عام 2005 توفي تشاو زييانج بعد وضعه تحت الإقامة الجبرية 16 عامًا دون توجيه أي تهمة رسمية له. منعت الصين أي ذِكر لوفاته، أي عزاء أو رثاء بعد مماته. وراقبت عن كثب، و

تراقب حتى الآن

، كل الأدبيّات التي تتحدث عنه. لكن لحظة وفاته لم يبالِ 15 ألف شخص بقرار الصين، وخرج مواطنو هونج كونج بشموعهم وملابسهم السوداء ينعون تشاو، ويُذكّرون الحكومة الصينية بما تريد نسيانه.

عام 1989 رُفعت في بكين لافتة تقول: «الطريق الجديد مفتوح، الطريق الذي فشلنا في اتباعه لفترة طويلة». تشير اللافتة إلى طريق الديموقراطية، لكن الحكومة الصينية نجحت في كسر اللافتة وسحق من حملوها. ظنت الصين أن الأمر قد انتهى، لكن عادت هونج كونج مرةً أخرى لتعلن عن نفسها إقليمًا متمردًا على كل ما تفرضه الصين، ولتُكرر على مسامع الحكومة الصينية كلمات مثل «

ميدان تيانانمن

»، «مجزرة 1989»، و«أحداث الرابع من يونيو/ حزيران»، وغيرها من الكلمات التي منعت الصين البحث عنها عبر شبكات الإنترنت. فهي بأمر السلطات كلمات حساسة ترفض محركات البحث أن تمنحك أي نتيجة إذا بحثت عنها.

الرابط بين وفاة تشاو واللافتة، أنّه قبل ثلاثين عامًا، في 19 مايو/ آيار عام 1989، وقف تشاو زييانغ في ميدان تيانانمن. تشاو المُنهك يعتذر للمتظاهرين في سابع أيام إضرابهم. الأمين العام للحزب الشيوعي يقول للطلاب إنّه يعتذر لأنه جاء متأخرًا، وأن الأمر قد حُسم. يتوسلهم أن يخرجوا من الميدان فورًا. يخبرهم أنّهم على حق، وأن الحكومة الصينية تستحق كل لعناتهم، لكنّه يطلب منهم الآن طلبًا واحدًا، الخروج من الميدان حالًا. تشاو علم أن دنج شياو بينج، القائد الأعلى للبلاد،

أصدر أمره للجيش

بالتدخل لإنهاء المسألة. وتشاو أراد تجنب الكارثة، لكن لم يُفلح.

عقابه الشخصي أنه

عُزل من منصبه

فور خطابه ووُضع تحت الإقامة الجبرية. تُوفي عام 2005 ليرحل جسده آخر الآثار المتبقية على وجوده يومًا. حرصت الحكومة على حذف اسمه من كل السجلات العامة، وتابعت باهتمامٍ شديد محو وجهه من كل الصور الفوتوغرافية التي طالتها يد الدولة. رحل تشاو كأنه لم يُولد يومًا، لا لأنه اختفى فحسب بل لأن الصين لم تتعلم الدرس. هي تتعامل اليوم بخطواتٍ مشابهة لما حدث في تيانانمن مع مظاهرات هونج كونج.

الأيديولوجيا فوق الشعب


انتهت الثورة الثقافية بوفاة ماو تسي تونج عام 1976، ليبدأ سؤال الاقتصاد في التقدم على حساب سؤال الأيديولوجيا. صار دنج شياو بينج زعيمًا للصين لتنفيذ الأجندة الاقتصادية، و

عيّن معه حلفاءه

منهم تشاو زييانج رئيسًا للوزراء في سبتمبر/ أيلول 1980. أتت الإصلاحات ثمارها بتراجع مشكلة الفقر، لكنّها أثمرت مشكلةً أخرى، وهي الفساد والرشوة والمحسوبية. الفساد سمح لبعض الأشخاص من ذوي المناصب القوية بالتلاعب في الأسعار، متجاوزين بذلك قانون التسعير الذي تطبقه الصين منذ الخمسينيات. ثم تطور الأمر إلى قيام النخبة بشراء البضائع بأسعار زهيدة ثم احتكارها لإعادة بيعها بأسعار تفوق احتمال غالبية المواطنين.

بجانب الغضب الشعبي خلقت تلك النقطة انقسامًا داخل الحزب. جوهر تلك الإصلاحات رأسمالي لكن الحزب شيوعي. فريق يرى التحرر من ضيق الأيديولوجيا والتعامل وفقًا لمتطلبات السوق، وفريق يرى العكس. استغل أستاذ الفيزياء الفلكية فانج ليزي هذا الخلاف والغضب وبدأ جولة في جامعات الصين.

يرى فانج

أن الحل السياسي هو الحل الأمثل للأزمة الحالية، وأن النظام الاستبدادي والثورة الثقافية كلاهما كان كارثة على الصين يجب التخفف من آثارهما. لاقى كلامه استحسانًا بين الطلاب فقامت المظاهرات عام 1986.

اقرأ أيضًا:

العين بالعين: هونج كونج تثور على الصين

تمكنت الدولة من احتوائها، و

ألقت باللوم

على السكرتير العام للحزب «هو يا يوبانج» بأنه من اتخذ موقفًا «لطيفًا» من المتظاهرين وأُقيل. تُوفي في 15 أبريل/ نيسان 1989 بأزمة قلبية. رأى الطلاب أن إقالته القسرية كانت السبب في وفاته فارتفع غضبهم تجاه الدولة مرة أخرى، وبدأت تجمعات تلقائية صغيرة حدادًا على يوبانج. تطورت المصلقات من الحزن عليه حتى صارت تطالب بالحرية والديمقراطية وكبح الفساد. 17 أبريل/ نيسان بدأ الطلاب في التوافد من مختلف الصين إلى ميدان تينانامين. بخطابات ودودة من الحكومة تفرق المتظاهرن وبقى 200 في الميدان. استخدمت الشرطة العنف لتفريقهم فعاد الخارجون للدفاع عن زملائهم.

تنظيف الميدان من المتظاهرين


حادثة الهجوم على الطلاب دفعت العديدين من غير الناشطين سياسيًا للانضمام للطلاب. لم يكن في الميدان فئة معينة، وهنا كان الخطر. عمال المصانع، عاملون في الإعلام الرسمي، رجال شرطة بكين، الفنانون، الطلاب والأستاذة، الشباب والشيوخ، كل هؤلاء كانوا هناك. حفلات «روك آند رول» في الليل، محاضرات توعويّة بالنهار. أهالي بكين يوفرون الطعام والماء للمتظاهرين. الطلاب

نظموا مسيرات

للحفاظ على النظافة والنظام وصيانة المكان. والمثقفون وأساتذة الجامعات جاءوا ليقدموا المشورة بشأن الرؤية والاستراتيجية. انتفاضة بروح الشباب وعقل الكهول، كل شيء كان مثاليًا.

تجربة متكاملة للحكم الذاتي عاشتها بكين لعدة أيام. أفاقوا منها سريعًا بعد 15 يومًا من خطاب تشاو.

الأحكام العرفية

دخلت حيزّ التنفيذ، وجيش التحرير الشعبي الذي لا يرحم دخل الميدان. ليلة 3 يونيو/ حزيران 1989 ليو شياوبو يفاوض الجيش على ممرٍ آمن للطلاب تجنبًا للإبادة الشاملة. موقف بطولي منحه نوبل عام 2010، لكن ألحقه بالمصير المُعتاد للأبطال في الصين، حكم طويل بالسجن مات خلاله عام 2017. لم يمنحهم الجيش ما أرادوا، دبابات الجيش تتقدم من اتجاهات مختلفة لتخنق الميدان تمامًا.

الحزب الشيوعي الصيني يتصرف وفق قاعدة واحدة «ما يُحقق أفضل مصلحة للأمة». وفي 1989 كان استخدام الرصاص المُتفجر المُحرم دوليًا هو ما سيحقق أفضل مصلحة للأمة بقتل ما يُقارب 5000 متظاهر. وما تعارض مع مصلحة الأمة منذ 30 عامًا عاد ليتعارض معها الآن، مظاهرات حاشدة تتخطى حدود الطبقات وتتجاوز التوجه السياسي. هكذا يرى الحزب الشيوعي الأمر، رغم أن هونج كونج ليست بكين، والزمان يزيد بثلاثين عامًا، إلا أن السياسيين المؤيدين لبكين يرون أن المتظاهرين غير المسلحين يمثلّون نفس الخطر الذي مثله الطلاب غير المسلحين سابقًا، وأن هونج كونج قد أعلنت ثورتها منذ 30 عامًا كذلك.

هونج كونج تمتلك امتيازاتٍ تجعل نجاح انتفاضتها أكبر، وتجعلها أشد عُرضةً لغضب الحكومة المركزية. يمتلكون عددًا أكبر من الطاقة البشرية

بدعم كامل سكان

الإقليم. اكتبسوا سريعًا مرونةً في التعامل مع قوات الشرطة وفي التنقل بين الأماكن. اختاروا الأماكن الحيوية التي تجعلهم تحت عدسة المجتمع الدولي دائمًا. كما أن استقلالها السياسي عن الحكومة المركزية يمنحها إمكانية أكبر للمناورة السياسية، مع التأكيد أن الصين وضعت 100 مدرعة على بعد كيلو مترات قليلة من الاحتجاجات، فالقوة هى السياسة الوحيدة التي تفهمها الصين.

الصين تعلّمت الدرس

تيانانمن

حاضرة حاليًا

في الحوار حول أزمة هونج كونج. تتأرجح الاحتمالات بين أن الحكومة تستخدمها كرسالة تهديد على ما تقدر عليه، أو أنها ستكررها فعلًا. المتظاهرون في هونج كونج يراهنون أن العواقب الاقتصادية والسياسية الكارثية سوف تمنع الصين من تلك الخطوة، خاصةً والصين في خضم حرب مع الولايات المتحدة، مما يعني أن الولايات المتحدة لن تفوت فرصةً التضييق على الصين. فبعد تيانانمن أصبحت الصين منبوذة دوليًا، ومرّت بعامين شديدي السوء من الركود الاقتصادي، وهى الآن شديدة الحاجة إلى استقرار اقتصادي طويل الأمد. إضافة إلى أن دخول الغزو الصيني لهونج كونج يعني فرار الموظفين الأجانب وأصحاب البطاقات الخضراء وهجرة جماعية للشركات العالمية من هونج كونج.

كما أن صور الجيش يفتك بالمتظاهرين لن تكون الدعاية المثالية للرفاهية التي تمنحها الصين أو الشيوعية عامةً لشعوبها، لكن كيف الجمع إذن بين استبعاد التدخل العسكري والتصريحات الرسمية شديدة اللهجة تجاه المتظاهرين وأن «من يلعبون بالنار سوف تأكلهم النار في النهاية». الإجابة في أن الصين طوّرت على مدار 30 عامًا

العديد من تقنيات

فض المظاهرات بعيدًا عن إرسال الدبابات علانيةً. ساهمت أوروبا في ذلك التطور عبر العديد من المبادلات العملية والعلمية في هذا المجال.

دمجت الصين الحرب النفسية في التقنيات «المعمول بها» دوليًا. يظهر ذلك في حرص الدولة على نشر فيديوهات تظهر تدريبات أفراد من جيش التحرير الشعبي في مواجهة أشخاص يرتدون ملابس وأقنعة مطابقة لما يرتديه متظاهرو هونج كونج. يُشكل أفراد الجيش مجموعات صغيرة متفرقة تخترق صفوف المتظاهرين عبر قنابل الغاز المُسيل للدموع. متحصنين خلف دروعهم وهرواتهم. الحكومة المركزية واثقة في شرطة هونج كونج، لذا اكتفت حتى الآن بالتكتّل وراءها ومنحها الضوء الأخضر لفعل ما تشاء ما دامت ستكبح لجام المتظاهرين.

كما لا يستبعد المتظاهرون أو مسئولو الصين أنفسهم أن تلجأ الدولة

لحيلة بسيطة

. وضع أفراد الجيش في ملابس شرطة هونج كونج، حينها لن تكون قد نشرت جيشها بل الشرطة المحلية هى من تتحمل عبء الجريمة. وقد انتشرت تلك المزاعم بعد عدة أسابيع من بدء تظاهرات هونج كونج، لكن نفتها الشرطة المحلية نفيًا قاطعًا. دون تلك الحيلة لن تكون الشرطة المحلية قادرة على القيام بعملية الفض المميت التي تريدها الصين. الشرطة المحلية قوامها 31 ألف فرد لا يترددون في إطلاق الرصاص المطاطي أو الغاز المُسيل للدموع، لكن الفارق شاسع بين الرصاص المطاطي والبارود المميت، وتنفيذ أوامر بإطلاق غاز مسيل للدموع وأوامر بقتل وتعقب المتظاهرين لإبادتهم.

احتمالية النجاة


حين تنعدم الخيارات الجيدة على الحكومة أن تختار أقلها سوءًا. وأقل الاختيارات سوءًا هنا هو أن تُقدم الحكومة تنازلات تُرضي المتظاهرين. لكن بعد شهرين من التظاهرات لا تبدو الحكومة المركزية عازمة على هذه الخطوة إطلاقًا. مما يجعل أقل الخيارات سوءًا في نظر الحكومة هو تكرار سيناريو سنة 89.

قد ينتظر الرئيس شي جين بينج إلى شهر أكتوبر/ تشرين الثاني 2019 حتى يتم

الاحتفال بالذكرى السبعين

لتأسيس الجمهورية الشعبية، مما يعني وقتًا أطول تراهن فيه الحكومة على الشرطة أو ملل المتظاهرين، لكن الواقع يقول إن الاحتجاجات تتسع يومًا بعد يوم، وينضم لها مزيد من الطبقات الاجتماعية المختلفة.

اقرأ أيضًا:

الديكتاتورية والنمو: هل لدى «شي جين بينغ» خلطة سحرية؟

التدخل بالقوة لفض التظاهرات يعني  تغيّر وجه الصين للأبد. أولًا انهيار المبدأ التي تتبعه الصين «دولة واحدة ونظامان»، فهونج كونج سوف تصبح خاضعةً بالقوة للنظام الصيني المركزي. كما أن المتظاهرين سيعاملون القوات الصينية كالغزاة، لن يتوقفوا عن المقاومة مما يعني عددًا هائلًا من الضحايا المدنيين. إضافة أنّه حتى لو فضت الحكومة التظاهرات فلن تتمكن من حكم الإقليم على الفور.

موظفو هونج كونج

الغاضبون سيتركون أعمالهم لتتعطل الخدمات، كما أن مناطق الخدمات كالنقل والاتصالات والبُنى التحتية ستكون هدفًا سهلًا أمام المتظاهرين لشلّ الحياة في الإقليم.

الموظفون نقطة أخرى من نقاط تميّز هونج كونج عن تيانانمن. فمعظمهم يعملون في شركات خاصة لا تتحكم فيها الحكومة، على عكس موظفي بكين عام 1989 الذين

استطاعت الحكومة إخضاعهم

سريعًا من خلال التهديد بقطع رواتبهم وفصلهم من أعمالهم. كما أن أعضاء الحزب الشيوعي الذين ساندوا الجيش في بكين لن يساندوه في هونج كونج، إذ إن وجود الحزب يعتبر منعدمًا في الإقليم على النقيض من اكتساحه غالبية السكان في بكين.

مقوّمات عدّة تمنح هونج كونج حصانةً نسبيةً من محاولة فض همجية ينفذها الجيش ويدعمها الإعلام، لكن لا شيء منطقي في الصين، ولا حصانة مطلقة لإقليم دون آخر. فالدولة فوق الفرد، والأيديولوجيا فوق رفاهية الاعتراض، ومصلحة الدولة تكتسح كل من يقف أمامها، وإذا وقف شابٌ أمام الدبابة فسوف تسحقه هذه المرة، لن تخطئه كما حدث منذ 30 عامًا.