في رواية «كتيبة سوداء» التي صدرت عام 2015، يحكي الروائي «محمد المنسي قنديل» عن كتيبة مصرية شاركت في حرب المكسيك. حكى قنديل عن المظالم التي تعرضت لها الكتيبة عبر المشاركة في حرب لا علاقة لها بها، ولم تحصل منها مصر على أي شيء مادي أو سياسي. ونقل عن تعامل «سعيد باشا»، والي مصر آنذاك، كيف تعامل مع تلك الكتيبة باعتبارهم يعملون له بالسُخرة.

على الجانب الآخر من الزاوية التي يحكيها المنسي قنديل، توجد الرواية التاريخية التي يرويها الأمير «عمر طوسون»، حفيد سعيد باشا. كما توجد زاوية أخرى يرويها  المؤرخ عبدالله حسين في كتابه «

السودان من




التاري

خ القديم إلى رحلة البعثة المصرية». ومع اختلاف الروايات الناتج من اختلاف الزوايا التي يتناول منها الكاتب والمؤرخ الحدث، يبقى الأهم هو معرفة ما حدث فعلًا.

عام 1857 كانت المكسيك تعاني من حرب أهلية بين المحافظين والليبراليين. ازدادت حدتها حين فاز الليبراليون بالانتخابات، وبدؤوا في تنفيذ برنامجهم الذي لم يعجب المحافظين بطبيعة الحال،

فبدأت حرب شاملة

بين الفريقين، واتخذ المحافظون من مكسيكو سيتي مقرًا، أما الليبراليون فتحصنوا في فيراكوز.

بعد 4 أعوام من القتال، واستنزاف أموال وأرواح الشعب، انتهت الحرب لصالح الليبراليين. لكن الحرب خلفّت للحكومة الجديدة وللشعب مشكلة عميقة تتعلق بالديون. ففي سنوات الحرب، التجأ الطرفان إلى القوى الأوروبية لاقتراض ما يعينهم على قتال بعضهم. كان على رأس الدائنين بريطانيا وفرنسا وإسبانيا.

على خطى نابليون العم


حين بدا لتلك القوى أن المكسيك متعثرة، وربما لن تقدر على رد ديونها والفوائد المترتبة عليها،

وقعوا اتفاقًا ثلاثيًا

يقضي بالتدخل في المكسيك. اللليبراليون أعلنوا أنهم قد يؤدون ديونهم التي اقترضوها هم فقط، لكن القوى الأوروبية طالبتهم بسداد ديون المحافظين كذلك، فرض بينيتو خواريز، زعيم الليبراليين، ذلك.

كان اتفاق الدول الثلاثة يقضي

ببساطة احتلال المكسيك

ريثما تسترد الدول أموالها، ثم ترحل. إسبانيا وبريطانيا كانتا على وفاق بهذا الصدد، لكن فرنسا كانت تطمع فيما هو أكبر. نابليون الثالث، تشارلز لويس نابليون، ابن أخ نابليون الشهير، ورث من عمه الطموح الاستعماري التوسعي، فكان يريد الاستيلاء على المكسيك وضمها إلى الإمبراطورية الفرنسية، ثم تعيين ملك صوري عليها من أبناء المكسيك، لكنه يدين بالولاء لنابليون الثالث.

استدعى نابليون أرشيدوق النمسا، فرديناند ماكسميليان، وأخبره أنه اختاره ليكون ملكًا على المكسيك. وأغراه أن الشعب المكسيكي نفسه هو من اختاره لهذه المهمة، وساعده في ذلك عصبة من المحافظين الذين تعاونوا مع نابليون للإطاحة بالليبراليين من الحكم.

بجانب الخطة السياسية السرية لنابليون الثالث، كانت

القوات العسكرية للدول الثلاث

تستمر في حصد الأراضي والفوز بمناطق النفوذ. فقد كان فارق العتاد والعدد لصالحهم في كل معركة دخلوها. لكن في فبراير/ شباط عام 1862 وصلت أفواج فرنسية جديدة لبعض المدن المكسيكية، ثم لحقهم جيش فرنسي جديد بقيادة تشارلز دي لورنزي. في تلك اللحظة أدرك الجميع نوايا نابليون الثالث، فانسحبت بريطانيا وإسبانيا، ولم يبق سوى جنود فرنسا فقط.

المصريون محصنّون ضد الأوبئة


وجد نابليون نفسه وحيدًا

فلجأ إلى محمد سعيد باشا

، والي مصر، يطلب مساعدته. أرسل له سعيد باشا ما يقارب
500 جندي مصري وسوداني للمحاربة بجانب فرنسا. والسر يرجع إلى العلاقات الطيبة التي
جمعت الاثنين. كشف ذلك الأمر الأمير عمر طوسون عام 1933 في كتابه

بطولة الأورطة المصرية السودانية في حرب
المكسيك

. ووثّق الأمير بالوثائق الرسمية أمر تلك
الأورطة وكل ما تعلق بها.

ويرجع لقب الأورطة إلى تسمية قديمة للوحدة العسكرية المعروفة اليوم بالكتيبة. أصلها في التركية العثمانية «اُورته». أورطة المشاة قوامها 800 جندي غالبًا ويرأسها بكباشي، مقدم. أما كتيبة الفرسان قوامها من 96 إلى 128 فارسًا، ويرأسها يوزباشي، نقيب.

حرص الفرنسيون على

الاستعانة بجنود مصر والسودان

بسبب الأوبئة التي عصفت بهم. 565 الحمى الصفراء والزحار، وغيرهما. وكان لدى الفرنسيين قناعة بأن الرجال السود لديهم مناعة طبيعية من تلك الأمراض، كما يقدرون على تحمل مناخ المكسيك الحار. كذلك كان للجنود المصريين سمعة حسنة بعد أن تولى محمد علي الحكم وبدأ في بناء جيشه القوي، وإرسال جنود مصر والسودان لمعارك في مناطق مختلفة من العالم.

في بداية وصول البعثة لأرض المكسيك كانت تعاني من نقص عدد الضباط، 3 ضباط فقط. وازداد الأمر سوءًا بمقتل البكباشي جبر الله محمد، قائد الأورطة، في المعركة. فتمت ترقية محمد ألماظ من يوزباشي إلى بكباشي كي يصبح قائدًا للكتيبة.

كما

وقفت اللغة عائقًا للتواصل

بين الطرفين، وكان من المستحيل على الكتيبة المصرية
النزول لأرض المعركة دون إتقان الفرنسية، أو حتى معرفة المصطلحات الحربية التي
يمكن أن تُستخدم في ميدان المعركة. في تلك اللحظة تجلى دور الجنود الجزائريين
الموجودين في الجيش الفرنسي، وباتوا حلقة الوصل بين الطرفين، واستغرق الأمر منهم 4
أشهر حتى تتقن الكتيبة المصرية اللغة الفرنسية.

كتيبة النيل تبهر الجميع


في بادئ الأمر أوكل الفرنسيون للأورطة بعض المهام
الثانوية، مثل حماية المواصلات، أو الحرص على سلامة خطوط الاتصال بين الكتائب
الفرنسية. لكن بمرور المواقف المختلفة والصعبة، أثبت الجنود المصريون اكتراثهم
بالمعركة، وفي استعدادهم الغريب للموت من أجل فوز الجانب الفرنسي. فذاع صيتهم بين
الكتائب الأخرى، خاصة حين كانت الكتيبة المصرية وحدها من تصدت للدفاع عن فيراكوز،
مستقر القوات الفرنسية، وشريان الحياة للقوات الفرنسية.

تلك الشجاعة المصرية جعلت القيادة الفرنسية تولي اهتمامًا خاصًا بالأورطة المصرية السودانية، أو

كتيبة النيل كما لقبّها

الفرنسيون. اهتمت القيادة بإمداداتهم من الطعام الجيد. وعوضتهم عن إمدادات الخمر بالقهوة العربية. وخصّتهم بالمواشي الحيّة كي يذبحوها هم على الطريقة الإسلامية، كما منحتهم ضعف المرتبات التي يتقاضاها الفرنسيون.

هؤلاء الجنود المصريون والسودانيون الذين لا تسمح نفوسهم بالهزيمة يستحقون كل ثناء، وإني لم أر في حياتي مطلقاً قتالاً نشب في سكونٍ عميق وحماسةٍ نادرة مثل ذلك الذي خاضه هؤلاء الجنود؛ فقد كانت أعينهم وحدها هي التي تتكلم، وكانت جرأتهم تذهل العقول وتحير الألباب، حتى لكأنهم ما كانوا جنودًا، بل أسودًا.





القائد العام الفرنسي للقوات المشاركة في المكسيك.

شاركت الكتيبة المصرية فيما يقارب 48 معركة رئيسية في فترة وجودها في المكسيك. كما كانت الأورطة المصرية هي الكتيبة المختارة لتوفر الغطاء الناري للقوات الفرنسية المنسحبة عام 1867. وكانوا هم من أواخر الكتائب التي رحلت عن المكسيك. وفي خلال 4 سنوات من القتال المستمر حصلت الكتيبة على 11 وسام الشرف الفرنسي وهو أعلى وسام فرنسي، و56 ميدالية عسكرية.

وبعد أن انتهت المعركة رسميًا دعاهم نابليون الثالث
لقضاء قرابة 10 أيام في ضيافته في باريس. وقدموا أمامه عرضًا عسكريًا، ومُنحوا
بعده وسام حرب المكسيك. ذهبت الكتيبة للقتال وعددها 453 فردًا، عاد منهم 313 فقط.

خسارة فرنسا وفوز الأورطة


وصل القائد الفرنسي إلى مدينة بوبيلا، وقاد زار اجوزا قوات المكسيك للدفاع ضد الهجوم الفرنسي. 6 آلاف فرنسي في مواجهة ألفيّ مكسيكي. بدأت المعركة في 5 مايو/ آيار 1862. قام الفرنسيون بالتمركز على تلتيّن مرتفعتين على جانبي المدينة وأغرقاها بالمدفعية، لكن ظل المكسيكيون صامدين. وبعد فترة هاجموا جناحي الجيش الفرنسي في توقيت واحد، فارتبك الفرنسيون،

وانتصرت المكسيك

.

تحتفل المكسيك بذكرى هذا الانتصار كل عام في احتفالية الخامس من مايو، أو سينكو دي مايو. بالطبع لم تنته الحرب، فعاد الفرنسين بقائد جديد و26 ألف جندي آخرين، واستعدوا جيدًا للحصار والقتال، ونجحوا بعد شهرين في إسقاط مدينة بوبيلا.

استمر الفرنسيون في التوسع والتمدد في المكسيك، وبدأت
قبضتهم في الشعور بالثقة وأن المكسيك باتت لهم. لكن عندما اقتربوا من شمال البلاد،

تغيّر المناخ وهاجمتهم أمراض

مختلفة، فضعفت الجبهة الفرنسية، واستغلت المكسيك الفرصة
لتعود للقتال مرة أخرى. ساعد الجنود في هذه المرة الدعم الأمريكي الكبير.

ففي المعارك
الأولى كانت الولايات المتحدة مشغولة بحربها الأهلية الخاصة، لكن مع الهجوم الفرنسي
الجديد كانت الحرب قد انتهت. وانتبهت الولايات المتحدة لضرورة منع وجود أي قوة
إمبريالية على حدودها، فحدث الانسحاب الفرنسي السابق ذكره بغطاء من الأورطة
المصرية.