على مر السنين،

تطور فهمنا لمرض السرطان عن طريق تطور النظريات المختلفة

المطروحة لتفسير المرض وكيفية نشأته وانتشاره. لكن معظم هذه النظريات لم تتجاوز كونها تكهنات من بعض العلماء عن كيفية نشأة المرض وانتشاره، ولم يكن هناك دليل قاطع على صحة أيّ منها، ولذلك فقد استمرت جهود العلماء حول العالم لفهم وتفسير المرض بما يساعد على التعامل معه وعلاجه. وقد كان للتطور العلمي في أساليب الفحص والدراسة دورٌ كبيرٌ في المساعدة على تطوير نظرتنا للمرض وكيفية نشأته وانتشاره ومن ثمّ كيفية التعامل معه وعلاجه.


كيف تطور فهمنا لمرض السرطان؟

مع تقدم تقنيات الفحص الطبي، وزيادة فهمنا لطبيعة الجسد البشري وكيفية عمله، تحسن فهمنا لآليات مرض السرطان وظهرت الأدلة العلمية التي ساعدت على تشكيل رؤيتنا لمرض السرطان.

الإشعاع وأثره على الخلايا

جاءت أول إشارة إلى أن السرطان هو مرض يتعلق بالبنية المعلوماتية للحمض النووي في عشرينيات القرن العشرين من أحد مختبرات جامعة تكساس على يد

هيرمان موللر

الذي كان يدرس ذباب الفاكهة متتبعًا النتائج الوراثية غير المتوقعة التي تظهر في بعض الأحيان، حيث وجد أنه بعد أجيال عديدة، فإن الذباب الأصيل أحمر العينين قد ينتج نسخًا ذات عيون بيضاء، كما تظهر عدة ظواهر أخرى غير متوقعة. كانت نتائج أبحاث موللر توضح أنه أيًّا كانت المادة المكوّنة للجينات، وأيًّا كانت طريقة عملها، فإننا لسنا مضطرين إلى انتظار حدوث الطفرات، فمن الممكن إنتاجها وفق الرغبة عن طريق تعريض الذباب للأشعة السينية (1). كانت تلك الطفرات غالبًا ما تتسبب في إصابة الذباب بالعقم أو قتله مما حدا بموللر لافتراض أن لهذه الأشعة قدرة تدميرية وأن هذه القدرة هي سبب فعالية الأشعة السينية في تدمير الخلايا السرطانية سريعة الانقسام، حيث تقوم الطاقة المتولدة من الأشعة السينية بتدمير البنية المجهرية للخلية؛ مما يؤدي إلى طفرات مميتة متسببة في قتل تلك الخلية. وهنا كانت المفارقة، حيث أن تلك الأشعة القادرة على إنتاج الطفرات التي تؤدي للسرطان قادرة في نفس الوقت على قتل الخلايا السرطانية ومن الممكن استخدامها في علاج السرطان.


http://gty.im/3315364

المواد الكيميائية والفيروسية المسببة للسرطان

بناءً على عدد من الملاحظات التي تدعم النظرية القائلة بأن بعض المواد الكيميائية قادرة على التسبب بمرض السرطان (خاصة بعض المشتقات الهيدروكربونية للبترول والفحم) (2) قام العالم

كاتسوسابورو ياميجيوا

وزميله كويتشي إيشيكاوا بجامعة طوكيو عام 1915م باستحداث مرض السرطان للمرة الأولى في حيوانات المختبر عن طريق وضع قطران الفحم على جلد أرنب (3). بتحليل قطران الفحم، وُجد أنه يتكون من خليط غير متجانس من مشتقات الكربون -البنزين والأنيلين والنفثالين والفينولات- والتي اكتشف العلماء خلال العقود القليلة التالية أن كثيرًا منها قادر على التسبب في أورام سرطانية بحيوانات المختبر (4). لم يكن من الأخلاقي تعريض البشر لتلك المواد لاختبار ما إذا كانت تلك المشتقات الهيدروكربونية قادرة على التسبب بمرض السرطان في البشر أم لا، لكن نمو صناعة السجائر وانتشار التدخين لم يجعل من الضروري تعريض البشر لتلك المواد لدراسة تأثيرها حيث أصبح الملايين يقومون بتعريض أنفسهم لتلك المواد طواعية!.

ونظرًا لتعدد تلك المواد المسببة للسرطان، فقد كان من الضروري أن تظهر وسائل لاختبار ما إذا كانت المواد مسرطِنة (قادرة على أن تسبب السرطان) أم لا. ويعتبر

اختبار ايمز

أحد أكثر هذه الاختبارات شهرة، حيث يعتمد الاختبار على قياس مدى قدرة المادة محلّ الاختبار على التسبب بالطفرات، وبالتالي احتمالية قدرتها على التسبب في مرض السرطان من عدمها. يقوم الاختبار الذي طوّره

بروس ايمز

باستخدام بعض سلالات بكتيريا السالمونيلا غير القادرة على إنتاج

الهيستيدين

(وهو أحد الأحماض الأمينية التي تحتاجها تلك البكتيريا للتكاثر والبقاء)، حيث يتم إنماء بعض البكتيريا في بيئة تحتوي كمية محدودة من ذلك الحمض الأميني ويضاف إليها المادة التي نريد اختبارها، ومن ثمّ فإنه إن لم تكن تلك المادة محلّ الاختبار قادرة على التسبب بطفرة تجعل البكتيريا قادرة على إنتاج الهيستيدين، فإنه –وبعد مرور بعض الوقت- سوف تموت كافة الخلايا البكتيرية بسبب انتهاء مخزون الهيستيدين في بيئة الاختبار. وبذلك فإنه في حالة بقاء البكتيريا على قيد الحياة، يمكننا استنتاج أن المادة موضع الاختبار قد تسببت في حدوث طفرة في البكتيريا جعلتها قادرة على إنتاج الهيستيدين ومن ثم البقاء على قيد الحياة. وبهذا يمكننا القول إن تلك المادة مُطَفّرة (mutagenic)، ومن ثمّ مسرطنة (carcinogenic).

في عام 1911م قام

بيتن راوس

باستخراج سائل من ورم غير منتظم ينمو بأنسجة دجاجة وقام بحقنه في دجاجة أخرى من نفس النوع، أدى ذلك إلى إصابة الدجاجة الثانية بنفس الورم مما يعني أن ذلك السائل قادر على نقل السرطان من كائن لآخر، وبتحليل السائل وجد به أحد

الفيروسات القهقرية

التي تم اعتبارها قادرة على نقل الفيروس. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، حيث أن التحليل الوبائي للمرض لا يتفق مع كونه مرضًا ينتقل عن طريق العدوى، حيث أن المرض لا يصيب مجموعات سكانية محددة كالأمراض المعدية الأخرى، بل يظهر كحالات منفصلة في أماكن مختلفة، وحتى الفيروس الذي اكتشفه راوس، فقد باءت كل محاولات نقل الفيروس لكائنات أخرى بالفشل، وكذلك لم يجد العلماء أي أثر للفيروسات القهقرية في الأورام البشرية. لذلك لا يمكننا القول صراحة بأن الفيروسات تقوم بنقل المرض؛ لكن من الممكن القول إن بعض الفيروسات تزيد من احتمالية الإصابة بالمرض (5).

نموذج واطسون وكريك لتركيب الحمض النووي

ساعد اكتشاف التركيب الدقيق للحمض النووي على أيدي

واتسون

و

كريك

عام 1953م على تزويد العلماء بالمزيد من الأدوات لفهم السرطان. وحين توصلنا لطريقة لمعرفة كيفية ترجمة تلك المعلومات المسجلة في الحمض النووي، أصبح بإمكان العلماء فهم كيفية عمل الجينات وكيفية تعرضها للتغير من جراء الطفرات. كان من المستقرّ فعليًّا أن بعض المواد الكيميائية والإشعاع وبعض الفيروسات قادرة على أن تسبب السرطان، كما أنه كان من الملاحظ أن السرطان يصيب أبناء نفس العائلات في بعض الأحيان. لكنه ومع نمو فهمنا للحمض النووي والجينات، أدركنا أن الخلل الذي يصيب الحمض النووي بسبب تلك المؤثرات هو السبب الحقيقي للسرطان، ومن ثم أصبح من الممكن تحديد الخلل المحدد الذي يسبب نوعًا معينًا من أنواع السرطان، مما يعتبر تقدمًا كبيرًا في فهم آلية حدوث المرض (5).

الجينات المسرطنة والجينات الكابحة للأورام

نموذج واطسون وكريك لتركيب الحمض النووي

نموذج واطسون وكريك لتركيب الحمض النووي

اكتشف العلماء خلال السبعينات من القرن العشرين مجموعتين مهمتين جدًّا من الجينات المتعلقة بمرض السرطان، وهما:

الجينات المسرطنة

(oncogenes)، و

الجينات الكابحة للأورام

(tumor suppressor genes).


الجينات المسرطنة:

تتسبب هذه الجينات في النمو المستمر للخلايا خارج نطاق السيطرة. تنتج تلك الخلايا من تعرض بعض الجينات الطبيعية التي تسمى الجينات

قبل-المسرطنة

(proto-oncogene)، هذه الجينات هي التي تتحكم -في الطبيعي- في معدل انقسام الخلايا ودرجة تمايزها.


الجينات الكابحة للأورام:

وتقوم هذه الجينات في الطبيعي بإبطاء انقسام الخلايا وإصلاح الأخطاء في الحمض النووي والتحكم في الموت المبرمج للخلايا (بعد وصولها لعمرها الافتراضي). حين لا تعمل تلك الجينات بشكل صحيح، يمكن للخلايا أن تنمو بشكل غير محكوم مسببة الأورام السرطانية.

للتبسيط، دعونا نتخيل الخلية كسيارة، لكي تسير السيارة بطريقة سليمة لابد من وجود آلية للتحكم في سرعة سيرها سواء بالإسراع أو الإبطاء. في هذه الحالة يمكننا أن نعتبر أن الجينات قبل المسرطنة تقوم بدور دواسة الوقود، حيث تساعد على نمو الخلايا وانقسامها تبعًا لمعدل منضبط. الجينات المسرطنة في المقابل تعمل كما لو أن دواسة الوقود مضغوطة دائمًا، مما يدفع الخلايا للنمو والانقسام المستمر دون توقف، هنا يأتي دور الجينات الكابحة للأورام التي تقوم بدور المكابح، حيث تقوم بإبطاء عملية النمو والانقسام، وفي حالة تعرضها للتلف، يصبح من غير الممكن وقف ذلك النمو المستمر للخلايا، فتستمر الخلايا في الانقسام بشكل غير منضبط ودون تحكم.

بمرور الوقت يكتشف العلماء الجينات المسرطنة والجينات الكابحة للأورام التي يمكن أن تؤثر على إمكانية الإصابة بأنواع معينة من السرطان. فعلى سبيل المثال، كان اكتشاف الجينيْن BRCA1 و BRCA2 ودورهما في التسبب بالإصابة بسرطان الثدي خطوة مهمة في مواجهة ذلك المرض، حيث أصبحنا قادرين على تحديد الأشخاص المعرضين للإصابة بالمرض بشكل أكبر من غيرهم عن طريق فحص الحمض النووي لهم.

منذ أن أدرك العلماء أهمية التغيرات الجينية المحددة في آليات مرض السرطان، بدأ الاهتمام المتزايد بتطوير العلاجات الموجهة (الأدوية التي تؤثر على جزيئات كيميائية محددة) للتغلب على آثار تلك التغييرات في الجينات المسرطنة أو تلك الكابحة للأورام، فيما يعتبر تطورًا مهمًّا في تاريخ تطور علاجات السرطان.


المراجع




  1. Artificial transmutation of the gene

  2. A brief history of scrotal cancer

  3. Experimental study of the pathogenesis of carcinoma

  4. The isolation of cancer-producing hydrocarbon from coal tar

  5. The History of Cancer