في مدينة الملائكة؛ لوس أنجلوس ..

كانت علامة Hollywoodland تعلو أحد المرتفعات التي يراها القاصي والداني، تعلن عن المشروع السكني لإحدى الشركات العقارية في هذه المنطقة الساحرة. ثم سرعان ما أصبح هذا الإعلان الضخم الذي شيدته الشركة عام 1923 علامة مميزة للمكان.

لم يخطر في بال ديدا ويلكوكس حينما أطلقت على مزرعتها الصغيرة اسم هوليوود أن المنطقة كلها ستُعرَفُ لاحقًا بهذا الاسم، ويصير له هذا الشأن العظيم!

ديدا هي زوجة صانع الأحذية هارفي ويلكوكس، الذي كان من أبرز أنصار حظر الكحوليات في أمريكا، أسس مزرعته في هذه المنطقة عام 1887، واختارت لها زوجته هذا الاسم تقليدًا لجارتها في هولي كانيون، ثم صارت المنطقة كلها تُعرَفُ باسم هوليوود.

معركة أديسون الاحتكارية

في مطلع القرن العشرين، مَهْد الـ «سينماتوغراف» (جهاز التصوير السينمائي) وصناعة السينما، كانت الحرب مستعرة على ضفتي الأطلسي، بين شارلز باتيه الفرنسي، وتوماس أديسون الأمريكي، لبسط النفوذ والسيطرة على زمام هذه الصناعة الوليدة.

في نيويورك، كان التضييق وممارسات أديسون الاحتكارية الجائرة تطول إلى الجميع من رواد هذه الصناعة، حتى إن أديسون كان يرسل عيونه لتراقب نشاط كل المتمردين على نظامه من صناع السينما الخارجين عن طوعه.

صار الأمر أشبه بلعبة القط والفأر؛ حيث كان المخرجون ومعاونوهم من المتمردين يضطرون إلى إخفاء الكاميرات عند التصوير الخارجي، أو يقومون بإلهاء جواسيس أديسون بسيارة تحمل معداتٍ وتتحرك إلى مكانٍ آخر حتى يتتبعوها ويتمكنوا هم من التصوير بأمانٍ. وانحدرت أخلاقيات اللعبة إلى الدرجة التي جعلت رجال أديسون يلجئون أحيانًا إلى الرشوة ليَعرضوا أفلام المخالفين في بيوت الدعارة؛ لكي يُشنِّعوا على أصحابها ويُؤَلِّبوا عليهم المجتمع الأمريكي المحافظ.

لايمل: سبارتاكوس السينما

أحد قادة هذا التمرد كان المخرج الأمريكي الكبير «كارل لايمل». بدأ أنكل كارل – كما كانوا يلقبونه – حياته كعامل يهودي فقير في شركة تبيع الأدوات المكتبية بالجملة في بلدته لاوبهايم في ألمانيا، فأرسله والده إلى نيويورك للبحث عن فرصة أفضل للعيش، ومنها انتقل إلى شيكاجو وعمل بائعًا، ومزارعًا، وكاتب حسابات في أحد مصانع الملابس، حتى صار مديرًا فيه، ثم ادَّخر بعض المال وقرر فتح سلسلة محلات لبيع الملابس الرخيصة بالتجزئة.

وفي يوم، أثناء بحثه عن محل مناسب في شيكاجو، مرَّ بأحد الـ«نيكل أوديونز – Nickelodon» أو مسارح السينما المتواضعة، ودخله بدافع حب الاطلاع، وسحرته فكرة السينماتوغراف والصور المتحركة، فقرر أن يتخلى عن مشروعه الأصلي ويتفرغ لهذه الصناعة.

بالفعل افتتح في عام 1906 أول نيكل أوديون في حي ميلواكي بشيكاجو، وبدأ يستورد أفلام شركة باتيه الفرنسية ليعرضها فيه، وسعى في اجتذاب الجمهور بجَعْلِ المكان أفضلَ من منافسيه من حيث المقاعد المريحة والنظافة والتهوية. ثم قرر بعد ذلك التوسع واتجه إلى الإنتاج والتوزيع، وأسس شركة لخدمات الأفلام، وأضفى عليها طابعه الخاص. ورغم ذلك لم تَرُقْ له الأمور، وعانى كثيرًا من الإذلال بسبب ممارسات توماس أديسون الاحتكاريَّة الجائرة، وسَئِمَ منها كما سَئِمَ غيره. ولكنه قَرَّرَ وحدَه أن يتحداها، فأسس في نيويورك شركة واستوديو IMP، وكان يشتري له المواد الخام مباشرة من لوميير في فرنسا، وبالفعل عرض أول أفلامه في عام 1909، وحَقَّقَ نجاحًا كبيرًا.

رغم هذا النجاح، سئم أنكل كارل أسلوب أديسون المستنفد للطاقة والوقت والمال، وقرر كغيره حينها الاختفاء بعيدًا عن عيونه، فلجئوا إلى لوس أنجلوس؛ حيث الدفء والشمس الساطعة والطبيعة الساحرة. بيئة جديدة مختلفة تمامًا وتساعد على العمل والإبداع، وأوفر في التكاليف كذلك. فأسس هناك استوديوهات يونيفرسال Universal Studios، كما أسس غيره استوديوهاتهم.

«غير مسموح للكلاب أو الممثلين»!

كانت رحلة شاقة وغُربَةٌ شديدة في بادئ الأمر. حيث كان المسافرون يقطعون الرحلة بالقطار من نيويورك في أيام طوال، يندفعون فيها نحو النوافذ هربًا من الحر الشديد بالداخل، ليجدوا موجات من الرمال الحار الخشن تَتَلقَّاهم، حتى يَصلوا أخيرًا إلى كاليفورنيا وكأنهم خرجوا من الجحيم إلى الجنة.

أما عن الاستقبال، فكان أشد مرارة وقسوة؛ ففي هذا الوقت، قرابة عام 1910، كانت الأرض تقطنها بعض المنظمات والتجمعات الدينية لا يَزيد عددها على 170 شخصًا. كانوا يحتقرون رجال السينما أيَّما احتقار، كانت سُمعة النيكل أوديونز وسيرة الممثلين الموسومة بالخلاعة والمجون تسبقهم، حتى كانوا يعلقون لافتات كتبوا عليها «غير مسموح للكلاب أو الممثلين»، وكان السُّكان يطلقون على الاستديوهات «مستعمرة السينما» وكأن أصحابها مَنفِيِّينَ في الصحراء.

لم يكن أحد يحترمهم على الإطلاق .. حتى جاء أنكل كارل؛ فهو الذي جعل لهذه الصناعة وأربابها وضعًا مختلفًا وسط الجميع، حتى النخبة السياسية في واشنطن أجبرها على احترام رجال هوليوود، بعدما كانوا ينظرون إليهم على أنهم مجرد باعة جائلين وحفنة من الأفَّاكِينَ.

صناعة النجوم

استطاع كارل لايمل في غضون سنوات قليلة أن يغير قوانين اللعبة، وأن يحرز انتصارًا على جميع منافسيه، الأمريكيين والأوروبيين على السواء، وذلك باحترافه لعبة صناعة النجوم.

لم يكن معهودًا لدى جمهور السينما أن تكون لديه معرفة كافية بالممثلين الذين يَراهم في الأفلام، وكان الأوروبيون المنمَّقون يرون أن مظاهر الشهرة لا تَتوافق مع الطموح الخلَّاق للسينما. وفي أمريكا، القواعد الاحتكارية التي فرضها أديسون وجَبهتُه حرصت على عدم إظهار شخصيات الممثلين للجمهور حتى لا يُطالِبوا بأجورٍ باهظة استغلالًا للشهرة، ولذلك كان غالب النجوم تقترن أسماؤهم باسم الشركة التي يعملون لحسابها، كالممثلة فلورانس لورانس، والممثلة ماري بيكفورد؛ فكلاهما كان يُطلق عليهما «فتاة بيوجراف»، نسبة إلى شركة بيوجراف.

ولقد استثمر أنكل كارل هذه الرغبة الجنونية لدى الجمهور، وعقد صفقة مع فلورانس للعمل لصالح IMP مع بعض الامتيازات؛ فاتفق معها أن تختفي لفترة من الوقت، ثم أشاع في الصحف أن فتاة بيوجراف قد دهسها قطار. ثم نشر بعد ذلك خبرَ تكذيب يذكر فيه أن فتاة IMP ميس فلورانس لورانس – والمعروفة سابقًا بفتاة بيوجراف – حية وبصحة جيدة، وتعمل لحساب شركة IMP، وأن ما نُشر في الصحف كان كذبة رَوَّجَ لها أعداء IMP. منذ ذلك الوقت وأسماء النجوم صارت تظهر في المجلات وفي إعلانات الحائط والأوراق الدعائية، وأصبحت مطمحًا يداعب أحلام الكثيرين.

بين السياسة والسينما

في عام 1914، قام كارل لايمل بخطوة أخرى جريئة، حيث أرسل رسالة إلى الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، يَقترح عليه فيها أن يُلقي كلمة على الشعب الأمريكي من خلال شاشة السينما.

لم يوافقْ ويلسون، فقط لأن صاحب الاقتراح هو لايمل! كان كغيره يرى أنَّ لايمل وزملاءَه يفتقرون إلى الاحترام الواجب. لكن أنكل كارل لم ييأس، وظل يحاول إقناع الرئيس والضغط عليه حتى وافق بعد شهور، فبادر وكتب خطابًا يُلقيه ويلسون بمناسبة العام الجديد يُعرض في دور السينما، ولكن ويلسون رغم موافقته أعاد كتابته.

وعندما استشعر وودرو ويلسون أهمية هذه الآلة الضخمة، خاصة مع دخول أمريكا الحرب عام 1917 وتدهور الوضع في أوروبا، بدأ في تطويع السينما لخدمة السياسة حَسَبَ رؤيتِه، عن طريق البروباجاندا ونشر المبادئ والقيم الديمقراطية الأمريكية في العالم والحفاظ عليها.

سرعان ما استوعبت جميع الأطراف المتنافسة أهمية هذه الآلة في التعبئة ودعم الحكومات في الحروب، وشهدت هوليوود في هذه الفترة تطورًا نوعيًّا في عملية الإنتاج، حيث كانت تتبع وزارة الدفاع وتعمل بالأمر المباشر، وشهدت فترة الحرب العالمية الثانية تزايدًا ملحوظًا في نسبة أعداد المشاهدين للسينما، حتى سُميت تلك الفترة من 1939 إلى 1946 بالعصر الذهبي لهوليوود.

لم يكن يتوقع خبراء الإعلام في هذه الفترة النمو المفاجئ لعدد متابعي الأفلام، حتى إن بعضهم كان يصرح بأن صناعة السينما ستأخذ مرحلة وقتية في الصعود يتلوها تراجعٌ حتى تندثر، إلا أن اهتمام الحكومة وقتها بالأثر القريب للإعلام الجماعي، دفعها إلى ترغيب رجال الأعمال في ضخ المزيد من الأموال في هذه الصناعة، وذلك عبر بث الرعب في نفوسهم من العدو الألماني والياباني، وقامت الحكومة بذلك من خلال بوسترات التوعية التي كانت تبثها عبر قنوات الإعلام المباشر التابعة لها، ويظهر فيها بشكل جلي ترغيبُ وترهيبُ الدولة لقطاع الأعمال بشكل عام، ولرجال الأعمال بشكل خاص، والتي حوت عبارات؛ مثل: «إن العدو يهدد أمن واستقلال الأسواق الحرة والنقابات العمالية، والمساهمة لأجل الانتصار في الحرب تضمن أمن واستقلال تلك الأسواق، التي تحقق لرجال الأعمال الثراء المستمر».

ومن ثم أصبحت آلة الإعلام والسينما سلاحًا قويًّا وقوة ناعمة لا يستهان بها؛ تلهب مشاعر الجماهير وتخمدها، وتقيم الدنيا وتقعدها، وفقًا لمصالح وأهواء من يملك زمام هذه القوة.


موقع الكاتب عمرو كامل



رواية سينماتوغراف