أنهينا المقال

السابق

بمجموعة من الأسئلة التي تتشكك في مدى إمكان الاعتماد على الأخبار المنتشرة، وهذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عنها سوى بتقديم عدة مقدمات.

(1)

لنفهم أولًا فائدة الخبر..فالخبر هو وسيلة لنقل المعارف لا إثباتها، فغيرنا يرى شيئًا بعيدًا عنّا، فينقل لنا رؤيته التي عجزنا عنها، وقد يطول الزمان – أو يبعد – عن الحدث فنحتاج لسلسلة من النَقَلة يصلوننا في النهاية بمن شاهد، فسلسلة المستمعين لابد أن تنتهي إلى الحس، وهذا الحس ينبغي ألا يكون بدوره هو السماع إلا إن كان السماع من شخص معين هو المقصود من الخبر، كأن تريد معرفة مقولة سعد زغلول – مثلًا – في قضية ما، فيكون انتهاء سلسلة النقلة إلى المستمع الأخير من «سعد» نفسه.لكن أن ينتهي النقل إلى «رأي» أو «وجهة نظر» فهذا لا يعني صحة الرأي في نفسه، بل غاية الأمر أنه يدل على صحة «نسبة» هذا الرأي لقائله ليس أكثر، ويبقى النظر في خصوص صحة الكلام من عدمه يخضع لتقديرك ووجهة نظرك.

(2)

فلا بد من التفرقة بين «الخبر» الذي هو نقل لواقعة حسية، وبين «الرأي» الذي هو حكمنا وتصورنا عن الشيء.فعبارة مثل: «كان سعد زغلول وطنيًا يدافع عن مصالح الشعب» مثلها مثل قول القائل «كان سعد زغلول خائنًا يتعاون مع الإنجليز» فالعبارتان كلاهما عبارة عن «حُكم» لا قيمة له، إلا إن كنت تنوي تقليد القائل في حكمه ووجهة نظره لثقتك به وقبولك لمعاييره. فالوطنية والخيانة والدفاع والتعاون ومصالح الشعب؛ معانٍ نسبية تخضع لوجهات النظر والمبادئ الحاكمة، فقد ترى أن مجرد الجلوس على مائدة المفاوضات مع المحتل خيانة وقد يرى غيرك أنه سياسة يتوصل بها للدفاع عن «مصالح الشعب»، هذه المصالح التي ستخضع بدورها لوجهات النظر المختلفة هل هي مصلحة أم مفسدة!وإنما الخبر الحقيقي الذي ينبغي أن نقبله إن صحت شروطه: «كان سعد زغلول يفاوض الإنجليز على كذا» فهذا هو الخبر الذي نقبله إن صح نقله، ثم تختلف وجهات نظرنا بعد ذلك في الحكم على هذا الموقف وفق منظومتنا المعرفية ومعلوماتنا وقيمنا الحاكمة.

(3)

وإذا كان الخبر لابد أن ينتهي إلى الحس، فلابد أن يكون الحس الذي توقف عليه نقل الخبر سليمًا مستجمعًا لشروطه.فأنت لا تثق في رؤية شخص ضعيف البصر لأمر معين، ولا تعوّل كثيرًا على سماع شخص لكلمة معينة إن كان في سمعه ثقل.وكما أن سلامة الحاسة شرط، فملاءمة الوسط الذي تعمل فيه الحاسة شرط آخر، فرؤيتك لشخص على مسافة بعيدة في ظلمة الليل لا تعني أن رؤيتك صحيحة ينبغي الوثوق بها، ولهذا المعنى لم نقبل التشكيك الشهير في حاسة البصر من أنك ترى الحصاة في الإناء ثم لا تقدر على إمساكها، حيث إن الماء ليس بالوسط الملائم لحاسة البصر لتعمل بكفاءتها فيه بسبب ما يتعرض له الضوء من الانكسار.ومن هذا القبيل قضية الألوان، حيث يرجع التفاوت في رؤية بعضها إلى كونها تتعلق بالانفعال، وهو تأثر العين بالضوء والانعكاسات وغيرها من الأمور التي تكلم فيها الفلاسفة قديمًا والفيزيائيون حديثًا.

(4)

وإذا كانت سلامة الحواس وملائمة الوسط شروط صحة الإدراك، فثمة معنى آخر وراء هذين الشرطين وهو دقيق يحتاج إلى مزيد من الإيضاح: من منّا لم يلاحظ عمليات التجميل التي يجريها البعض فتتغير ملامحه بالكلية حتى لا تكاد تعرفه بعدها؟ دعك من هذا، بالتأكيد مررت بتجربة مفارقة صديق مدرسة ثم جمعكما لقاء بعد سنوات من التخرج والزواج، أحيانًا تتعرف عليه بصعوبة وربما لا يمكنك التعرف عليه أصلًا!المعنى الذي أريد إيصاله هنا حقيقة النفس والشخص أمر وراء بنيته المحسوسة المشاهدة، تتغير الملامح وتتبدل ولكن لا نستطيع إنكار أن هذا الشخص هو عين الشخص الأول وإن تغير «شكله»، ولكننا لا نستطيع أن نتعرف عليه عادة إلا عن طريق «شكله».الأمر على العكس في مثال التوأم، فالكثير من التوائم المتطابقة يحرص آباؤهم على إلباسهما نفس الملابس وتمشيط شعرهما على نفس الهيئة، حينها نقع دائمًا في الخلط الشديد بينهما رغم جزمنا باختلافهما، وسبب هذا الخلط هو اتحادهما في «الشكل».إذا فثمة فارق بين «الشكل» وبين «الشخص» نفسه وحقيقته، وإن كنّا عادة لا نفرق بين الأمرين، ونعرِف الناس بأشكالهم فقط لا بحقائقهم.وبعبارة الإمام الغزالي: «فإن المعنى الذي به الإنسان إنسانٌ: ظاهرٌ وباطنٌ؛ فإنه ظاهر إن استُدلَّ عليه بأفعاله المرتبة المحكمة، باطنٌ إن طُلِب من إدراك الحسّ، فإن الحسّ إنما يتعلق بظاهر بَشَرته، وليس الإنسانُ إنسانًا بالبشرة المرئية منه، بل لو تبدّلت تلك البشرة، بل سائرُ أجزائه فهو هو، والأجزاء متبدلة، ولعل أجزاء كل إنسان بعد كِبَره غير الأجزاء التي كانت فيه عند صغره؛ فإنها انحلّت بطول الزمان، وتبدلت بأمثالها بطريق الاغتذاء، وهويته لم تتبدل، فتلك الهوية باطنة عن الحواس…». انتهى – من «المقصد الأسنى» [ ص274]

(5)

ثمة شرط آخر لاحظه العقلاء في عملية النقل عمومًا وعند وجود الكثرة خصوصًا، وهو ملاحظة قانون العادة في الصدق والكذب.فمن الأمثلة اللطيفة التي نتندر بها عادة أن الآباء جميعًا يخبرون أبناءهم بأنهم كانوا الأوائل في دراستهم، وفي كثير من الأحوال لا نثق في هذه الرواية لأننا نعلم أنهم يخبروننا بذلك لنتشجع في دراستنا أو لكي لا تكون لنا حجة في عدم التفوق، أو بعبارة أعمّ، للتشجيع.فلما جرت عادة الآباء بمخادعة أبنائهم بمثل هذا الكلام لم يعد الأبناء يثقون بمثل هذه الرواية منهم. إن العادة تشهد في كثير من الأحوال على «احتمال» الكذب، يظهر هذا في أحوال التعصبات مثلًا، حيث يحمل التعصب الكثير من الناس على اختراع الأكاذيب لنصرة ما يتعصبون له.لذا فإن دخولك على مجموعة من الناس مجتمعة من قبل مجيئك يختلف عن دخول أشخاص عليك من جهات شتى لا يعرفون بعضهم البعض، إن إمكان التواطؤ والاتفاق المسبق في الصورة الأولى أكبر بكثير من الصورة الثانية، ولا مردّ لهذا الإمكان إلا العادة.

(6)

في المقال السابق حكينا قصة الحريق الذي نشب في المتجر فتناقل الناس الخبر قبل وصولنا للمشاهدة بأنفسنا، الأمر مختلف تمام الاختلاف عن خبر تذيعه نشرة الأخبار فيتناقله الناس، حيث إن هذا الخبر المنقول عن نشرة الأخبار -وإن انتشر بين الناس- إلا أنه يبقى في النهاية منقولًا عن شخص واحد هو مذيع هذه النشرة، وبأقصى تقدير عن فريق الإعداد في النشرة.لذا فالكثير من الأخبار التي نسمعها في نشرات الأخبار أحيانًا تكون كاذبة عن عمد أو عن خطأ، وذلك يرجع ببساطة إلى أن المذيعين هم مجموعة يسهل الاتفاق فيما بينهم على شيء، وفي أحسن الأحوال يعتمدون في مصادرهم على شخص واحد؛ المراسل مثلًا، أو مصدر مسئول.إذًا فليس كل انتشار يعول عليه، بل انتشار من نوع مخصوص يشترك فيه العدد الكثير في أصل الوقوف على الخبر بالمشاهدة ثم ينقلونه لجمع كثير وهكذا حتى يصل الأمر إليك، فإن مرّ الخبر في أحد مراحله بطائفة محصورة أو بآحاد من الأشخاص لم يكن في درجة اليقين التي نتحدث عنها.

(7)

هذه ست مقدمات مهدنا بها للجواب عن الأسئلة السابقة، وهي تتلخص في الآتي:1. الخبر لا بد أن ينتهي إلى الحس.2. ضرورة التفرقة بين الخبر والرأي «أو الحكم».3. للحس شروطه التي ينبغي توافرها لنعتمد عليه.4. الحواس تنتهي إلى الظاهر فقط، أما حقيقة الأشياء وماهيتها فهي أمر وراء هذا الحس.5. لابد من انتفاء إمكان التواطؤ على الكذب عادة.6. في الأخبار المنتشرة التي يتناقلها الكثير، لابد – ليكون الخبر يقينيًا – من أن يظل عدد النقلة كثيرًا حتى ينتهي إلى الواقعة المنقولة ولا يكون اعتمادهم على مصدر واحد في النهاية.فلنستصحب هذه المقدمات الست معنا -بأرقامها- للمقال القادم؛ لنجيب على أسئلة المقال السابق؛ فقد طال منّا الكلام.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.