«آفاق مجهولة: الأحزاب الإسلامية ما بعد جماعة الإخوان»، تحت هذا العنوان المثير للاهتمام نشرت مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي – برنامج الشرق الأوسط، في منتصف ديسمبر الماضي، دراسة للباحث مارك لينش يحاول فيها استشراف مستقبل جماعة الإخوان في العالم العربي.

بدأ لينش دراسته بالحديث عن ضرورة إعطاء أبعاد أوسع لدراسة تجارب أحزاب الإخوان، وعدم قصر الأمر على المنحى الأيديولوجي فقط، واستأثرت تجربة جماعة الإخوان في مصر بعد ثورة 25 يناير على جزء كبير من اهتمام الباحث، نظرا لمحوريتها وثرائها، لذا تركز جزء كبير من الدراسة عليها. ومع هذا ظل الباحث حريصا جدا في توقعاته، ويسعى إلى عرض وقائع وطرح حقائق وتساؤلات، أكثر من سعيه لتقديم إجابات وافية.


نحو نظرة أعم لتجارب الإخوان

لطالما اعتُبِرَ فشل الإخوان المسلمين في مصر مؤشِّرًا على وجود حالة مَرَضِيَة أوسع لدى الأحزاب الإسلامية. وهكذا، فُسِّرَت اعتبارات، على غرار الخيارات البائسة والسلوكيات التنفيرية وفشل جماعة الإخوان في نهاية المطاف بعد 2011، بكونها ناشئة عن خاصيّات هياكلها التنظيمية والأيديولوجية الإسلامية. لكن، في المقابل، انتهجت هيئات وطنية أخرى في جماعة الإخوان، مثل إخوان تونس وليبيا والمغرب، سلوكًا مغايرًا تمامًا إزاء التطورات السياسية الإقليمية الأخيرة، وكانت أوفر حظًا بالنجاح.

أفضل ما يُعلِّل المروحة الواسعة من المحصلات الأخيرة لهذه الأحزاب هو السياق السياسي، وليس الخصائص الكامنة في الأيديولوجيا أو المنظّمة الإسلاميّتين، إذ لدى هذه الأحزاب خيارات شكّلها وبلورها السياق السياسي المحلي، لذا لا ينبغي فهم خياراتها على أنها محض تعبيرات عن أيديولوجيتها، بل كرد براجماتي على الفرص والتحديات السياسية. ومثل هذه الخيارات تقودها غالبًا، وبأكثر مما يتبدّى للعيان، التكتيكات بالدرجة الأولى وعلى نحو أقل التحولّات الأيديولوجية.

يجب ألا تُدرس الأحزاب الإسلامية بمعزل عن المجال السياسي الأوسع، ففي عالم عربي يمر بمرحلة انتقالية تجهد كل الأطراف للعثور على أنماط فعّالة من العمل السياسي، واتخذت كلها أيضا بشكل مذهل قرارات مخطئة. وهكذا، كانت الاضطرابات السياسية التي شكّلت السلوكيات الإسلامية، هي نفسها التي دفعت إلى بروز التيارات المتطرفة ضد الإسلاميين في الشرق الأوسط، بخاصة في بلدان المرحلة الانتقالية مثل مصر وتونس.

باتت جماعة الإخوان المسلمين أيضًا مُقحمة في سياسات القوة الإقليمية أكثر من حقبات سابقة، وتنحو منظماتها لأن تكون عابرة أكثر للوطنيات، ومُعتمدة أكثر على رعاة الدولة، وأيضًا أكثر تأثرًا بالأحداث الخارجية. وتبعًا لذلك، أصبح من المُتعذَّر فهم تطور كل فرع وطني من الإخوان بمعزل عن البيئة الإقليمية المُتحوِّلة؛ فطيلة سنوات عدة بعد العام 2011، كانت جماعة الإخوان عالقة في أتون الحرب الناشبة بين قطر وتركيا، من جهة، وبين السعودية ودولة الإمارات، من جهة ثانية.

لم تحظَ تداعيات التغيرّات الدراماتيكية خلال السنوات الخمس الماضية على أحزاب التيارات الرئيسة الإسلامية، في مجال السياسات داخل الصف الإسلامي، بالاهتمام الكافي. فعند دراسة تجارب الأحزاب المنبثقة عن الإخوان يجب أن يوضع في الاعتبار أنها أحزاب إسلامية وأنها تتأثر بما يحدث داخل الصف الإسلامي في كامل الإقليم.


مستقبل إخوان مصر



باتت جماعة الإخوان المسلمين أيضًا مُقحمة في سياسات القوة الإقليمية أكثر من حقبات سابقة، وتنحو منظماتها لأن تكون عابرة أكثر للوطنيات، ومُعتمدة أكثر على رعاة الدولة

يستبعد لينش أن تختفي جماعة الإخوان المسلمين في مصر من المشهد، فمع أن آلافًا عدة من الجماعة مسجونون، أو منفيون، أو قتلى، فإنه لا تزال هناك شبكات وحركات حيوية ومهمة مرتبطة بالجماعة موجودة على الأرض. وتدل التجربة التاريخية على أن تلك المنظمة الضخمة والمُتجذرة قادرة على التأقلم مع الصعوبات وتجديد نفسها. ثم إن الفشل المُحتمل لمنافسيها في تحقيق هيمنة سياسية أو في إيجاد أنظمة سياسية مستقرة، سيخلق لها منافذ واستهلالات جديدة.



الجماعة كانت منغمسة بعمق في العمل السياسي خلال السنوات الـ15 الأخيرة، ما جعل التداخل بين نشاطاتها مركزيًا لهوية المنظمة، وهيكليتها، وممارساتها.

وفيما يتعلق بإمكانية فصل العمل الحزبي عن الحركة الدينية، تقول الدراسة إن مسألة الفصل هذه تبدو أكثر صعوبة بكثير في مصر منها في تونس، بسبب كل من السياق السياسي والتجارب الخاصة لفرعي الجماعة. فقلّة من المصريين ستنسى سريعًا تجربة حزب الحرية والعدالة، الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين المصرية، بما في ذلك استخدام الجماعة الكثيف للخدمات الاجتماعية بهدف حصد الأصوات خلال انتخابات 2011 و2012.

ثم إن الجماعة كانت منغمسة بعمق في العمل السياسي خلال السنوات الـ15 الأخيرة، ما جعل التداخل بين نشاطاتها مركزيا لهوية المنظمة، وهيكليتها، وممارساتها. ويبدو من غير المحتمل أن يقبل الشبان الغاضبون من أعضاء الجماعة- المصدومون بالقمع العنيف للنظام، والتعذيب، والقتل الجماعي- بفصل الحزب عن الحركة.

باستثناء هذا، لا يقدم لينش توقعات أخرى لمستقبل الجماعة في مصر، ولكنه يقر العديد من الحقائق الواقعة ويطرح تساؤلات عن تأثير الفوضى الحالية على مستقبل الترابط والتماسك التنظيميين داخل صفوف الجماعة، فمثل هذه الفوضى تعقِّد أي شكل من أشكال العمل المتّسق وطويل الأمد الذي يمكن أن تقوم به الجماعة في المنطقة، ويشل قدرتها على الحفاظ على الانضباط في صفوفها.

ويقر الباحث بأن تموضع الجماعة الوسيط في مصر بات في خطر، فالبيئة السياسية لحقبة ما بعد الانقلاب، ذهبت أبعد بكثير من عملية قمع الدولة. ذلك أن الاستقطاب الذي شقّ الرأي العام حيال مسألة الإسلاموية، قوّض التموضع الدقيق لجماعة الإخوان، وبات من الصعب عليها احتلال موقع الوسط لأنه ببساطة لم يعد هناك وسط. ثم جاء الشعور العميق بالظلم الذي شعر به العديد من أعضاء الجماعة حيال الانقلاب وحملة القمع التي تلته لينسف القيمة المعيارية لاحتلال موقع الوسط.

ويختتم الكاتب حديثه عن إخوان مصر بقوله: جماعة الإخوان في مصر تواجه مسارًا أصعب من ذاك الذي ينتظر معظم نظرائها. ونحن بانتظار أن تؤتي الحوارات الداخلية أُكلها من خلال بلوغ توافق بشأن الإستراتيجية السياسية التي ينبغي اتّباعها أو بشأن المسائل الأيديولوجية الرئيسة حول العنف والمشاركة السياسية. لكن، ريثما يتحقق ذلك، يُرجّح أن تبقى جماعة الإخوان المسلمين مُستغرقة بانقساماتها ومعزولة عن النظام السياسي المصري السلطوي، الهشّ.


المراجع




  1. آفاق مجهولة: الأحزاب الإسلامية ما بعد جماعة الإخوان