محتوى مترجم
المصدر

Carnegie Moscow Center
التاريخ
2015/09/09
الكاتب
أندريه كوليسنيكوف

أوضح النصف الأول من العام 2015 العديد من السمات الأساسية للنظام الروسي. ويستمر الكرملين في إحراز الكثير من الانتصارات التكتيكية على الساحة السياسية، ما يساعد في الحفاظ على شعبية الرئيس «فلاديمير بوتين» المرتفعة للغاية، لم يظهر النظام أي قدرة على التفكير بشكل إستراتيجي، ناهيك عن تأسيس أهداف واضحة قابلة للتحقيق، أو عرض نموذج لما يمكن أن يكون عليه المستقبل.

ينبع غياب الفكر الاستراتيجي من رغبة النخبة في الحفاظ على سلطتها وأهواء النظام السياسي الاستبدادي، الذي يزيف الجماليات الديموقراطية بينما يستخدم أجهزة الدعاية الخاصة به، واسعة التأثير، لتغذية المشاعر الوطنية العدائية.

أدى ارتفاع أسعار النفط وزيادة النمو الاقتصادي خلال مطلع الألفينات إلى تعزيز التراخي في أوساط النخبة الحاكمة، وساعد في خلق عجز في التفكير الإستراتيجي. كما تم تجنب إجراء إصلاحات هيكلية في قطاعات متصلة برأس المال البشري للبلاد مثل؛ العناية الصحية، والتعليم، ونظام المعاشات. إلا أن النظام، والجمهور بالتبعية، يرى الركود الاقتصادي والسياسي الحالي كوضع طبيعي جديد. فقد أظهرت الطبيعة المنحرفة لتلك الاستجابة أمام التطورات الأخيرة، مصطلحات جديدة بين متخصصي السياسات الاقتصادية، الذي أطلقوا على ذلك الوضع اسم «

أزمة اللاأزمة»

.

ومن جانبهم، يستمر بوتين والمسؤولون الآخرون رفيعو المستوى، في الإصرار على أن روسيا تواجه أزمة ضئيلة وقصيرة الأجل. فمن وجهة نظرهم، تواجه روسيا ذروة تنميتها الرأسمالية، وهي لحظة سعيدة لإنهاء التاريخ، على الطريقة الروسية. تعني تلك الاستجابة المفرطة في الثقة بالنفس أن لا أحد على قمة السلطة يرغب في بدء تقديم تنازلات للمعارضة السياسية، أو للغرب، أو لللوبي المناصر للإصلاحات الذي يتشكل بشكل رئيسي من النخبة المالية وممثلي الطبقة الإدارية.

لا تتعامل السلطات مع انخفاض مستويات المعيشة، والنمو الاقتصادي الأضعف، واستمرار تقلب سعر صرف الروبل، والمستوى المرتفع للتضخم، كمشكلات خطيرة. حيث ترفض السلطات أي انتقادات جملة وتفصيلا، كما ترى التوقعات السلبية بمثابة أعمال تخريبية. كذلك سيقدم المزيد من التدهور للمؤشرات الاقتصادية على نحو محتمل كجزء من الطبيعة الجديدة وبذلك، تستطيع السلطات أن تقنع نفسها وأن تخدع العامة. وفي المقابل، يتكيف العامة ويعتادون على المعيشة بأقل القليل.

إنها أزمة خطيرة بالتأكيد – ولكن بما أن ما ندركه هو الواقع في روسيا، فمن الأفضل ألا نفعل شيئا. لذلك قال «سيرجي إيفانوف»، رئيس موظفي الرئاسة القوي لدى بوتين، ضمنيا في

مقابلة مع صحيفة «فاينانشال تايمز»

في يونيو/حزيران 2015 إن سلوك «الناتو» يشتت الحكومة الروسية عن إجراء إصلاحات هيكلية.

تمثل المباحثات الأخيرة رفيعة المستوى بشأن الإصلاحات الهيكلية، إلى حد كبير، أداة لجس النبض السياسي. ويشهد على ذلك الضجة التي حدثت عندما اقترح وزير المالية السابق «أليكسي كودرين»، كانتقام لقرار إعادة جدولة الانتخابات البرلمانية من ديسمبر/كانون الأول 2016، إلى سبتمبر/أيلول 2016، إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في ذات الفترة (بدلا من إجرائها في 2018) لإعطاء الرئيس الروسي تفويضا عاما قويا لإجراء الإصلاحات.



تظهر النخبة الروسية الحالية تشابها مع سابقيهم خلال عهد «ستالين» من حيث الحذر الشديد من الزعيم والخنوع له

حدثت استجابة فورية من قبل الطبقة السياسية المذعورة. حيث شعر الكثير من الشخصيات أنهم يخضعون لاختبار من قبل بوتين نفسه، ففي النهاية، لا يزال الرئيس الروسي على علاقة جيدة بكودرين، وهو الصديق والزميل القديم. ومع ذلك، سارعت النخبة السياسية بشكل عملي للتأكيد على ولائها لبوتين والطعن بقوة في فكرة الانتخابات الرئاسية المبكرة. إنهم يعلمون ما في الأمر. فهكذا اختبر جميع القادة السوفيت تقريبا، من «ستالين» إلى «بريجنيف»، ولاء النخبة. وفي كل مرة تقريبا، أظهرت النخبة الروسية الحذرة خنوعها للزعيم، وبغضها للإصلاحات.

تصبح النخبة أكثر وعيا تجاه تلك التحديات. وبالتالي، يستجيبون لأي مطالب للتحرر بمقترحات سخيفة وصارمة. على سبيل المثال، دعم القانون سيء السمعة الخاص بـ«العملاء الأجانب» بقانون جديد خاص بالمنظمات «غير المرغوب فيها». يحاول أعضاء مجلسي «دوما» و«الاتحاد»، وهما المجلسين التشريعيين في روسيا، أن يتغلبا على بعضهما البعض ببيانات قاسية بشأن الغرب – فهناك القليل من الطرق الأفضل لإظهار الولاء للسلطات. وعلى خلفية ذلك، تظهر النخبة الروسية الحالية تشابها غير مسبوق مع سابقيهم خلال عهد ستالين.


تدمير روسيا

يساهم الاعتقاد السائد بأن؛ كرامة روسيا قد استعيدت بعد سلسلة من الانتهاكات على يد الغرب، في حساب معدلات شعبية بوتين المتزايدة. إلا أن المعنى الدقيق لكلمة كرامة يؤسس لمناقشة وجيزة بذلك الصدد. فكما كتب الفيلسوف الإسرائيلي، «أفيتشاي مارجاليت»، في كتابه «

المجتمع الكريم»

؛ «المجتمع المتحضر هو الذي لا يهين أعضاؤه بعضهم البعض، بينما المجتمع الكريم هو الذي لا تهين فيه المؤسسات البشر»، وفي أنواع أخرى من المجتمعات، تعامل مؤسسات الدولة البشر مثل الأغراض، أو الحيوانات، أو الأطفال الذين لا يستطيعون تحمل مسؤولية أنفسهم – أو على الأقل، ليس بعد.

بالنسبة للكثير من الروسيين، يستطيع الشخص المهان فقط أن يعيش خاضعا. ما يعني أن عملية استعادة الكرامة أشبه بقيام الشخص من خضوعه، وهو تشبيه روسي مميز يرمز إلى استعادة الكرامة.



معارضة روسيا وتحديها للغرب ينظر إليها المواطنون كنوع من أنواع استعادة الكرامة التي أهدرتها الهزيمة في الحرب الباردة

إذن فماذا حقق بالفعل الرئيس الروسي طويل العهد؟ وفق استطلاع للرأي أجري في أغسطس/آب 2014، تمثل أكبر إنجازاته في

استعادة وضع روسيا كقوة عظمى

. فبعد انهيار الاتحاد السوفيني، شعر الكثير من المواطنين بالإهانة بسبب الهزيمة في الحرب الباردة. والآن استعادوا كرامتهم ويعود الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى معارضة روسيا للغرب وتحديها له. طمست تلك الإهانات السابقة بفعل بناء قلعة محاصرة داخل الحدود الممتدة للبلاد. وفي خضم ذلك، فعلت روسيا كل شيء ما عدا قطع علاقاتها بالحضارة الأوروبية الأطلسية.

فلنلق نظرة على كيفية تمحور تلك الجهود في الإطار السياسي. لقد أصبحت استعادة روسيا لوضعها كقوة عظمى رمزا لاستعادة الكرامة. وتمثل إنجازات السياسة الخارجية مجالا للتعويض عن حقيقة عدم استعادة الكرامة داخل البلاد. ستكشف أي محادثة قصيرة مع أغلب المواطنين الروسيين عن أنهم لا يزالون يشعرون أنهم عزل تماما في مواجهة الضغوط من قبل المدراء الصغار والكبار، وشركات الخدمات، ومفتشي الضرائب والحرائق، والمحاكم، والشرطة، ومشروع الخدمة العسكرية، وحتى دوريات التأمين العشوائية في الشوارع التي يجريها القوزاق.

في ذات الوقت، يبدو المواطن الروسي في عصر ما بعد السوفيتية راضيا (أو مدعيا كونه راضيا) بالشعور بالانتماء لشيء كبير مجهول الهوية، كحشد يتشارك الفخر بذاته وبقائده. ويشعر المواطن الروسي العادي مرة أخرى بالفخر لكونه مختلفا عن الجميع، وهو جاهز للمعاناة من أجل الصالح العام.

يمكن تلخيص ذلك البناء المعقد في اشتراط «القرم مقابل الحرية»، الذي يسجل التقسيم الحالي للعمل بين النظام ورجل الشارع. أصبحت شبه جزيرة القرم، التي ضمتها موسكو إليها في مارس/آذار 2014، تشبيها أوسع لصورة روسيا كقلعة محاصرة ينبع فخرها من نجاحات الماضي. تشمل تلك النجاحات انتصار روسيا في حرب الشتاء عام 1939 ضد فنلندا، أو الروايات التحريفية للاتفاق الألماني السوفييتي، الذي أدى إلى ضم عدد من الأراضي المجاورة خلال الحرب العالمية الثانية وقسَّم أراضي بولندا، أو حتى اجتياح موسكو عام 1968 لتشيكوسلوفاكيا خلال ربيع براج.



وفق استطلاع للرأي أجري في يونيو/حزيران 2015، بلغت شعبية الرئيس الروسي «بوتين» ما يقارب 90%

تمتعت أجيال الحقبة السوفيتية بمجموعة مختلفة تماما من الإنجازات، وسعت لتفسير الصراع من أجل بناء الشيوعية في إطار تاريخي عبر التركيز على صور الحرية والكرامة التي يمكن تعقبها في أحداث مثل ثورة الديسمبريين عام 1825 وإلغاء العبودية في القرن التاسع عشر.

يوجد أيضا تفسير آخر بسيط جدا لسبب استمرار ازدياد شعبية «بوتين» في وجه التدهور الاقتصادي. فللأبوية جذور عميقة في المجتمع الروسي، وفي أوقات الأزمات، تتوجه القطاعات الهشة من الشعب، خصوصا غير القادرة على تدبير أمورها، إلى الدولة طلبا للمساعدة. ولأسباب مفهومة، ينفرون من معارضة المؤسسة التي تطعمهم. وتؤدي حقيقة أن الدولة مرتبطة عن قرب بالعلامات المميزة لبوتين تخلق دائرة حميدة حول الرئيس. ووفق استطلاع للرأي أجري في يونيو/حزيران 2015، بلغ

معدل شعبيته

مستويات بالغة الارتفاع قاربت الـ90 بالمئة.

عندما يتعلق الأمر بالقضايا الخلافية، يتخذ الكثير من المواطنين بسعادة جانب الدولة. وبالتالي، تمثل انتهاكات حقوق الإنسان وسيلة شرعية لتخليص المجتمع الروسي من النفوذ الأجنبي. كثيرا ما تُرى مشاهد سوء استخدام السلطة كجزء لا يتجزأ من حق النظام الشرعي في حماية الأغلبية من الأقلية الهدامة في المجتمع.


دولة الأسوار المحطمة

بعد بداية الحرب في شرقي أوكرانيا بين القوات الحكومية والانفصاليين المدعومين من روسيا، حصل الكثير من الأمور التي حُظرت من قبل في روسيا؛ على مباركة رسمية. والآن مع توسع حدود ما هو مسموح – على سبيل المثال، أعيد تصنيف الحرب السرية ضد دولة مجاورة على أنها صراع دفاعي وعادل – يُعاد تقييم بعض الصفحات المظلمة في تاريخ روسيا. وأصبح الغضب والعداء طبيعة في الخطاب السياسي.

وبدلا من توحيد روسيا، قسمت الحرب -بشكل فعال- الدولة إلى معسكرين، معسكر المواليين ومعسكر غير الوطنيين، أو السعداء بالالتزام بالقواعد الجديدة للسلوك المعياري ومن يرفضون الالتزام بتعاليم الحزب.

يمثل وضع الصفات والمعايير للمواطنين سمة كلاسيكية للأنظمة الشمولية، وليس الاستبدادية. فلم يَصُغْ نظام بوتين نسخة حديثة من «قانون الأخلاق لباني الشيوعية» الخاص بالحقبة السوفيتية، وهو مجموعة من 12 قاعدة أخلاقية ينتظر من أعضاء الحزب الشيوعي اتباعها، ولكن يتواجد شعور دقيق بالسلوك الملائم وغير الملائم بشكل واضح. حاوِلْ فقط أن ترفض أحد الأوشحة المجانية ذات اللونين البرتقالي والأسود – التي ترمز إلى شجاعة الجيش الروسي – عند توزيعها في الشارع بسانت جورج، قد يعتبر سلوكك غير أخلاقي، أو منحرف على الأقل.



بموجب مرسوم رئاسي، أصبحت الخسائر البشرية للجيش الروسي ضمن أسرار الدولة، وﻻ يجوز الإعلان عنها

منذ سنوات قليلة، كان من المعتاد تسليط الضوء على الموت أثناء تنفيذ العمليات العسكرية. الآن أصبح معتادا السكوت بشأن تلك الأمور، لأن هذا ما تريده الدولة. ويدعم النموذج السلوكي للمواطنين بقانون معياري – وهو مرسوم رئاسي يجعل تلك الخسائر البشرية ضمن أسرار الدولة. ورغم اعتراض مناصري حقوق الإنسان حول أن القانون ينتهك الدستور الروسي وقانون أسرار الدولة، ليست هناك آليات واضحة للطعن في قائمة المعلومات السرية الخاصة بالدولة لتضمين معلومات بشأن خسائر الجيش الروسي خلال العمليات الخاصة التي تنفذ في وقت السلم.

كذلك يصبح التعاون بين الجمهور والأجهزة الأمنية مقبولا أخلاقيا ومدعوما

بتشريعات جديدة

. على سبيل المثال، التعاون مع الهيئات التحقيقية أصبح الآن يحسب ضمن الخبرة العملية للمواطن.

بشكل أساسي، يواجه المواطنون الروس قانونا جديدا غير مكتوب للسلوك المقبول بشكل معياري. والذي يدير قائمة من السكوت بشأن أسرار الدولة (ففي النهاية، هناك حرب جارية) وارتداء أوشحة «سانت جورج» وحتى قضاء الإجازات في القرم، وتبني مشاعر جيدة تجاه الصين، وتبني عقلية منفتحة بشأن وجهات النظر التحريفية بوقاحة للتاريخ الروسي، واحتضان مستوى اصطناعي من الحماسة الدينية الأرثوذكسية الروسية.

ربما يحدث الضرر الأكبر عندما يتعلق الأمر برؤية الجمهور للآخر. حيث يبدو أن جميع الأسوار تسقط عندما يتعلق الأمر بكيفية مواجهة بقية العالم والطابور الخامس داخل البلاد. فقد أصبح الخطاب شديد العدوانية والعدائية، خصوصا على التلفزيون وشبكات التواصل الاجتماعي، هو القاعدة. كما أصبحت المستويات المرتفعة من الكراهية تجاه الأقليات، والغربيين، والتحررين المحليين مقبولة تماما.

كذلك وفر ذلك المناخ من العدوان والعنف أساسا لعملية الاغتيال التي جرت في فبراير/شباط 2015 للسياسي المعارض «بوريس نيمتسوف». من المفاجئ بشدة بالنسبة للمراقب للوضع أن عملية الاغتيال لم تصدم أو تقلق المجتمع الروسي. بل على العكس، اتسعت حدود ما هو مسموح، حيث أصبح الاغتيال السياسي الآن مقبولا إن كان يخدم الصالح العام. مثلما علَّق أحد أعضاء النخبة الروسية سرا:

إن أردت أن تصبح سياسيا حقيقا في روسيا اليوم، يجب أن تستعد لثلاثة أمور، يمكن أن تلقى في السجن، وقد ينتهي أمر من تحبهم بالسجن، وفي النهاية، قد تتعرض للقتل.

تسير روسيا مجددا على طريق الحرب، وتريد السلطات من المواطنين أن يصدقوا أنهم يعيشون في قلعة محاصرة في القرون الوسطى. تغذي السلطات ذلك الانطباع عبر الإشارات المستمرة إلى الهجمات من قبل قوات معادية، والعملاء الأجانب، والمنظمات غير المرغوب فيها. يدمر الطابور الخامس والخونة الأواصر الروحانية للقلعة من الداخل. لجميع تلك المصطلحات وقع رنّان بالروسية، وأصبحت شائعة سياسيا بواسطة الرئيس بنفسه. كما كان لها تأثير واسع على مجموعة من القوانين القمعية، التي تم تبنيها بعد عودة بوتين للرئاسة عام 2012.

عودة الحديث السطحي والمنفلت عن الحرب النووية يمثل مؤشرا آخر على توقف عمل أسوار الماضي. يمكن القول إن ذلك يجعل الوضع الحالي أسوأ مما كان عليه في أوج الحرب الباردة، عندما جرت المواجهة بين قوتين عظمتين بشكل دوري. في تلك الفترة، صيغت القواعد السلوكية بشكل واضح، وكانت مفهوما على نحو مشترك أن أي

مواجهة نووية

ستحمل الخسارة للطرفين. أما الآن، لا أحد يعلم كيف سيؤول الوضع.

يمكن لتدهور القيود الطبيعية الخاصة بالسلوك والخطاب السياسي أن يؤتي تبعات واسعة للغاية. ففي أسوأ الأحوال، هناك الكثير من الأدلة على أن الثقافة السياسية الروسية تصبح منهجيا أكثر بدائية وصرامة. من السهل أن تجد روايات على مواقع التواصل الاجتماعي عن

مسابقات «ركل أوباما»

في يوم الشباب ببعض البلدات الروسية الريفية. يقال للمشاركين، الذين يدعون لركل لوح مقوى يحمل صورة الرئيس الأمريكي، إن «روسيا المقدسة تقوم من عثرتها من خلال كل ركلة» حتى في الأماكن الكوزموبوليتانية مثل موسكو، يمكن أن تجد صورا ورسوما عنصرية بشكل صادم تنال من باراك أوباما. يصعب تخيل أن تلك المواد قد ظهرت بشكل عفوي دون شكل ما من التشجيع الرسمي.


التعامل مع الماضي

يحاول النظام الروسي بشكل فعال أن يستمد شرعيته من الماضي. يساعد ذلك في تفسير الزيادة الأخيرة في اهتمام السلطات بحقبة ستالن وإعادة التقييم التدريجي للإنجازات التاريخية لستالن. حاول بوتين نفسه أن يبرر حرب الشتاء عام 1939 ضد فنلندا، والاتفاق الألماني السوفييتي، والاجتياح الروسي لأفغانستان عام 1979.

علاوة على ذلك، يحاول النظام أن يسيطر على الماضي. فقد شارك النائب العام الروسي في محاولات هزلية لتحليل القرارات التشريعية في العصر السوفيتي، التي حولت القرم من الاختصاص القضائي لجمهورية روسيا السوفيتية الاتحادية الاشتراكية، إلى الاختصاص القضائي لجمهورية أوكرانيا السوفيتية الاشتراكية. تجرى تحليلات مشابهة بصدد شرعية استقلال دول البلطيق بعد الانهيار السوفيتي.

تمتد عملية إعادة تقييم الماضي لتشمل غزو تشيكوسلوفاكيا أغسطس/آب عام 1968. فقد أذاعت قناة حكومية روسية، مبكرا من عام 2015، وثائقيا جديدا بعنوان «اتفاقية وارسو: صفحات رفعت عنها السرية»، برر ذلك الوثائقي أحداث عام 1968 على نحو أخرق. فوفق الفيلم، كان الغزو مجرد رد فعل أمام الخطط الشريرة للناتو والجيش الاتحادي الألماني، التي كانت تذكي نيران الإطاحة بالحكومة التشيكوسلوفاكية. كان ينتظر أن يستحضر الوثائقي اقترانات بثورة «ميدان» عام 2014 في أوكرانيا عبر تقديم تصورات مشابهة ظاهريا لاحتجاجات في الشارع مدعومة من الغرب. لتوضيح أوجه التشابه، ندَّد الصوت نصف العابس نصف الساخر للراوي بمرارة وسخط بربيع براج.

يبدو واضحا أن الفيلم ليس موجها للجمهور الأجنبي، بل كان مجرد محاولة لترجمة أحداث جرت منذ حوالي 15 عاما إلى الحاضر. قيل للشعب الروسي الحالي، الذي حظى الكثير منه بحسن حظ عدم العيش تحت نظام اشتراكي خلال السنوات العشرين الماضية أو ما يزيد عن ذلك، بسرور إن القوات السوفيتية قد جُلبت لتحمي النجاحات الاشتراكية. وأن قوات الناتو قد حركت من سوبيا في جنوبي ألمانيا إلى الجبهة التشيكوسلوفاكية، وأن حوالي 300,000 جندي ألماني كانوا بالفعل داخل تشيكوسولفاكيا. بل وزعم الوثائقي إن مستودعات أسلحة الناتو قد كشفت، مثلما كشفت مخططات الثورات المشابهة لـ«ميدان».

بالتأكيد، لم يذكر مروجو القصة شيئا عن إرادة الجماهير، أو الحقيقة غير المريحة التي تقول إن شعب تشيكوسلوفاكيا ببساطة لم يُرِدْ أن يعيش حياة مختلفة. بالتأكيد لم يبدُ الأمر مضحكا بالنسبة للجميع. فقد ردت وزارة الخارجية التشيكية على ذلك الاستفزاز فوريا واستدعت سفير موسكو في براج لتقديم توضيح.

مجددا تم تأميم واحتكار التاريخ. وتتحول النسخة المعتمدة رسميا من التاريخ إلى أداة رئيسية لخداع الرأي العام والسيطرة على آثار الجمود السياسي والاقتصادي الحالي بالبلاد.


الانتخابات: عناء بلا جدوى

المبادرة الأخيرة لتغيير موعد الانتخابات البرلمانية لعام 2016 من ديسمبر/كانون الأول إلى سبتمبر/أيلول، تمثل انعكاسا آخر للطريق المسدود الذي قادت السلطات نفسها إليه. تحمل تلك الخطوة الجريئة الكثير من الدلالات بشأن قيود العملية السياسية الحالية، وميل النخبة إلى الحديث في إطار تاريخي تماما، وحاجة السلطات الشديدة للحفاظ على سلطتها مقابل أي ثمن.

ربما لم يحدث أبدا في التاريخ السياسي لروسيا ما بعد السوفيتية أن بدا تبرير أفعال النظام عديم الجدوى، ومصطنعًا إلى هذه الدرجة. لم يحدث من قبل أن أولى الجمهور ذلك الكم القليل جدا من الاهتمام إلى المناورات السياسية للنظام. في الحقيقة، تبدو اللامبالاة السياسية متأرجحة عند نفس مستويات الدعم الشعبي للنظام. وعلى خلفية ذلك الدعم اللامبالي، تحظى الالتواءات السياسية للحكومة بنفس اللامبالة الجماعية التي يقابل بها التغير العابر في الطقس.

سيضمن التغير في الجدول الزمني للانتخابات البرلمانية سيطرة أكبر على العملية الانتخابية، لأنه يعتقد أن الشعب لن يحظى بالوقت الكافي للعودة إلى روتينهم الطبيعي بعد الاجازات الصيفية. يراهن الكرملين على أن المصوتين سيكونون في مزاج أفضل في سبتمبر/أيلول بالمقارنة بديسمبر/كانون الأول، وبالتالي يرجح تعبيرهم عن اللامبالاة المفيدة للنظام في عمليات الاقتراع.

بالتأكيد يفترض ذلك أن الركود الاقتصادي الممتد للبلاد أو الموجة الجديدة من الأزمة لن تفاقم المشكلات الاجتماعية القائمة. ففي النهاية، من غير المحتمل على الأرجح أن يؤثر تغيير موعد الانتخابات على أي شيء. ويبدو واضحا أن السلطات مذعورة ومتوترة، وتحاول بحرص أن تسيطر على أدق التغييرات في أفكار وسلوك المصوتين.

يتجلى الكثير من تلك الجهود في التغييرات القانونية والتراجع المستمر في احترام القانون، والتراجع العام في الثقافة القانونية. يبدو القانون الأخير الخاص بالمنظمات غير المرغوب فيها مثالا واضحا على هذا الاتجاه. كما بادر مجلس النواب الروسي، «دوما»، بإجراء تعديلات على قانون السلطات الشرطية، وحكمت المحكمة الدستورية في يوليو/تموز بأن روسيا قد ترغب في الإذعان بشكل انتقائي فقط لأحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

بينما لا تزال بعض الجوانب القانونية محل نقاش، أصدر رئيس المحكمة الدستورية وصفا واضحا لموقفه، وهو موقف شبه رسمي: ستقبل روسيا الأحكام الجيدة (تحديدا: الملائمة) للمحكمة الأوروبية. لا يهم حقا إن كان ذلك الموقف يمثل امتهانا للأعراف الأساسية للقانون الدولي أو التسلسل الهرمي للقانون المنصوص عليه في دستور روسيا الاتحادية، الذي يعترف صراحة بسيادة القانون الدولي على التشريعات المحلية.

بالتأكيد تستطيع السلطة دائما أن تأتي بتبريرات قانونية أو شبه قانونية لأي قرار – فالأمر يتعلق فقط باستخدام دهائها القانوني. ولكن تلك الأساليب تجرُّ روسيا لا محالة نحو وضع قد تقوم فيه تشريعات الدولة على أسس شبه قانونية أو غير قانونية بشكل صارخ، تماما مثلما عدل نظام ستالن العناصر السياسية للقانون الجنائي السوفيتي.

يهدف قانون المنظمات الأجنبية والدولية غير المرغوب فيها إلى خنق عمليات المؤسسات الأجنبية، التجارية وغير التجارية، على الأراضي الروسية. يمكن فرض القيود فقط وفق تقدير النائب العام، رغم أنه يفترض أن ينسق جهوده مع الوكالات التنفيذية الأخرى وهيئات إنفاذ القانون.

قدم الكرملين طلبا رسميا عبر المجلس الاتحادي، وهو المجلس الأعلى للبرلمان، للتحقيق في أنشطة اثنتي عشر منظمة عبر تصويت بالإجماع على ما أطلق عليه «قائمة التوقيف الوطني» في مطلع يوليو/تموز. وبينما حددت منظمة واحدة، وهي «المؤسسة الوطنية للديموقراطية» ومقرها بأمريكا، بشكل رسمي حتى الآن، سيؤدي ذلك التكميل المفيد لقانون العملاء الأجانب إلى الاسهام في موقف أكثر عدائية ضد كل ما هو أجنبي، وسيعزز مناخ التشكيك بين الشعب بشكل عام. وعبر تأخير طلب المجلس الاتحادي بشكل متعمد، تأمل السلطات بشكل واضح تخويف المنظمات التي تريد أن تتابع أنشطتها.

ستتيح التعديلات المقترحة على قانون السلطات الشرطية لضباط الشرطة، نطاق أكبر كثيرا في استخدام الأسلحة وإجراء عمليات التفتيش. من الأمثلة المؤسفة أن الشرطة حاليا ممنوعة بالقانون من إطلاق النار على النساء، ولكن وفق التعديلات المقترحة، سينطبق ذلك في المستقبل على النساء الحوامل فقط. بينما تبدو التغييرات الأخرى هادفة إلى إعطاء السلطات اليد العليا في التعامل مع الاحتجاجات السياسية، على سبيل المثال، عبر إلغاء الحاجة إلى مذكرة لتفتيش المواطنين أو السيارات. إن طبقت التعديلات، ستساهم التعديلات في دفع روسيا نحو خلق دولة بوليسية حقيقية.

وأخيرا، يتناقض الحكم بالاختصاص القضائي المحدود للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان على الأرضي الروسية بشكل مباشر مع مبدأ تسلسل القوانين المعروف لأي دارس للقانون في السنة الأولى. حتى الآن، يتقيد عدم امتثال روسيا بالإعلانات ذات الطابع السياسي، ولكنه يخلق أسسًا شبه قانونية لتجاهل الأحكام غير الملائمة سياسيا الصادرة عن محكمة ستراسبورج في المستقبل، إن احتاجت لفعل ذلك. تشير تلك المعاملة للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أيضا إلى انحراف روسيا العام نحو الانعزالية القانونية.


الطريق الروسي المسدود



مثلت المبادرة الأخيرة لتغيير موعد الانتخابات البرلمانية حلقة جديدة في مسلسل تغول السلطة الروسية للحفاظ علي موقعها بأي ثمن

ليس من الصعب التطلع إلى الأحداث الجارية دون التوصل إلى شعور واضح بأن النظام الروسي المعاصر في الطريق إلى كارثة. في أفضل الأحوال، يمكننا توقع الانزلاق إلى فترة طويلة من الجمود السياسي والاقتصادي والفكري. وفي أسوأ الأحوال، يهدد الموقف بأن يخرج عن السيطرة ويسحق براعة الكرملين بصدد الأنظمة الاقتصادية والسياسية التي صقلت تحت حكم بوتين.

مع الأسف، تقدم روسيا المبكر نحو الانضمام إلى الحظيرة الدولية يتراجع الآن بأقصى سرعة، ويبدو الطريق الجديد للتنمية بشكل أكبر كشريط موبيوس مكون من المآسي والأخطاء القديمة المتكررة. السؤال الأساسي هو كم عدد العقود التي يجب أن تمر حتى تهرب روسيا من مسارها الرتيب من التخلف وأوجه القصور الشديد المتعلقة بالحكم.

خلال العصر السوفيتي واليوم، ساوى الحكام الروسيين بين مصالحهم ومصالح الدولة، والتي ساووها بدورها بمصالح كامل البلاد. نتيجة لذلك، قلصت الدولة إلى ما هو أكثر قليلا من مجموعة من الأفراد بصفتهم الشخصية، وهي الدائرة الداخلية للزعيم، والصف الأول من النخبة المالية والسياسية.

تتمثل مشكلة رئيسية لذلك النموذج في حقيقة أن المجموعة الحاكمة يجب أن تستخدم الموارد التي تنتمي، عن حق، إلى المجتمع ككل للحفاظ على سلطتها. من حسن حظ من على القمة، لا يزال المواطنون الروس العاديون غير قادرين على رؤية الوضع على حقيقته ويُجتذبون بسهولة إلى اتجاهات تخلق مصادر لدعم الوضع القائم.

يشوه الهدف الأسمى الخاص بالحفاظ على السلطة الأولويات المتعلقة بالميزانية وبناء الاقتصاد الروسي. التنافس الاقتصادي ليس مرغوبا فيه بما أن الحكام يعتمدون على هيمنتهم على الدولة والشركات الحكومية. يؤمِّن النظام، بحرص شديد، السيطرة على الموارد التي يمكن استبدالها، الخاصة بالميزانية الاتحادية، حيث يستخدمها في أغراض مثل الدفاع، والأمن، والإدارة العامة، والبروبجندا التي تساهم في ضمان استمرارية النظام. (لذلك ليس مفاجئا بتاتا أن الحكومة قد تمكنت مؤخرا من اتخاذ قرار بتخصيص 7 مليار روبل إضافية – 104 مليون دولار – للقناة الأولى، وقناة «فيجترك»، في فترة تميزت بالقيود الشديدة على الميزانية).

لم يعد هدف ضمان استمرارية الزعيم والنخبة يشمل أي محاولات للتحديث من أعلى – ناهيك عن التحرر الاقتصادي أو تعزيز ديموقراطية المجتمع ككل. سيشجع ذلك الهدف وحده النظام خلال انتخابات 2016 البرلمانية، وانتخابات 2018 الرئاسية. حتى بعد التغلب على تلك العقبات قريبة الأجل، سيرتبك النظام على الأرجح لتقديم رؤية أكثر أقناعا للمستقبل أو إستراتيجية شاملة لتحقيقها. ذلك التركيز المستمر على الأهداف قصيرة المدى قد يتسلل نحو الدورة السياسية القادمة أيضا، ليثير أسئلة حتمية حول عجز النظام عن التفكير بشكل إستراتيجي.

في غضون ذلك، يرجح أن يظل العقد الاجتماعي الجديد الخاص بـ«القرم مقابل الحرية» قائما، خلال الفترة الحالية على الأقل، يساهم النظام في استيعاب الأثر السلبي للأوضاع الاجتماعية الاقتصادية المتدهورة في روسيا. ولكن ستأتي فترة سيضطر فيها النظام أن يقدم للجمهور شيئا جديدا، وليس بطاقة القرم المبتذلة.

بالتأكيد لا يمثل حدوث معجزة اقتصادية أحد الخيارات. ولا تستطيع روسيا التفكر مليا في خوض حرب مع الغرب، خصوصا حرب على نطاق واسع، بسبب مواردها المحدودة. قد ينغمس النظام في خطوات رمزية، مثل حملة «القطب الشمالي لنا» الجديدة الباعثة على الارتياح. ولكن فوائد تلك الألاعيب سوف تزول سريعا على الأرجح. تستعد القيادة الروسية ببطئ للمزيد من العدو البطيء حول شريط موبيوس، والذي لابد أن ينتهي بمأزق استراتيجي.