«بين مطرقة الاستبداد وسندان المعارضة الإسلامية في غالبيتها» هكذا استهلت ميشيل دن وعمرو حمزاوي

دراستهما

الأخيرة التي نشرها مركز «كارنيجي للشرق الأوسط»، في نهاية مارس/ آذار الماضي ، بعنوان« الأحزاب السياسية العلمانية في مصر: تنازع من أجل الهوية والاستقلال»، في وصفهما لتموضع الأحزاب السياسية العلمانية في مصر.

في مقدمة الدراسة يقول الكاتبان، إنه ليس من المفيد تصنيف الأحزاب السياسية العلمانية المصرية، من خلال استخدام تقسيم اليسار – اليمين التقليدي، بل سيكون من الأدق والأصوب ترتيب هذه الأحزاب وفقاً لطبيعة علاقتها بالدولة: بين التي تشكّلت لدعم الدولة وحسب، وبين تلك التي تواصل بحيوية ونشاط معارضتها.

وبناء على هذا المراوحة من المواقف قرباً وبعداً من السلطة، والتأثر بالاستقطاب الحاصل بين الدولة التي يُسيطر عليها الجيش والأجهزة الأمنية، وبين المعارضة الراهنة التي يُهيمن عليها الإسلاميون، ناقشت الدراسة رحلة بحث تلك الأحزاب عن هويات متّسقة لذاتها، وتأملت التكتيكات الإيديولوجية والتنظيمية التي استخدمتها هذه الأحزاب في صراعاتها مؤخراً.

كما سلطت الضوء على بعض المؤشرات الدالّة على أيٍّ من تلك الأحزاب قد يكون أكثر قدرة من غيره على البقاء والاستمرار، إذا ما برزت آفاق انفتاح سياسي جديد لاحقًا.


كيف صنفت دراسة كارنيجي الأحزاب العلمانية المصرية ؟

الشكل 2: تصنيف الأحزاب العلمانية استناداً إلى قربها من الدولة 2017، كارنيجي

الشكل 2: تصنيف الأحزاب العلمانية استناداً إلى قربها من الدولة 2017، المصدر : كارنيجي

بحسب الدراسة، ثمة عدة طرق لتصنيف الأحزاب المصرية العلمانية، منها تقسيم اليمين واليسار التقليدي بطبيعة الحال رغم عدم قيمته الكبيرة، أو وضعها من جهة أخرى وفق التحقيب الزمني الذي تأسست خلاله عبر العهود السياسية المختلفة في مصر، أو التصنيف الأكثر ملاءمة في الحالة المصرية، ألا وهو التصنيف استناداً إلى مدى قرب تلك الأحزاب من الدولة من بعدها.

وضعت الدراسة في هذا الإطار، مقياساً جوهريًا في التقييم، وهو طرح تساؤل مفاده: «هل هذا الحزب أو ذاك يطمح إلى الوصول إلى السلطة عبر التنافس الانتخابي وقيادة الدولة في يوم ما، أم أنه يتطلّع فقط إلى نيل حظوة الدولة ودعمها، وبالتالي الظفر بالمحسوبية ومنافعها؟».

قيمت الدراسة من خلال هذا التساؤل العديد من الأحزاب السياسية، تأسست بعد عام 2013، على غرار حزب «مستقبل وطن» على سبيل المثال، وهو الحزب الذي حصد 53 مقعداً في الانتخابات البرلمانية العام الماضي، حيث أشارت إلى أنه من الأحزاب التي شكلت بهدف رئيس – سواء مُعلن أو غير مُعلن – هو دعم الدولة.

في السياق ذاته، تشير الدراسة في المقابل إلى أن بعض الأحزاب السياسية العلمانية، حاولت أن تطرح، تحدّياً سياسياً قوياً في وجه الدولة في بداية تشكُّلها، لكنها باتت لاحقاً مُستلحقة جزئياً أو مُهددة من قِبّل الدولة. كحزبي الوفد والمصريين الأحرار، حيث تضعضعا من داخلهما بحسب الدراسة بفعل فضائح الفساد والصراع على القيادة الذي أثارت الدولة لهيبه.

نوع آخر من الأحزاب أشارت إليه الدراسة يعمل في ظل ظروف صعبة للغاية منذ 2013. معظم هذه الأحزاب تقريباً فازت بمقاعد في الانتخابات البرلمانية عام 2011، لكن معظمها أيضاً إما قاطع انتخابات 2015 أو تنافس من موقع بائس للغاية . أكبر هذا النوع من الأحزاب هو الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي فاز بـ14 مقعداً في انتخابات 2011 و4 مقاعد في 2015.

الأحزاب الأخرى بحسب الدراسة على غرار حزبي الدستور ومصر القوية، اللذين أسسهما على التوالي المرشحان السابقان لمنصب الرئاسة محمد البرادعي وعبد المنعم أبو الفتوح فقد تأخّر تشكيلهما، مما أعاق قدرتهما على التنافس في 2011 وقاطعا الانتخابات في 2015.

لذلك السبب لم يفز الحزبان قط بأي مقعد، لكنهما لا يزالان يُعتبران مُهمّين سياسياً، بسبب الدعم النسبي الذي يحوزانه في أوساط الشباب، وأيضاً بسبب حيويتهما في الجامعات.


كيف «روضت» الدولة الأحزاب العلمانية؟

بعد استعراض قصير لتاريخ الحياة السياسية المصرية عبر ثلاثة عهود قبل الثورة وحتى الـ3 من يوليو/ تموز، من حيث حرية العمل الحزبي، تقول الدراسة إن المناخات السياسية لما بعد 2013 كانت مُقوّضة للحياة السياسية الحزبية في مصر، تماماً كالعهود الخالية قبل ثورة الـ25 يناير/ كانون الثاني 2011.

في هذا السياق استعرضت الدراسة بعض جوانب التجربة الحزبية في عهد مبارك، حيث عمدت الدولة المصرية غالباً، إلى اتخاذ خطوات قانونية أحياناً، وخارج القانون أحياناً أخرى، لضعضعة وإضعاف الأحزاب السياسية العلمانية.

حيث كان هناك نظام قانوني معقّد للترخيص للأحزاب «لجنة الأحزاب» تسيطر عليه الغرفة العليا من البرلمان «مجلس الشورى» التي تُعيّن نسبة كبيرة من عضويتها. وهو الأمر الذي عني واقعًا بحسب الدراسة أن الحزب الوطني الديمقراطي هو الذي كان يقرر أي حزب منافس يمكن الترخيص له.

في هذا الإطار تطرقت الدراسة أيضاً إلى تجربة حزب العمل الاشتراكي، الذي تأسس عام 1978 في تحالفه الانتخابي عام 1990، مع جماعة الإخوان المسلمين. حين كانت النيّة الأصلية لقادة هذا الحزب دفع الإخوان إلى مسار اشتراكي، وهو ما أفضى إلى نهاية معاكسة تماماً. وحينها كما أشارت الدراسة، رعت الدولة انشقاقاً في القيادة، واستخدمت قانون الأحزاب التقييدي لتعليق عمل الحزب وصحيفته في أيار/ مايو عام 2006.

الأكثر شهرة في إطار التدخلات من هذا النوع بحسب الدراسة، كان الانشقاق المُدبّر من جانب الدولة في حزب الغد، الذي أسّسه عام 2004 أيمن نور.

خلال مرحلة الانفتاح السياسي المضطربة، بعد ثورة يناير خَمَدَ تلاعب الدولة بالأحزاب، كما أشارت الدراسة، و لكنه أطلّ برأسه ثانية، وبقوة، عقب 3 من يوليو/ تموز 20103. حيث، تم حظر حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان كلياً عام 2014، وعلقت معظم الاحزاب الإسلامية الأخرى في شباك دعاوى قضائية واعتُقل قادتها، فيما طوردت أحزاب علمانية صغيرة مثل حزب العدل ومصر الحرية وكادت تنقرض.

أحزاب أخرى تم استهدافها أيضاً في تلك الفترة بحسب الدراسة، من خلال التدخلات ذاتها التي كانت تحدث برعاية الدولة في عهد مبارك، كأحزاب الدستور والديمقراطي الاجتماعي والمصريين الأحرار، الذي تم عزل مؤسسه نجيب ساويرس بالاقتراع، وتم طرده لاحقاً من داخل الحزب.


على نفسها جنت براقش: عندما أضرّ العلمانيون أنفسَهم بأنفسِهم؟

بحسب الدراسة لم تكن الدولة وحدها من ألحق الأذى بالأحزاب العلمانية. إذ لطالما تعرضت تلك الأحزاب للنقد إبّان مرحلة الحرية السياسية المحدودة في عهدي السادات ومبارك بسبب نخبويتها، وافتقادها إلى الديمقراطية الداخلية، وفسادها المالي، وعدم استعدادها للعمل بكد لبناء قواعد شعبية حقيقية خارج المدن الرئيسة.

تشير الدراسة إلى أنه بعد ثورة 25 من يناير، أما الأحزاب العلمانية في ائتلاف الكتلة المصرية بعيداً عن حزب الوفد الذي تحالف مع الإخوان المسلمين انتخابياً، بدلاً من أن تعتبر المكاسب المتواضعة التي حققتها في الانتخابات بداية طيبة لأحزاب طرية العود وحديثة التأسيس، أطلّت، ومعها ممولوها وناخبوها، على هيمنة الإسلاميين على أنها هزيمة مُحققة.

لا بل أكثر: اعتبر كل هؤلاء أن هذه الحصيلة هي ثاني هزيمة لهم، بعد فشلهم في إسقاط الاستفتاء الدستوري الذي فرضه المجلس الأعلى للقوات المسلحة في آذار/ مارس 2011.

بحسب الدراسة تحوّلت مخاوف الأحزاب العلمانية المصرية من استيلاء الإسلاميين على السلطة إلى نبوءة ذاتية التحقّق. لكن، وبدلاً من الاعتراف بالتأثيرات السلبية لعوامل مثل التبعثر الحزبي، والتنافس بين الأحزاب، ومواقف العرقلة إزاء جماعة الإخوان، وتبرير إجراءات الجيش المناوئة للديمقراطية، انجرفت الأحزاب العلمانية بشكل مطرد نحو مواقف العرقلة وتأييد الجيش، إلى أن تشكلت جبهة الإنقاذ المصرية وسارت الأمور في المسار الذي أدى مشهد 3 يوليو/تموز 2013.


الأحزاب العلمانية المصرية بعد الإطاحة بمرسي



خلال مرحلة الانفتاح السياسي المضطربة، بعد ثورة يناير خَمَدَ تلاعب الدولة بالأحزاب، و لكنه أطلّ برأسه ثانية، وبقوة، عقب 3 من يوليو/ تموز 2013

قسمت الدراسة الأحزاب المصرية بعد 3 يوليو/ تموز 2013 إلى ثلاثة أصناف، أحزاب جديدة موالية للدولة، على غرار أحزاب تأسست حديثاً، استندت على علاقة أعضائها داخل أجهزة الدولة مثل مستقبل وطن، ومصر بلدي، رشّحت أعضاء سابقين في الحزب الوطني الديمقراطي وحصدت حفنة من المقاعد في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.



لم يكن للمعارضة المتنامية، المؤلفة من الأحزاب الصغيرة الضعيفة، من دور فعّال في تغيير ترتيبات السلطة السلطوية بعد عام 2013

أحزاب أخرى بحسب الدراسة حاولت الحفاظ على قدرٍ من الاستقلال مثل حزب الوفد، والحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وحزب المصريين الأحرار.

تشير الدراسة إلى أن أجهزة الأمن تدخلت بشكل مباشر في شؤون تلك الأحزاب لزرع بذور النزاع في أوساط قيادتهما وإثارة الشقاق داخلهما. حيث ساند نواب من حزب المصريين الأحرار قياديي الحزب ورئيسه عصام خليل، الذين يحظون بدعم أجهزة الأمن، في إقصاء ساويرس ومجموعته من الحزب، بعد تصاعد انتقادهم لبعض السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تنتهجها الحكومة.

في غضون ذلك، كان حزب الوفد بدوره يعاني من صراع على القيادة بين رئيسه الحالي البدوي، ونائب الرئيس السابق فؤاد بدراوي، مما أحدث شللاً داخل الحزب وحدا بنواب الوفد إلى التنسيق على نحو أوثق مع الائتلاف الموالي للسيسي ونواب أحزاب أخرى مثل حزب مستقبل وطن وحزب المؤتمر.

و أخيرًا في هذا الإطار أحزاب أخرى معارضة للدولة كأحزاب الدستور، الكرامة، مصر القوية، العيش والحرية والتحالف الشعبي.

بحسب الدراسة، لم يكن للمعارضة المتنامية، المؤلفة من هذه الأحزاب الصغيرة ذات التمويل الضعيف، من دور فعّال في تغيير ترتيبات السلطة السلطوية بعد عام 2013. حيث لم تكن الحكومة المصرية متسامحة إزاء دور العلمانيين المعارضين إلاّ حين كان يقتصر ذلك على عقد مؤتمرات صحافية وإصدار بيانات صحافية.


في الختام تقول الدراسة إن : «محاولة الأحزاب العلمانية المصرية ركوب مطيّة الإسلاميين أو تحييدهم بعد ثورة يناير، والتصفيق لما جري في 3 من يوليو/ تموز 2013، وتبنيها الاعتقاد الخاطئ بأن المؤسسة العسكرية كانت ستمنح العلمانيين الحرية السياسية بعد استئصال جماعة الإخوان المسلمين، فضلاً عن تجاهل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان طالما أنها تُنثر على رؤوس خصومها السياسيين. سيكون إرثاً من الصعب تذليله».

ولكن ربما تزداد حصة العلمانيين في انتخابات حرة مقبلة إذا ماتعلّموا من أخطائهم وحسّنوا قدراتهم التنظيمية. أما السؤال الذي يبقى مطروحاً هنا أخيراً بحسب الدراسة، فهو ما إذا كانوا سيُمنحون فرصة، أم إذا ما كانت مصر ستختبر تعزيزاً للسلطوية الراهنة أو انفتاحًا تدريجيًا نحو الديمقراطية يأتي ببعض مما أتاحته انتفاضة عام 2011.