءنا العربي والقومي؟ إننا هنا على أرض مصرية ولا يستطيع أحد أن يقيد حريتنا ويمحو إرادتنا.



لم أقتبس هذه السطور من بيان صحفي عن حركة ثورية متضامنة مع القضية الفلسطينية، كما لم يكتبها مناضل صحفي عربي في مقال رأي في ذكرى النكبة. وردت هذه السطور كما ذكرتها تماما في فيلم مصري كوميدي تم إنتاجه منذ ما يقرب من 20 عاما، العام هو 1998، والكلمات لمدحت العدل مؤلف فيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية».



شهدت السينما المصرية في نهاية التسعينيات وأوائل الألفية الثانية موجة أفلام شبابية تم تسميتها بموجة «السينما النظيفة»، ازدحمت السينمات مرة أخرى بالجمهور الذي كان ينهل حينها من موجة التدين الجديد، أو ما اصطلح على تسميته «الإسلام المودرن»، كان محمد هنيدي ورفاقه هم نجوم السينما، و«عمرو خالد»، وقناة «اقرأ»، والفنانات المحجيات حديثا هم نجوم التليفزيون، جماعة الإخوان توفر جوا حماسيا في الشوارع، والجامعات، واستاد القاهرة في بعض الأحيان، بهتافات التضامن مع الأقصى، وفي الركن البعيد الهادئ يجلس مبارك وحاشيته مستمتعين بالمشهد.



كانت خلطة مضمونة، كوميديا موقف ضحكنا ونضحك حتى الآن كلما أعدنا مشاهدتها، لحظة استحضار للشيطان الأعظم الذي يكرهه الجميع، الكيان الصهيوني، وتضامن بالقول دون أي فعل –أو مطالبة للدولة بالفعل- مع القضية الفلسطينية المغدورة.



دعونا نلقي نظرة سريعة على ثلاثة أفلام من أشهر أفلام هذه الحقبة، إسماعيلية رايح جاي، صعيدي في الجامعة الأمريكية، همام في أمستردام.


إسماعيلية رايح جاي: الدم ده دمي



منذ 20 عاما بالتمام والكمال، وفي أغسطس/آب 1997 عُرض فيلم «إسماعيلية رايح جاي» للمرة الأولى، حقق الفيلم نجاحا مستمرا وإيرادات تاريخية بلغت حينها 15 مليون جنيه.



الفيلم يمكن تصنيفه في خانة الموسيقي الكوميدي، فهو عبارة عن مجموعة من المشاهد والمواقف التي تحدث على مدى بضع سنوات، تبدأ وأبطال الفيلم طلاب وتنتهي وهم في أواخر العشرينيات –هذا وإن كانوا ظهروا بنفس الإطلالة تقريبا طوال الفيلم- يتخلل هذه المشاهد أغانٍ يؤديها بطل الفيلم وصاحب فكرته «محمد فؤاد»، ويشاركه فيها أحيانا باقي الأبطال، «حنان ترك»، و«محمد هنيدي»، و«خالد النبوي».



الغريب أن فؤاد وأحمد البيه مؤلف الفيلم قد اختارا نهاية الستينيات وبداية السبعينيات كإطار زمني لأحداث الفيلم، رغم أن حكايته البسيطة يمكن أن تتم بشكل اعتيادي للغاية في زمن التسعينيات، في حين يبدو السبب الوحيد لهذا الاختيار العجيب هو إقحام تيمة الحرب والوطنية دون داعٍ، ليجتمع في فيلم واحد أغنية تتحدث عن شابين يحلمان بالمال والسيارة والموبايل! وأغنية أخرى تتحدث عن استشهاد أحد أفراد الأسرة في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، «كامننا»، و«الدم ده دمي» في بروجرام واحد!


صعيدي في الجامعة الأمريكية: الإشعال الذاتي لنجمة داود



في العام التالي قدم محمد هنيدي بطولته الأولى ليعيد الجمهور اكتشافه كواحد من أبرز نجوم الكوميديا في السينما المصرية، وكرأس حربة جيل جديد من الشباب الذين أصبحوا نجوم شباك كبارا فيما بعد، حقق الفيلم إيرادات تجاوزت 27 مليون جنيه، وتم اعتبارها حينها الأعلى في تاريخ السينما المصرية.



يظل الفيلم علامة مميزة حتى الآن في إعادة الروح لدور السينما بعد سنين من الركود واتجاه الجمهور لشرائط الفيديو، ولا تزال ذكرى البحث عن تذكرة في دور عرض مختلفة في مدن مختلفة عالقة بذهني كونها المرة الوحيدة التي شهدت فيها مثل هذا الموقف في مصر.



أنتج مدحت العدل الفيلم كما كتبه أيضا، العدل الذي كان قد شارك قبلها بعام واحد في كتابة أوبريت «الحلم العربي»، والذي شارك من خلاله مغنون من كل أنحاء الوطن العربي في إعادة التذكير بالقضية الفلسطينية.



قدم العدل مؤلفا و«سعيد حامد» مخرجا قصة بسيطة في إطار من كوميديا الموقف التي تتسم بالذكاء الشديد، لا يزال الفيلم عالقا حتى الآن بأذهان الكثيرين، ولا تزال إيفيهاته حاضرة وبقوة وسط موجة كوميكس شباب مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن يبدو أن العدل لم يفوت فرصة صناعة الفيلم في ذكرى مرور 50 عاما على نكبة 48، فقرر أن يصنع خطا جانبيا، وشخصية جانبية لتعبر عن القضية الفلسطينية.



يكرر «أحمد» الذي أدى دوره «فتحي عبد الوهاب» محاولاته لتذكير زملائه بجرائم الاحتلال الصهيوني، وبينما نتابع حكاية «خلف» الذي يمر بمواقف كوميدية ناتجة بشكل أساسي عن التناقض بين خلفيته الثقافية الصعيدية، وبين مجتمع الجامعة الأمريكية الجديد عليه، يظهر فجأة علم الكيان الصهيوني في يد أحمد الذي يلقيه لخلف الذي يشعله بشكل ذاتي وفطري دون تفكير. بطلنا الذي يعبر بشكل صادق للغاية عن سبب وجوده في الجامعة «جاي أذاكر وأتفسح مع أصحابي» يتحول فجأة لبطل مقاوم حينما يعبر عن مشاعره بالراحة والطمأنينة عقب حرق العلم.


همام في أمستردام: يودا والحلم العربي

في العام التالي كرر محدت العدل تجربته مع هنيدي وجيله، وفي مقدمتهم «أحمد السقا»، قدم العدل حكاية أخرى عن شاب مصري يفشل مشواره في مصر وتتزوج حبيبته من سائق ميكروباص، فيقرر البحث عن حلمه في الخارج.

حكاية همام في أمستردام جاءت ذكية وكوميدية وناتجة بالأساس عن التناقض أيضا بين خلفية الشاب المصري الفقير المجتهد، والمجتمع الأوروبي المفتوح للفرص والمصائب أيضا، جمع العدل خيوطا كثيرة بدأت بصعوبات اللغة والبحث عن عمل، مرورا بانعدام الوفاء بين الأقارب والنزوع إلى الفردانية بين أبناء الوطن الواحد، ونهاية بحب وحلم جديد في بلد جديد.



ولكن بين كل هذا لم يجد العدل بدا من أن يكرر خلطته التي تحمل إلى حكايتنا عدوا مضمونا؛ «يودا»، هكذا اختار العدل الاسم الأكثر كليشيهية للتعبير عن يهودي إسرائيلي يتحدث من أنفه وتمتلئ عيونه بالغل أثناء إفساده أحلام همام.



استخدم العدل أيضا أوبريته – الحلم العربي- كحل سحري لمشاكل أبناء الجالية العربية الذين فرقتهم مشاكل الغربة طوال النصف الأول من حكاية همام في أمستردام، تنساب الأغنية من المذياع ويتعانق الجميع.


من يصنع التضامن وكيف انتهى؟

تكررت الخلطة بحذافيرها في العديد من الأفلام، كررها «علاء ولي الدين» مع الكاتب «أحمد عبد الله» في «عبود على الحدود» من خلال تجار مخدرات أصحاب ملامح غربية على حدود مصر الشرقية مع الكيان الصهيوني، محمد فؤاد وأحمد البيه مرة أخرى في «رحلة حب» ومظاهرات طلابية عقب استشهاد الدرة ليغني فؤاد «افرحي يا أم الشهيد»، وكررها مدحت العدل مرة ثالثة مع هاني سلامة ومصطفى قمر والمخرج على إدريس في «أصحاب ولا بيزنس» حينما يصور مذيع مصري بشكل مفاجئ عملية استشهادية لفدائي فلسطيني يقوم بدوره «عمرو واكد» ويُسمى بشكل مباشر للغاية «جهاد»!



الخلطة واضحة، لا ننقدها بغرض التقليل من أفلام ارتبط معظمنا بها بذكريات كوميدية طريفة، ولا نحللها بغرض التشكيك في نية من تضامن حينها مع القضية الفلسطينية، ولكننا نعيد مناقشتها بغرض التساؤل، أين ذهب كل هذا التضامن الآن؟ ولِمَ لم تعد القضية الفلسطينية -التى تمر بتغييرات مأساوية مؤخرا- حاضرة بأي شكل في أفلامنا؟ هل تحررت القدس فجأة؟ أم أن ذكر الأقصى كطريقة إلهاء قد انتهت الحاجة إليه بسقوط مبارك؟