في الأغلب أنت تقرأ هذا المقال الآن من خلال شاشة اللاب توب أو الموبايل، ومن خلال الرابط الذي وجدته على صفحة فيس بوك، رغم هذا – سامحني- سنتحدث عن ضراوة التكنولوجيا في العلاقات الإنسانية، والذي تنظر إليه السينما في أغلب الوقت بنظرة متشائمة.

في إطار قسم العروض الخاصة في مهرجان برلين 69 يعرض الفيلم الفرنسي «من تظن أنه أنا Who You Think I Am» للمخرج صافي نيبو وبطولة جولييت بينوش، رئيسة لجنة تحكيم المسابقة الرسمية للمهرجان في دورة هذا العام.

ربما ليست هي المرة الأولى التي يتحدث فيها فيلم ما عن تأثير التكنولوجيا على العلاقات الإنسانية، بل إن لدينا مسلسلًا تلفزيونيا كاملًا يتعرض فقط لخطورة التكنولوجيا هو «المرآة السوداء Black Mirror»، لكن فيلم صافي نيبو يقترب أكثر من الواقع.


طلب صداقة جديد .. لا تقبله


تدور أحداث الفيلم عن المدرسة الخمسينية كلير (جولييت بينوش) التي تقرر دخول عالم الفيس بوك من خلال حساب زائف تنتحل فيه شخصية فتاة شابة في العشرينيات، وذلك لتتعرف على شاب تحتاجه للوصول إلى شخص آخر، لكنها تقع في حبه، وتتحول هذه العلاقة التي اختلقتها لغرض محدد إلى قصة حب تخنقها وتحييها في الآن ذاته، تخشى أن تنفصل عن حبيبها كما تخشى مصارحته بالحقيقة أيضًا.

في لقطات قريبة يقدم المخرج تطبيق «Messenger» المفتوح من خلال موقع فيس بوك، لنشاهد الحوار المتبادل بين كلير وأليكس (فرانسوا سيفيل) بشكل مباشر ودون حيل أو استخدام الجرافيك لإظهار المكتوب بشكل مختلف. في إحدى اللقطات نشاهد كلير تكتب رسالة تشتم فيها مديرها في العمل، ثم تمسحها لتستبدل الشتيمة بأخرى، ثم تعدل مرة أخيرة قبل أن تضغط على زر الإرسال، ربما يكون هذا ما تفعله الآن وأنت تقرأ هذا المقال، وهذا ما نفعله بالفعل عدة مرات في اليوم.

نستمع بشكل متكرر في شريط الصوت إلى النغمة المميزة لكتابة الطرف الآخر لرسالة، تلك التي يعرفها كل المشاهدين تقريبًا ليكون تكرارها بمثابة إشارة إلى تبادل العديد من الرسائل.

يُشرِّح الفيلم بمنتهى الهدوء تفاصيل تطور العلاقة عبر الإنترنت، من البدايات المضطربة التي يراجع فيها كل طرف حروف كلماته ويعدلها قبل أن يضغط على زر الإرسال، إلى التباسط والمكالمات الصوتية وتبادل أدق التفاصيل.

في أحد المشاهد تقول كلير عن حديثها مع أليكس، إنها لا تشعر أنها تبدو في الخامسة والعشرين عندما تتحدث معه، لكنها تصبح بالفعل في الخامسة والعشرين. تتناثر قصص الحب أو التعارف على الإنترنت هنا وهناك، وربما نعرف بشكل شخصي من تعرضوا لهذه القصص، والكثير منها قد يكون أحد الطرفين في القصة ينتحل شخصية ما للإيقاع بالطرف الآخر، كل هذا معتاد، لكن الجانب الذي لا نفكر فيه – والذي يقدمه الفيلم ببراعة من خلال الحوار- هو جانب اختفاء الحاجز بين الشخصية الحقيقية والمزيفة. بمرور الوقت، يميل صاحب الشخصيتين إلى تصديق الشخصية المتخيلة إذا كانت تحظى باهتمام أكبر.


حب من طرف آخر


قصة الحب التي تكون التكنولوجيا طرفًا فيها بشكل ما شاهدناها في صورة مميزة أخرى في فيلم «هي Her» للمخرج سبايك جونز، والذي قدم ثيودور (واكين فوينكس) الذي يقع في حب نظام تشغيل إلكتروني. فكرة تبدو عبثية وبعيدة للوهلة الأولى، لكن السيناريو وأداء فوينكس يجعلاننا نصدق أن ما نشاهده حقيقيًا.

تتزايد الخدمات الصوتية في الهواتف المحمولة، إلى حد يجعل ما شاهدناه في الفيلم ليس بعيدًا عنا تمامًا. الآن بإمكان مساعد جوجل أن ينظم لك يومك بداية من إيقاظك في الصباح إلى أن يحكي لك حكاية قبل النوم.

ثيودور الخجول الذي يفشل في إقامة علاقة طبيعية مع امرأة، يجد في المساعد الصوتي ضالته، لكن المشهد الأكثر عبثية هو لقاء ثيودور مع صديقه وزوجته ليخبرهما أنه على علاقة بالمساعد الصوتي، فيباركان له وكأنه أمر تقليدي.

عكس الفيلم السابق الذي كانت التكنولوجيا فيه هي الوسيط الذي بدأت وتطورت من خلاله العلاقة حتى ذروتها، في «هي» تكون التكنولوجيا هي الطرف الآخر وليست مجرد وسيط.


أنا صنعتك


لا يتحدث فيلم «سيمون S1m0ne» عن علاقة عاطفية أخرى، بل علاقة وجود. المنتج فيكتور تراناسكي (آل باتشينو) يصمم شخصية سيمون، باستخدام برامج الجرافيك، ويعلن أنه اكتشف ممثلة جديدة، ويضيفها لأفلامه فيعشق الجمهور سيمون، ويبدأ تراناسكي في الشعور بالغيرة ثم يقرر التخلص منها، فيُتهم بقتلها، وهكذا يجد نفسه في معضلة، وجود هذه الشخصية الخيالية، لم يعد يعني مجرد شهرة له، بل يعني وجوده شخصيًا.

تصل الصورة العبثية في هذا الفيلم إلى ذروتها، فالإنسان الذي صنع اللعبة انهزم منها وصار تابعًا لها. يحاول تراناسكي التخلص من سيمون معنويًا في البداية بأن يجعل الجمهور يكرهها، فيقدم مشاهد مقززة لها في أحد الأفلام فإذا بالجمهور يزداد إعجابًا بها. حتى القواعد التي وضعها الإنسان للعبته تكسرت وحلت مكانها قواعد جديدة، إما أن يقبلها أو يخسر كل شيء.

بينما تتحدث الكثير من الأفلام عن خطر الآلة والذكاء الصناعي الذي قد يسيطر على البشر، يقدم هذا الفيلم نموذجًا آخر في كيفية تسلل الآلة، أو الصورة المصنوعة، إلى قلوب وأذهان البشر في هدوء ودون حتى أن تدخل في حوار عقلاني مع الإنسان، مثل الحوار الذي خاضه الكمبيوتر هال مع رائد الفضاء في فيلم «2001: أوديسا الفضاء / 2001: A Space Odyessy».


الخطر أقرب مما تتصور

في أحد مشاهد فيلم «من تظن أنه أنا»، يتحدث أليكس مع كلير عبر الهاتف ويهمس لها بكلام مثير يجعلها تستمني وتنتشي جنسيًا. هذا المشهد يكثف جزءًا كبيرًا من شكل العلاقة التي يقدمها الفيلم، علاقة تكتمل حتى ممارسة الجنس عبر الهاتف.

تبدو النماذج الأخرى التي ذكرناها أكثر خطورة، لكن ما قدمه الفيلم الفرنسي هو الأكثر قدرة على إثارة الخوف. لماذا؟ لأنه شديد القرب من الواقع، قد يبدو صناعة ممثلة خيالية واقتناعنا بها أمر صعب الحدوث، لكن التعارف عبر الإنترنت وحتى ممارسة الجنس من خلاله ليسا بعيدين.

اختيار جولييت بينوش لهذا الدور لم يكن تقليديًا، فالفيلم كان في حاجه إلى ممثلة تستطيع أن تنقل بوجهها كل ما يعتمل في نفسها، وردود الأفعال على ما تكتبه وتتلقاه من رسائل دون أن تتكلم، ولم يوفر المخرج في استخدام اللقطات القريبة لرصد كل تعبيراتها الدقيقة.

في الأغلب ستنُهي هذا المقال لتواصل حياتك وتتفقد مواقع التواصل تتلقى أو ترسل المزيد من الصور، فيلم «من تظن أنه أنا» يُخبرنا أن مواقع التواصل ليست مرآة لحياتنا أو مدخلًا لحياة الآخرين، بل على العكس هي تشطرنا إلى شخصيتين تصارع كل منهما الأخرى للبقاء.