في مطلع القرن العشرين، مع ظهور السينما، الاكتشاف التقني الجديد، لم تبقَ السينما محصورة في إطار الترفيه فترة طويلة، ومع ظهور بوادر الحرب العالمية الأولى، وقعت السينما تحت إطار الأيديولوجية. أصبح للسوفييت سينما، والولايات المتحدة الأمريكية سينما، وأوروبا سينما.. إلخ

ولأن قراءة الحاضرة، تكون عادة من إعادة إنتاج الماضي، نشأت سينما السيرة الذاتية في عشرينيات القرن العشرين، أولى مراحل العمل السينمائي الجاد. بدأت سينما السيرة الذاتية من الرغبة في استعادة رموز دينية وسياسية لها حضور مركزي في التاريخ العالمي، مثل المسيح وهنري الثامن ونابوليون والملكة كليوباترا وإبراهام لينكولن.

تعرف سينما

السيرة الذاتية

بأنها نوع سينمائي، يقوم بعرض تاريخي –المفترض أن يكون واقعيًا- لحياة شخص أو مجموعة من الأشخاص، ويمكن للحكاية أن تكون خالصة الواقعية، أو مطعمة بالخيال، إلا أنّ الاستناد، ولو بشكل أوليّ، على مادة تاريخية من حياة الشخصية المعنيّة، جزء أساسي من عمل فيلم السيرة الذاتية.

منذ صعود سينما السيرة الذاتية في ثلاثينيات القرن العشرين في هوليوود، أصبح النوع الجديد لصيق كل سينما ناشئة لاحقًا في مناطق أقل تقدمًا وتقنية، لذلك عند نشأة السينما المصرية، وتطورها الواقعي من خلال الآباء الأوائل صلاح أبو سيف وهنري بركات، ظهر يوسف شاهين كنتيجة للسعي نحو السيرة، من خلال مرجعيته الذاتية في ثلاثية الإسكندرية وتطعيم الخيال بالواقع، أو من خلال الحدث التاريخي المستند إليه كليًا في أفلام مثل الناصر صلاح الدين.

لماذا تجذبنا أفلام السيرة؟


حول سبب محبة الجمهور لسينما السيرة الذاتية، يشير الكاتب علاء المفرجي في كتاب

أفلام السيرة الذاتية

أن مثل هذه السينما تتيح للمتفرج (الوقوف على أكتاف العمالقة)، أو بتعبير أكثر تفصيل:

تكون لديك حياة، أفكار، جوهر شخصية، كلها في مكان واحد. وحياة فرد تكشف عن الحقائق الكونية وعن الحالة الإنسانية. فالسيرة تنقص من أسطورة الشخصية، فتجعلك تراها على مستوى إنساني أكثر، في ضعفها وأخطائها.

ثمّة متعة جميلة في نزع الأسطرة والتنجيم المسبق عن النماذج البشرية، وفيلم السيرة الذاتية إن لم يكن دعائيًا وفجًّا، فإنه يجعل الشخصية التاريخية وحكاياتها مادة لمساءلة تاريخها، ووضعها في مساحة التأمل دون حفاوة مسبقة. يخلق نوع سينما السيرة الذاتية للمشاهد فرصة للمساهمة في خلق التاريخ من جديد، ليس بنفس الدلالة الثورية لعملية «الخلق» ولكن من باب إحاطة الحدث بحيثيات وانطباعات أكثر، خاصة وأن السينما، في إحدى تعريفاتها اللا نهائية، أداة تساؤل من خلال الحكي.

من ناحية أخرى، تمثّل أفلام السيرة طبقًا من ذهب لأي ممثل، لخلق رصيد نجومية أكثر وحضور في ذاكرة المشاهدة الجماعية. السينما هي فعل إيهام بالأساس، لذلك يمكن خلق عملية قياس بدائية لمدى حلاوة المنتج السينمائي، طالما أنت، كمشاهد، منغمس في الحكاية المرئية، وساهٍ عن كونك أمام فيلم لن يتجاوز ساعتين غالبًا، استمرارية الانغماس دليل على نجاح الفيلم.

وجود حكاية معنية بشخصية تاريخية، لها حضور مسبق في ذاكرة مجتمع ما، أو شخصية عالمية لها انتشار تاريخي واسع، تعززّ من قدرة المادة السينمائية على فرض وجودها بمزيد من السهولة والتأثير، لأننا كمشاهدين، نعرف شيئًا من هذه الحكاية مسبقًا، وهناك تحفّز بالتأكيد لرؤية تصوّر السينما لشخص ما، ربما تكون قيمته التاريخية أضفت عليه هالة من القداسة.


نتذكر دور الممثل أدريان برودي في فيلم The Pianist المقتبس من قصة حقيقية عن معاناة يهودي في الحرب العالمية الثانية. رغم أن أدريان لديه أفلام أخرى –Detachment مثلًا- بها حضور خلّاق أكثر في الأداء، يظل برودي معروفًا بدور الرجل اليهودي السائر بين الحطام.

في فيلم The Theory of Everything، قام الممثل إيدي ريدماين بتمثيل شخصية عالم الفيزياء النظرية ستيفن هوكينج المصاب بمرض أقعده على كرسي تقني متحرك ينوب عنه في كل النشاطات. رغم وجود أدوار أخرى لريدمان، أدّاها بحرفية وحضور حيوي وقدرة على التشخيص، أضاف تمثيله شخصية ستيفن هوكينج إضافة لتعريفه الشخصي، لم يعد ممثلاً فقط، أصبح الممثل الممتاز الذي مثّل سيرة العالم ستيفن هوكينج.

متجاوزًا كل ما سبقوه، من حيث الجودة، حصل السير دانيال داي لويس على ثلاث جوائز أوسكار فئة أفضل ممثل رئيسي، من بينها جائزتين عن فيلمي Lincoln و My Left Foot.


إذن، من ناحية الممثل، تضفي المعرفة المسبقة بالشخصية التاريخية، وحضورها، قيمة أوليّة تساعد الممثل على خلق انطباع مميّز من حيث الأداء، وتعطيه فرصة الالتصاق الوهمي بقيمة الشخصية المقدّمة في الفيلم. ومن ناحية القيمة التسويقية للفكرة الدرامية، ثمّة متعة جميلة، مثلما قلنا، في الوقوف على أكتاف عملاق التاريخ وحيّز الماضي، واستعادة «الحدث» المتمثل في مجموعة، أو شخص واحد، بصورة قادرة على تكسير الأسطورة.

يبقى الطرف الثالث في معادلة المنتج الفيلمي، وهو التوجه الأيديولوجي الذي يدفع فكرة العمل الفيلم من الأساس، كيف تتأرجح سينما السيرة بين التشيّؤ والأنسنة؟

تزويق فجّ

ينقل كتاب (أفلام السيرة الذاتية) عن الناقد الفني كريستيان ميتز، أن التاريخ في السينما هو:

خطاب مقنّع، يطمس إشارات إيضاحه ويتنكر في شكل قصة، وفي السينما، يدعو هذا إلى استجابة تلصصية.

في مساحة التلصص هذه، يتجه التاريخ في إعادة كتابته إلى حيّز السلطة الأكثر تحكّمًا، تحت القاعدة الأثيرة أن التاريخ يكتبه المنتصر. بمعطيات العالم المعاصر، لم تعد كتابة التاريخ مستحقة للمنتصر الأول، بل أصبحت مستحقة للمتحكم الحالي، الذي يستطيع أن يعيد كتابة التاريخ من جديد، ولو بسردية تمثل الضد.

حول التداخل الأيديولوجي في توجه الفيلم، نوع السيرة الذاتية خاصة، يستعيد المنظّر السينمائي أندريه بازان مصطلح (التشيّؤ- Reification) من ماركس. التشيّؤ باختصار سريع، تحوّل الإنسان، أو النشاط الإنساني، إلى شيء مجرّد، أي من الأشياء، مع تحوّل مفهوم «القيمة» كاملًا إلى القدرة على ما يمكن إنتاجه من سلع في دائرة الإنتاج والاستهلاك.

بازان، عند إحالته مفهوم التشيَؤ في سينما السيرة الذاتية، كان يعني نزع الجدل التاريخي وكيف يمكن أن ينعكس على الحاضر بقراءة الأخير. السينما، كفنّ مشبّع بالأيديولوجيا، يمكن تطويعه لتشييء الحدث، ونزع الجدل الإنساني فيه تجاه الحدث الواحد، الذي يكون عادة دعائيًا ومحرّفًا.

خلال عقد الثمانينيات، تولت مارغريت تاتشر رئيسة وزراء المملكة المتحدة. امتلأت مرحلة حكم تاتشر بتتابع لأحداث عالمية فارقة، توابع الحرب العالمية الثانية في ذروتها بين الأقطاب المتحكّمة، كذلك ذروة الحرب الباردة واقتراب سقوط الاتحاد السوفييتي، كان لتاتشر حضور أساسي في كل هذه الأحداث، وعلى المستوى المحلي، عززت المرأة الحديدية اقصاد المملكة الرأسمالي الحر، تضرر قطاع كبير من العمالة في المناجم –بريطانيا كانت لا تزال معتمدة على طاقة الفحم آنذاك- تصاعدت نسب البطالة بشكل كبير، وبالتالي تدهور الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة كان نتيجة منطقية. لم يكن حكم تاتشر كليّ الكارثة، لكنها كانت زعيمة محافظة، تعمل بطريقة دينامية تقوم على تجاهل تبعات القرار الدولي على النتاجات المحليّة.


في 2011، صدر فيلم The Iron Lady، المفترض أنه يتناول حياة مارغريت تاتشر، مع اعتبار الإحاطة الشاملة بكل جوانبها، وما يرتبط بين خاص الشخصية، وعمومية الحدث السياسي الذي ترتبط به. يتجاهل الفيلم كل هذه العوامل، يستعيد تاتشر بصورة «مؤنسنة» بشكل وهمي، لكنها على مستوى التفصيل، مشيّئة من حيث نزع مسيرتها الأساسية، ومحوّلة إلى أداة ترويج استثمارية لخلق فيلم مؤثر مضمون نجاحه التجاري.

يمكن تقسيم الفيلم إلى جزئين، أولهما يعبّر عنه المشاهد المدخلية، حينما تبتاع تاتشر نصف لتر حليب، تتعرض لمضايقة صبي صغير، وتصبح امرأة كبيرة تعاني من الخرف، النصف الآخر من الفيلم يستعيد زمن التحاقها الدراسي بجامعة أكسفورد، وحتى الأيام السبعة عشر قبل حرب الفوكلاند التي احتدمت ضد الأرجنتين.

للوهلة الأولى، تنظر إلى الجانب الشخصي في الفيلم، وترى حالة الحياد بين رئيسة وزراء حازمة، وبين امرأة مدخل سيرتها متواضع وحميمي، لكن وراء ذلك ثمّة تاريخ مغاير، أساسي ومؤثر، منوط بالوضع العالمي المعاصر، تم تجاهله بحكم الجدل الحاصل فيه، وربما بحكم التبعات الكارثية لميكانيزم عمل الحزب المحافظ. التشيّؤ هنا، بصورة أكثر مرونة، يتمثّل في تغطية محتوى بآخر، مع الحفاظ على وصول الصورة السطحية، كغطاء، لنزع تعدد القراءة عن الحدث، ولحصر المنتج الدرامي في ضرورة التعاطف.

تسطيح وتزويق وتزييف الحدث التاريخي، لم يقف عند الشخصيات السياسية التي صاحبها جدل. بل تداعى إلى إعادة إنتاج سرديات الحروب المعاصرة بشكل مثير للسخرية، حرب العراق مثًلا، منذ 2007 وحتى الآن، مادة تلجأ لها السينما الأمريكية كلما تورطت في الفقر الإنتاجي، أفلام مثل The Hurt Lucker و American Sniper، مقتبسة من مذكرات جنود وتحقيقات صحافية من حرب العراق، تختزل حيثيات الحرب في شعارات مثل مدى شعور الجندي الأمريكي بالحزن وهو يقتل أشخاصًا في بلادهم، على أراضيهم، وكيف يشكّل له ذلك أزمة إنسانية.

السيرة في السينما العربية


رغم فقر النوع في السينما العربية، هناك محاولات مبكرة في سينما السيرة الذاتية، بدأت بتجارب توثيقية أكثر، فيلم قاهر الظلام عن أيام طه حسين، وفيلم سلطانة الطرب عن منيرة المهديّة، وبالتوازي استلمت الدراما العربية المرئية والإذاعية دفّة السير الذاتية، والتي عادة ما تم عرضها في إطار توعوي.

على المستوى الفنّي، لم تكن السينما مادة دعائية للحكومات، بقدر ما انتمت للصوت المعارض من ناحية، ولهم التعبير الذاتي بين الخاص والعام من ناحية أخرى، استلمت السينما العربية نوع السير الذاتية من شكلها العالمي، وأضفت عليه طابعًا محليًا، تأثّرًا بالوضع السياسي والاجتماعي منذ الستينيات وحتى الآن. من يوسف شاهين وحتى إيليا سليمان، وبينهما تجارب جميلة وكونية لمخرجين مثل محمد الملص وريمون بطرس في سوريا، ونوري بوزيد وفريد بوغدير في تونس.

رغم اختلاف السياق الزمني بين أعمال المخرجين السابق ذكرهم، اشترك جميعهم في خلق حالة تضفير بين الخاص والعام لخلق سيرة ذاتية متداخلة، مثل تداخل نشأة شاهين وحبه للمسرح والسينما وسفره للدراسة بالخارج، مع سيرة مكانية مفعمة بإظهار العوامل الاجتماعية والسياسية للإسكندرية خلال الحرب العالمية الثانية. اهتم مخرجو السيرة الذاتية بالهروب من مباشرة النقد الاجتماعي، بعيدًا عن التعسّف الرقابي، وبعيدًا أيضًا عن فحولة النص السينمائي المباشر والوصائي.

لجأ جميع مخرجي ذلك النوع، على اختلاف الزمن واللغة السينمائية، إلى تضمين الخاص -سواء استدعاء زمن شخصي أو نضال سياسي- مع العام الذي يمثّل السياقات الاجتماعية والسياسية.

من بين كل أفلام السينما العربية، يحلّق إيليا سليمان بعيدًا بسينماه، بما تنطوي عليه من قدرة على المعاصرة. يعمل إيليا على خلق سيرة ذاتية ممتدة، منذ أول أفلامه الطويلة (سجل اختفاء) الذي أخرجه بمساعدة ممثلين هواة من أقاربه، وحتى آخر أفلامه إن شئت كما في السماء- It Must Be Heaven. عوامل الوحدة والتضمين في سينما سليمان ليست على مستوى وحدة الحكاية العامة فقط، والتي بدأت من التواجد في فلسطين المحتلة، وظلّت ممتدة مع الأفلام بالاستدعاء والنظر بأثر رجعي للحدث التاريخي وحتى لحظة سليمان الحاضرة وسفره وعودته للمنزل الأول مرة أخرى.

عمل سليمان على توحيد لغة السينما ذاتها، حتى أصبح نوع سينماه، نوعًا مختلقًا بداخل الجديد العام. سينما مطعّمة بالخيبة، والسخرية اللذيذة من هذه الخيبة، مشحونة بالصمت الطويل، لأن الكلام مدخل للوقوع في ورطة مع أجندة الخطاب السياسي المحلّق فوق رؤوس حرية التعبير، ومن خلال هذه الأدوات تجاوزت سينما سليمان هوّة الفارق بين المحلي العربي، والعالمي، المتمثل عادة في مركزية السينما الأوروبية، عاصمة سينما النخبة.

يظل نوع سينما السيرة الذاتية، واحدًا من أقدم أنواع السينما ظهورًا وتأسيسًا، وربما هو أحد الأنواع القليلة التي لا زالت محتفظة بشكلها، مع تداخل وتغيّر ومن ثم تلاشي معظم مفاهيم (النوع السينمائي) حاليًا، ربما حالة البقاء هذه تعود لضرورته في أدلجة الخطاب السينمائي، لكن على مستوى مقاوم، يظل ذلك النوع فرصة لكسر قدسية شخصيات التاريخ، وربما التاريخ ذاته، الذي لا يكف عن التبدّل والمراوغة.