هل كان لابد من الكارثة، هل كانت ضرورة للاستيقاظ من سبات القيم التي عاشها الإنسان السوفيتي وتملكت منه، كالتضحية، والإيمان بالاشتراكية، والبطولة؟

عشت ببلد تعّلم أولادها الموت. منذ الطفولة، تعلمنا الموت.أخبرونا أن الإنسان وجد ليعطي كل شيء يملكه، ليحترق، ليضحي. تعلمنا أن نحب حاملي السلاح من البشر. ولو نشأت في بلد آخر، لم أكن لأتبع هذا الطريق.

تقول «سفيتلانا أليكسييفيتش» إنها كتبت خمسة كتب، ولكنها تشعر أنها جميعاً كتاب واحد «كتاب عن تاريخ اليوتوبيا»، حيث انشغلت صاحبة سلسلة «أصوات اليوتوبيا»، بما يرويه الإنسان الصغير بنفسه عن الزمن وعن نفسه.

لذا خطت سفيتلانا لنفسها طريقاً خاصاً، من خلال الكتابة متعددة الأصوات/ الاعتراف، وهو ما أبعدها نوعاً ما عن شكل الرواية التقليدية، وربما هو ما آثار لغطاً كبيراً حينما فازت بجائزة نوبل للآداب عام 2015، حيث وُصفِت كتابتها بأنها أقرب للتقريرية الصحفية أو الوثائقية.

ويذكر أن السلسلة صدر منها بالعربية: «ليس للحرب وجه أنثوي»، و«فتيان الزنك»، و«صلاة تشرنوبل».

وردًا على ذلك، تتساءل الكاتبة البيلاروسية:

وما هو الأدب اليوم؟ كل شيء يفيض متعدياً شواطئه، الموسيقى، الرسم، حتى الكلمات في الوثائق تهرب من حدود الوثيقة. […] أنا مهتمة ببسطاء الناس، البسطاء العظماء، تلك طريقتي. فبالمعاناة يتمدد البشر، في كتبي يحكي هؤلاء البشر تواريخهم الصغيرة، فيتشكل التاريخ الكبير في الطريق

في «صلاة تشرنوبل» قسمت الكاتبة مؤلفها إلى ثلاثة فصول، «أرض الموتى»، و«إكليل الأحياء»، و«استعذاب الحزن»، دشنته وختمته بما عنونته بصوت إنساني يتيم، داخل كل فصل تتعدد الأصوات، لتؤدي بما يشبه المعزوفة الموسيقية الحزينة، يؤديها :كورس الجنود وكورس الشعب، وكورس الأطفال.

تأتي البداية في السادس والعشرين من إبريل/ نيسان عام 1986، الساعة الواحدة، وثلاث وعشرون دقيقة،حينما دمرت سلسلة من الانفجارات المفاعل بالمبنى الذي يحوي وحدة الطاقة رقم 4 لمحطة تشرنوبل الذرية، أصبحت كارثة تشرنوبل أكبر حادث تكنولوجي في القرن العشرين، وبالنسبة لبيلاروسيا، اعتبر الحادث كارثة قومية، أدت لضياع أربعمائة وخمس وثمانين قرية ومستوطنة، بين هؤلاء 70% دفنوا تحت الأرض إلى الأبد.

واحد من بين كل خمسة بيلاروسيين يعيش على أرض ملوثة، يقدر عددهم بمليونين، ويأتي الإشعاع في مقدمة العوامل الديموجرافية المسئولة عن نقص السكان في بيلاروسيا. ونتيجة لانبعاث جرعات صغيرة من الإشعاع على نحو مستمر، تزايد عدد المصابين بالسرطان والتخلف العقلي والاضطرابات العصبية والتشوهات الجينينة كل عام.

الكتاب يعج بالمشاهد المؤلمة كما صورها وحكاها عشرات ممكن التقتهم المؤلفة، أسر نازحة وأخرى رفضت التخلي عن أرضها، موظفون سابقون عملوا بالمفاعل، وعمال متطوعون، إطفائيون، زوجات ورجال سردوا معاناتهم، أمهات فقدن أجنتهن، وأخريات جاء أطفالهن بإعاقات دائمة وتشوهات جسيمة.

ما الأفكار التي شغلت الجميع آنذاك؟ ومراجعاتهم لما عاشوه. مآسٍ ترويها زوجات عن حالات أزواجهن خاصة الذين شاركوا في إطفاء الحرائق وتنظيف المفاعل في أيام الحادث الأولى فكانوا عرضة لجرعات مجنونة من الإشعاع، صور عن انتفاخ وتورم رجالهن، البحث عن زجاجات اللبن، مشاهد الإخلاء، وامتلاء الميادين بالمركبات العسكرية.

مدن وبيوت غُلفت بالسلوفان، ثم دفنت هي وذكرياتها في باطن الأرض. وعائلات حرموا من الاقتراب من أحبائهم، وحتى من مات منهم، لم يسمح لذويهم باستلام جثثهم، ودفنوا في مقبرة بموسكو في توابيت من الزنك محكمة الإغلاق.

يدين الكتاب بشكل صريح العقلية الشوفينية في التعامل مع الكارثة، بداية من إحالته لعمل إجرامي من الغرب العدو للاشتراكية والإمبراطورية الروسية، وإنكار تام لأبعاد الكارثة، وانطلق قاموس التعبيرات الستالينية في الأفق على غرار : «عملاء الاستخبارات الغربية»، و«أعداء الاشتراكية»، و«طعنة في الظهر»، إضافة لمحاولات التحايل عليها من خلال إخفاء الحقائق وحظر النشر، فحملت المعلومات علامة «سري للغاية»، وأخفيت حتى لا تكون سبباً في إثارة الفزع.

في مكان ما، أعلى مكان، اتخذ القادة قرارات، كتبوا تعليمات سرية، أمروا طائرات هليوكوبتر أن تحلق في السماء، أطلقوا في الطرق أعداداً ضخمة من المركبات، بينما القابعون –في السفح





لم يملكوا سوى انتظار الأخبار وأن يرتعدوا، عاشوا برفقة الشائعات، لكن الجميع سكت، ولم يجب أحد على السؤال الأهم -ما الذي جرى بالفعل؟

شاعت حالة عدم الفهم واستيعاب الأمر، حيث لم يؤهل أحد للتعامل مع الكارثة، فكانت أكبر من الحرب التي ما زالت مشاهدها عالقة في الأذهان، وتداولت مصطلحات عصية على الفهم، مثل «السيزيوم»، و«النويدات المشعة»، و«الكيوري»، وكان الخطر تلك المرة غير مرئي!

كل شئ تلوث، الماء، الهواء، الملابس، اللبن والحيوانات وحتى البشر، الغابات والحدائق تغير لونها، والمطر الذي يميل للزرقة، السيزيوم الذي ينتشر على الأرض والنباتات والمحاصيل، الحيوانات التي منعت من مصاحبة أصحابها، الأجساد التي ظهرت عليها البقع، وأمراض مثل سرطان الغدة الدرقية، كلها مؤشرات تؤكد أن الكارثة ليست وقتية وأنها ستستمر عقودًا وأجيالاً متتالية.

بين ليلة وضحاها أصبح الجميع موصوماً بالكارثة، تحول الشعب إلى «شعب تشرنوبل» كحيوان نادر ومثير للاهتمام والذعر في الوقت ذاته.

تعيش.. مجرد إنسان عادي ضئيل، هكذا، تشبه الكل من حولك، تذهب إلى عملك وتعود منه، تحصل على راتب متوسط، تأخذ إجازة مرة واحدة في العام، مواطن طبيعي! إذا بك تصير بين ليلة وضحاها إلى إنسان تشرنوبل، حيوان نادر! إلى شيء، ييثر اهتمام الكل وفي الحقيقة لا أحد يعرفه، تريد أن تكون طبيعياً كالآخرين، لكن وللأسف صار هذا محض حلم

بجانب كذب الدولة، تبدو الإدانة للقيم التي تربى عليها الإنسان السوفيتي، فكان هناك الهوس البطولي، الذي زرع داخل النفوس، وتربى الجميع عليه في المدارس، ومن الوالدين، وخطب رجال السياسة والراديو والتليفزيون، فتقدم الشباب للتطوع، والذين هم في خدمتهم العسكرية رأوا في الأمر «واجباً» وحتى من لم يرد منهم الموت، لم يستطع الاعتراض خوفاً من العار الذي قد يلحق به، والجميع اعتبروا الكارثة اختبارًا حقيقيًا لشخصياتهم.

رغم أن قلوبنا امتلأت بالخوف، إلا أننا كنا سعداء، لسبب ما، قمنا بعملنا على أكمل وجه، وهو ما يجعلنا نرفع رؤوسنا إلى السماء فخراً، طلبت التطوع. لم يخطر على بالي الحصول على شيء لنفسي، إنما الأمر يتعلق بحماس الرجال.. ينهض الرجال وقت الشدة للقيام بعمل حقيقي؟

ومن جانبها مجدت الصحافة تلك البطولات وحضت عليها، بعناوين مثل: «تشرنوبل أرض البطولات»، و«نال المفاعل هزيمة منكرة»، و«تتواصل الحياة»، واشتغل أهل التوجيه السياسي في ذات السياق، فيما استوجب الاعتراض أو إثارة الفزع محاكمة عسكرية وفصلا حزبيا.

كانت حكايات الإخلاء من المشاهد الموجعة أيضاً، حيث ادعت الدولة أنه رحيل مؤقت فقط لعدة أيام، ورغم ذلك كان الأمر صعباً خاصة على المسنين، الذين ارتبطوا بالأرض، والغابة، ومحاصيلهم الزراعية وحتى حيواناتهم الأليفة التي منعوهم من اصطحابها.

وتحدث الجنود عن اللافتات التي وجودها على واجهات البيوت المهجورة: «أيها العابر العزيز، لا تبحث عن مقتنيات ثمينة، لم نمتلكها، يمكنك استخدام أي شيء، لكن لا تسرق، سنعود»، تؤكد أن الجميع لم يكن يعلم أنه رحيل أبدي.

عجوز من الرافضين للإجلاء، يتحدث عن انتظار الموت قائلاً: «انتظرت الناس في البداية، فكرت؛ سيعود الجميع. لا أحد يذهب إلى الأبد، غادروا مؤقتاً، أنتظر الموت الآن، الموت ليس بالأمر العسير، بل إنه رهيب، ليس هناك من كنيسة، بينما توقف القس عن المجئ، ما من أحد يحمل عني ذنوبي».

وآخر يقول: «لا يهم إن كانت مليئة بالسموم، بفعل الإشعاع، إنها وطني، أفضل مكان في العالم، العالم ليس في حاجة إلينا، حتى الطير لا يرى أجمل من أعشاشه»

وحينما بدأت الصورة تتضح، كان أسوأ ما في المأساة، هو العجز عن الفهم ، كما جاء على لسان أحد المجندين الذين قضوا خدمتهم العسكرية في المفاعل «أنا عاجز عن الفهم، ما الطريقة التي سأموت بها؟ لو كان بوسعي أن أختار، لاخترت موتًا عاديًا، آخر ما كنت سأختار، أن أموت ميتة تشرنوبل».

كانت تلك بداية انهيار الإمبراطورية السوفيتية، كما كانت بداية انهيار الشيوعية والاشتراكية، والمادية، حينما عجزت كل تلك النظريات والقيم عن استيعاب الكارثة، أوبالأحرى حينما تؤكد الكارثة زيف ما سبق الإيمان به.تذكر الكاتبة أنه؛ عاد الناس ليملئوا المعابد من جديد، من آمن ومن ألحد، الجميع.. إنهم يريدون الحصول على إجابات، عجزت عنها الفيزياء والرياضيات.

العالم ثلاثي الأبعاد يترنح، ولم أقابل من الشجعان، من يجرؤ من جديد أن يقسم بإنجيل المادية. وهكذا كان الميلاد الساطع للانهائية. وهنا وقعت كارثتان في وقت واحد: كارثة اجتماعية، رأينا بأعيننا انهيار الاتحاد السوفيتي، غرق في الماء كيان اشتراكي عملاق، وكارثة فضائية تشرنوبل.

ومن ثم يبدأ التغيير رويداً رويداً، وأصبحت مسألة تشرنوبل تمثل وقبل أي شيء قضية إدارك للذات «بعد تشرنوبل، صار كل هذا يحدث من تلقاء نفسه، بدأنا في تعلم كيفية أن نقول «أنا.. لا أريد أن أموت! أشعر بالخوف»