لا شكّ في أنّ الكولونياليّة الغربيّة قد ارتكزت إلى الإنسانويّة في عملها الاستعماري. وهي في استنادها إلى الإنسانويّة كانت تعطي تبريرًا لذاتها أولًا حيال ما تقوم به، وثانيًا حيال من يقع عليهم استعمارها بشكلٍ مباشر. وإذا كانت الإنسانويّة الغربيّة هي تصوّر نشأ في الحقبة الأنواريّة، أي في سياقٍ محدّد، فإنّها انبنت هي الأخرى على تصوّر محدّد لـ «الإنسان» حاولت من خلاله وضع نظريّة حول مَن هو الإنسان وما هو الإنسانيّ، أي نظريّة معياريّة في كون الإنسان إنسانًا والإنسانيّ إنسانيًّا.

ويحذّرنا فوكو، الجينالوجييّ الكبير، من أن نقع في الخطأ القائل بأنّ الإنسانويّة هي نزعة أنواريّة بشكلٍ حصريّ. إذ حسب فوكو، فإنّ الأنوار بما هي مجموعة من الصيرورات التاريخيّة المعقّدة والتي وقعت في لحظة معينة للمجتمع الأوروبيّ تختلف تمامًا عن الإنسانويّة التي هي بالأحرى مواضيع لا تفتأ تظهر عبر الزّمن، هذه المواضيع التي ارتبطت بأحكام قيميّة. إضافة إلى أنّه لا توجد إنسانويّة واحدة، فهناك إنسانويّة مسيحيّة، وإنسانويّة تنقد الدين المسيحيّ، بل الماركسيّة كانت إنسانويّة حسب فوكو والوجوديّة كذلك، بل هناك من الستالينيين من كانوا يعدّون أنفسهم ذوي إنسانويّة… لذلك هناك «توتّر» بين الإنسانويّة والأنوار، كما ينبّهنا فوكو؛ إذ «الأنوار قلّما اعتبرت نفسها مذهبًا إنسانيًّا».



الصّيغ الخطابيّة للأنوار حول الإنسان هي في الحقيقة اختراع إنسان جديد، ومن ثمّ ينبغي القضاء على «أعداء التنوير»، بما هم أعداء الإنسان.

لكن، مع ذلك، كان مشروع الأنوار -والذي هو مشروع لا يمكن اختزاله بطبيعة الحال في نزعةٍ واحدة، وذلك كما قد بيّن أشعيا برلين في كتابه الطّريف «جذور الرّومانتيكيّة»- هو تجذير إنسانويّة كوزموبوليتاليّة يُستدخل فيها فئات النّاس جميعًا، تحت شعاراتٍ شتّى، بحيث تسري على الإنسان أينما كان. ليس المشكل في الإنسانويّة كمذهبٍ وأيديولوجيا، بقدر ما أنّ الإنسانويّة بحدّ ذاتها تفترضُ بداخلها مفهومًا معيّنًا للإنسان، وليست تتعامل مع «الإنسان» بما هو كذلك. ولذلك، فإنّ الصّيغ الخطابيّة للأنوار حول الإنسان هي في حقيقة الأمر اختراع إنسان جديد، له سمات «عقلانيّة»، ومن ثمّ ينبغي القضاء على «أعداء التنوير»، بما هم أعداء الإنسان وفقًا للتصوّر الأنواريّ.

فالإنسان ما هو إلّا تشكُّل خطابيّ داخل هذا الخطاب الإنسانويّ الأنواريّ حوله، ولذا كانت كلمات فوكو في كتابه «الكلمات والأشياء» حول أنّ الإنسان قد مات، أو أوشكَ على الموت في محلّها من حيث إنّ الإنسان الذي يعنيه فوكو هو إنسان الأنوار، الإنسان الذي ابتدعته الإنسانويّة. فقد أنتجت الإنسانويّة إنسانًا على مقايس محدّدة، وحدّدته على أنّه الإنسان، وأنّ ما يقوم به هو الإنسانيّ، ومن ثمّ فغيره وما يقوم به تباعًا ليس إنسانًا ولا إنسانيّ. ولا شكّ أنّ التصوّر الإنسانويّ للإنسان يعتمدُ على إرثٍ مسيحيّ عُلمِنَ وأُضفي عليه طابعًا كونيًّا ليكون الإنسان الحديث الذي يُروّج ويُقاس إليه بقيّة البشر خارج الفضاء المسيحيّ واليهوديّ.



لقد غدا مفهوم الإنسانيّة نفسه رديفًا علمانيًّا للمسيحيّة، وبالتالي فإنّ غير الإنسانيين هم غير المسيحيين ببساطةٍ.

إنّ مفهوم الإنسانيّة نفسه، فضلًا عن مفهوم الإنسان كما يُصاغ غربيًّا، يتضمّن إشكالاتٍ عدّة. وكما يشير طلال أسد بذكاء، لقد غدا مفهوم الإنسانيّة نفسه رديفًا علمانيًّا للمسيحيّة، وبالتالي فإنّ غير الإنسانيين هم غير المسيحيين ببساطةٍ. إذ إنّ كلّ المفاهيم التي تقوم عليها حقوق الإنسان نفسها هي مفاهيم مسيحيّة مُعلمَنة بطبيعة الحال، باعتبار أنّها فلسفة نشأت في سياقٍ مسيحيّ من جهةٍ، وعمّمت من جهةٍ ثانية علمانيّة تبدو إنسانيّة وهي مسيحيّة بروتستانتيّة في لبّها وجوهرها.

إنّ الافتراض الدّائم هو أنّ كون المرء إنسانيًّا سيمكّنه من أن يتعامل بطريقةٍ أكثر عقلانيّة وتقدميّة ممّا كان منتشرًا فيما مضى، وهو افتراض نابع من أن «احترام الإنسان» لا بدّ أن ينبع من قاعدةٍ إنسانيّة ويتمّ تعميمها على الإنسانيّة جمعاء كي تتصرّف على نحو سليم.

في حوار له قبل فترة،

أشار طلال أسد، المنظّر ما بعد الكولونياليّ المشهور، إلى أنّه ليس «مُتأكدًا من جدوى مفهوم الإنسانيّة أخلاقيًّا وسياسيًّا؛ لأنَّني غيرُ مُقتنعٍ بالحاجة لوجودِ نظريةٍ أو حتى مفهومٍ مُحدَّدٍ و واضحٍ للإنسانيّة ليكون المرء قادرًا على التَّصرف بإنسانيّة”. إذ يقتضي وجود نظريّة عمّا هو إنسانيّ، ومن ثمّ تعميمه على الإنسانيّة جمعاء، هو في واقع الأمر ممارسة لعنفٍ رمزيّ، وتصوّر تراتبيّ للإنسان الأكثر إنسانيّة والإنسان الأقل إنسانيّة.

وإن «حقوق الإنسان» التي اخُترعت أنواريًّا وعُمّمت كأجندةٍ إمبرياليّة تستندُ إلى فكرة الحق الطبيعيّ التي تفترضُ أن الإنسان وُلدَ بخصائص جوهريّة فيه، كالحريّة وغيرها، ومن ثمّ فإنّ له حقوقًا ينبغي أن تشمله أينما كان. تفترضُ فكرة «حقوق الإنسان» التي يروّجها الليبراليّون ودعاة الإنسانويّة والإصلاح الدينيّ عربيًّا لا تاريخيّتها وهي تعمّم نفسها، إذ ما هي إلّا مجرّد «حقّ طبيعيّ»، ومن ثمّ تغدو بمثابة بداهةٍ، في حين أنّها تاريخيّة، وصيغة خطابيّة حول الإنسان. فحقوق الإنسان ما هي إلّا تصوّر تاريخيّ حول الإنسان نشأ منذ القرن السابع والثامن عشر، وعُمّمت لاحقًا بوصفها أجندة حقوقيّة يُقاس عليها مقدار إنسانيّة بلدٍ ما من بلدٍ آخر.



حقوق الإنسان ما هي إلّا تصوّر تاريخيّ حول الإنسان نشأ منذ القرن السابع والثامن عشر.

يحاجج إدوارد سعيد، وهو المعادي للكولونياليّة والإنسانويّ أيضًا، بأنّه على الرّغم من أنّ الإنسانويّة لُطّخت بالكولونياليّة، فيمكن أن تقدّم نقدًا له من داخلها وتُبقي على إنسانويّتك. سعيد، النّاقد الكبير، يوضّح في كتابه الأخير «الإنسانويّة والنّقد الديمقراطيّ» أنّه: «يمكنك أن تكون ناقدًا للمذهب الأنسنيّ باسم الفكرة الأنسنيّة، كما كنتُ ولا أزال أعتقد أنّ الفكر الأنسنيّ، إذ يتعلّم من تجاوزاته المرتكبة خلال تجارب المركزيّة الأوروبيّة والإمبراطوريّة، قادر على صياغة نمط آخر من الأنسنيّة يكون كوزموبوليتانيًّا وعميق التجذّر في اللغة والأدب غير الأوروبييْن…». إنّ«صميم الإنسانويّة»، كما يقول سعيد، هو «الفكرة العلمانيّة القائلة إنّ العالَم التاريخيّ هو من صنع بشر من رجال ونساء، لا من صنع ربّانيّ، وأنّه يمكن اكتناهه [أي العالَم] عقليًّا…».

رغم إقرار سعيد بالتاريخ المظلم للإنسانويّة، إلّا أنّه لا يُساير فوكو وغيره من ناقدي الإنسانويّة الذين لا ينتهون إلى انتصار ما للإرادة الإنسانيّة الحرّة. لقد حاول إدوارد سعيد بتفكيكه الدائم للمركزيّة الغربيّة، سواء في شقّها الاستشراقيّ بصنع خيالات واستيهامات كولونياليّة عن «الشرق» الذي ليس هو سوى عمليّة خطابيّة يقوم بها جهاز الاستشراق في واقع الأمر، أو في شقّها الكولونياليّ الاستيطانيّ في كتاباته عن فلسطين، أن ينتصر لشيءٍ ما إنسانيّ يتجاوز كلّ هذا التاريخ؛ إذ يؤمن سعيد -وهو النّاقد العلمانيّ- بإرادة حرّة يمكن أن تنتصر للإنسان والإنسانيّ وراء كلّ هذه التجارب البربريّة للكولونياليّة الغربيّة. ولم يُبن عن هذا الأمر في آخر كتاب له، بل إنّه في كتاب «الاستشراق» يقول مميّزًا نفسه عن فوكو: «أؤمن، على عكس ميشيل فوكو الذي أدينُ بالكثير لما كتبَه، بالتأثير المُحدّد للكُتّاب الأفراد على كان سيصبح لولا ذلك كَمًّا جماعيًّا غُفلًا من النّصوص يُشكّل تكوينًا خطابيًّا ما مثل الاستشراق».

إنّ إنسانويّة سعيد، التي حاول سعيد نفسه أن «يخلّصها» من تورّطها الكولونياليّ ليسمو بها إلى أفق أدبيّ وفكريّ وإنسانيّ يسمح بالحريّة الإنسانيّة والنّقد العلمانيّ والديمقراطيّ، لم تتضّح فحسب في تفكيره بصدور كتابه الأخير «النّزعة الأنسنيّة والنّقد الديمقراطيّ» (٢٠٠٣)؛ فإعجاز أحمد، المفكّر الماركسيّ الهنديّ، والذي كتبَ كتابًا اسمه «في النّظريّة» (١٩٩٢) قدّم فيه «انتقادات حادّة» -بحسب عبارة إعجاز نفسه- لسعيد، قد اكتشفَ هذه النّزعة في تفكير سعيد حينما وضّح إعجاز «المفارقة» في استعمال سعيد للأدوات الفوكويّة دونما نتائجها التي توصل إليها، معلّلًا ذلك بنزعة سعيد الإنسانويّة الناتجة من الأدب والإنسانيّات التي يتمسّك بها سعيد. وليس إعجاز فحسب من أبان عن هذه النّزعة الإنسانويّة لدى سعيد، بل إنّ مراجعة لكتاب «الاستشراق» قد صدرت عام ١٩٨٠ -أي بعد صدور الكتاب بسنتين-، وهي «من أكثر المراجعات عمقًا» باعتراف سعيد نفسه، من قبل جايمس كليفورد، لاحظت وجود هذه «المفارقة» أيضًا، حيث يلاحظ «الانتكاسة إلى أنماط التأصيل ذاتها التي يهاجمها [كتاب الاستشراق]». ويعترف سعيد بأنّ كليفورد كان محقًّا بذلك، إذ إنّه لم يتخلّ يومًا عن نزعته الإنسانويّة.



تقوم الإنسانويّة على تقسيمات: الإنسانيّ وما دون الإنسانيّ، والمدنيّ والبربري؛ لذلك فهي نزعة عنفيّة.

قد تكون إنسانويّة سعيد بمثابة المرتكز لمفكّر علمانويّ مثله يمارس شتّى ضروب النّقد للإمبرياليّة والكولونياليّة وللخطاب الأوروبيّ والأمريكيّ حول العرب والمسلمين، بحيث إنّه يحاول أن يصنع موقفًا نقديًّا-بنائيًّا مركّبًا يتجاوز التفكيك المشرَع بلا مرتكز، مثلما تجلّى في اختلافه مع فوكو، أو أنّه يحاول أن يحارب البربريّة باسم الإنسانويّة، كما تجلّى في مقال أخير له معنون بـ «الإنسانويّة الحائط الأخير ضدّ البربريّة». ويتعجّب المرء من هذه الإنسانويّة لدى سعيد، مع العلم، بطبيعة الحال، بأنّ سعيد لم يكن متواطئًا يومًا مع خطاب كولونياليّ، أو استشراقيّ حيال ذاته -بل هو النّاقد الكبير لهذا الخطاب-. لكن يحقّ للمرء أن يتعجّب وقد رأى سعيد شتّى ضروب البربريّة التي مُورست باسم الإنسانويّة ذاتها. ما يعلّمنا إيّاه بول ريكور مثلًا، وفالتر بنيامين، وغيرهما، هو أنّ البربريّة ليست ما قبل تاريخ العصر الحديث، إنّها حديثة؛ ولم تحمنا الثقافة، كما يقول ريكور، من البربريّة، بل إنّ بمقدرونا أن نقول إنّ القرن العشرين هو الذي أثبتَ لنا -بشكلٍ دامغٍ- أنّ الثقافة لا يمكن أن تحمينا من البربريّة.

إنّ الأمر لا يتعلّق بتنقية «الحضارة» الغربيّة من إرثٍ كولونياليّ لتجلية وجه الإنسانويّة، بل على العكس من ذلك، وكما يوضّح ذلك بجلاء المفكّر الهنديّ الكبير روبرت يانغ في كتابه المهمّ «ميثولوجيّات بيضاء: كتابة التاريخ والغرب» (١٩٩٢)، في «بيان مدى عمق تورّط الثقافة الأوروبيّة بالكولونياليّة». «فقد لا يكون»، يضيف يانغ، «من الممكن تخيُّل الفكر الأوروبيّ منذ عصر النّهضة دون أثر الكولونياليّة؛ مثلما أنّه قد لا يكون من الممكن تخيُّل تاريخ العالَم منذ عصر النّهضة دون تأثيرات الأوْربَة».

ولذلك، قد يكون من الصّعب تخيّل إنسانويّة مجرّدة «توصلنا إلى صخرة الطبيعة الإنسانيّة الكونيّة»، كما يقول رولان بارث؛ إذ تقوم الإنسانويّة على تقسيم الإنسانيّ وما دون الإنسانيّ، والمدنيّ والبربريّ، والتقسيمات التي على شاكلتها. وهي، بالوقت ذاته، نزعة عنفيّة بطبيعتها نظرًا لهذه التقسيمات التي لا يمكن تجريدها منها وجعلها روحًا عامّة، أو مبدأً كونيًّا، أو موقفًا – كموقف سعيد. وفي إشارة ذكيّة، أشارَ جوزيف مسعد بمقاله «الاستشراق هو الاستغراب» إلى أنّ «سعيد قد واجه صعوبة في تبرير الإنسانويّة مفاهيميًّا وسياسيًّا لناقدي المفهوم، ولم يفلح بتحويله [أي مفهوم الإنسانويّة] إلى مشروع إيجابيّ».