هنا بيروت ..

حيث النموذج الطائفي المتفرد في الحكم والسياسة والاقتصاد، وبعد قرابة عقد من الزمن تأتي الانتخابات النيابية اللبنانية وسط مشهد إقليمي أقل ما يوصف به بأنه شديد الفوضوية. تبدو الانتخابات النيابية انعكاسًا حقيقيًا لهذه الفوضى وموازين القوى بين فرقاء المنطقة، لاسيما المملكة السعودية والجمهورية الإيرانية.

ولعل أبرز ما يميز هذه الانتخابات عن سابقتها ثلاثة متغيرات رئيسية في المشهد الإقليمي والحراك الداخلي اللبناني. على رأس هذه المتغيرات الانسحاب السوري الكامل من الشأن الداخلي اللبناني، وانقلاب الدفة بولوج حزب الله إلى الداخل السوري لدعم النظام.

المتغير الثاني إقرار

نظام التصويت النسبي

، الذي على أساسه جرى تقسيم البلاد إلى 15 دائرة انتخابية وتحديد عدد المقاعد في كل دائرة وفق التقسيم المذهبي، ويفرض القانون الجديد تشكيل قوائم انتخابية مغلقة، ما أطاح بإمكانية الترشح الفردي وأجبر الناشطين والمستقلين على الانضواء في قوائم لا تحوز الحد الأدنى من التوافق السياسي، كما أضاف القانون الجديد نظام العتبة الانتخابية وهو الحد الأدنى من الأصوات الذي يجب أن تحصل عليه كل قائمة كي تدخل في السباق الانتخابي، وبدونه تُستبعد القائمة بأصواتها.

كذلك أُضيف نظام الصوت التفضيلي الذي يتيح للناخب أن يختار من بين القائمة مرشحًا مفضلًا، تكون له أولوية الفوز بين أعضاء القائمة؛ الأمر الذي خلق صراعًا ثانويًا على هامش كل قائمة!

الأمر الثالث الذي شكل تطورًا كبيرًا للحياة السياسة اللبنانية هو

التراجع الملموس للنبرة الطائفية الدينية

، كنتيجة لإقرار نظام القوائم الذي فرض على الكثيرين تشكيل قائمة لا يجمعها اتجاه ديني أو سياسي واحد، لتُطبع هذه الانتخابات بطابع المصلحة الانتخابية قبل كل شيء.

موت السياسة والمبادئ وربما الطائفية أيضًا يُظهر انتخابات لبنان 2018 بثوب جديد، لا يجمع المتحالفين فيها أو الأعداء سوى المصلحة الانتخابية وحسب. انتخابات تُقام بالقطعة في كل دائرة، والمتحالفون في دائرة ما هم الأعداء في غيرها.

بشكل عام، كان التيار الوطني الحر هو الأكثر حرصًا على تنويع تحالفاته في كل الدوائر بين الجماعة الإسلامية وتيار المستقبل وحزب الله وحركة أمل، بينما لم يتحالف مع كل من المردة والكتائب والقوات اللبنانية رغم أن القوات اللبنانية ساهمت بشكل كبير في إيصال ميشال عون إلى الرئاسة. أما المردة المؤيدون لحزب الله والنظام السوري فتحالفوا مع بطرس حرب، وهو من صقور 14 آذار المؤيدين لنزع سلاح حزب الله، كذلك القوات اللبنانية وتيار المستقبل تحالفا في بعض الدوائر وتواجها في أخرى، أمر يستعصي على الإدراك!

يقول بعض المتفائلين إن هذه الانتخابات تمثل قفزة سياسية لبنانية بتخطيها – إلى حد ما – البعد الطائفي للصراع السياسي في البلاد، ويؤكد آخرون أنها ليست إلا لعبةً للكراسي الموسيقية، لن تغير من الواقع السياسي على الأرض شيئًا، فقرار لبنان الداخلي والخارجي ليس ملكًا لها، أمرها مُقسمٌ بين إيران والسعودية والدول الغربية. أما حالة الفوضى التي سادت التحالفات الانتخابية فليست دليلًا على النضوج السياسي بقدر ما هي معبرة عن الشبق لكراسي السلطة بغض النظر عن المبادئ والسياسة.


الخاسر الأكبر

اليوم بالإجماع هو سعد الحريري وتيار المستقبل، حيث تلقى المستقبل صفعة كبيرة في بيروت والشمال اللبناني وتراجعت حصته في الانتخابات الحالية، من 36 نائبًا في برلمان عام 2009، إلى 21 نائبًا في البرلمان الجديد. ومع ذلك احتفظ التيار الأزرق بموقعه كأكبر كتلة ممثلة للطائفة السنية في لبنان ،و

قال سعد الحريري

في مؤتمر له ببيت الوسط إن تيار المستقبل «يواجه باللحم الحي مشروعًا إقصائيًا». وأكد الحريري أنه ما زال «حليف الرئيس ميشال عون»، وفي الشمال تمكن نجيب ميقاتي رئيس الوزراء الأسبق من الفوز في مدينة طرابلس، الأمر الذي مثل تهديدًا حقيقيًا لفرص سعد الحريري.


أما التيار الوطني الحر فقد أعلن زعيمه جبران باسيل تحقيق «انتصار» في الانتخابات الحالية، إلا أن ثمة إجماع على تعرضه

لانتكاسة سياسية كبيرة

بحصوله على 20 مقعدًا من أصل 37 مقعدًا عام 2009، وبهذا يفقد التيار الوطني الحر احتكاره لتمثيل الطائفة المسيحية في البلاد، فقد تمكن حزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع من تحقيق نتيجة انتخابية غير مسبوقة حيث ضاعف رصيده إلى 16 نائبًا بدلًا من 8 نواب عام 2009.

اقرأ أيضًا:

العودة إلى بعبدا: نهاية عهد الطائف في لبنان

على الجانب الآخر، كانت الانتخابات ذات أهمية مختلفة لحزب الله، فخسارة الحزب أو فوزه لا ترتبط بالسياسة لكن بموازين الصراع مع إسرائيل وفي سوريا.

تمكن حزب الله وحركة أمل من حصد 29 مقعدًا بينهم 26 مقعدًا من أصل 27 مقعدًا للطائفة الشيعية، الأمر الذي يكرس سطوته في تمثيل الطائفة ويضع الحزب في موقع مريح لمجابهة الضغوط الداخلية والخارجية عليه وخصوصًا تلك المتعلقة دائمًا بسلاح المقاومة، وفي ذلك

قال حسن نصر الله

، خلال خطاب متلفز اليوم: «إن الحضور النيابي الذي أفرزته هذه الانتخابات يمكننا من القول إن المجلس النيابي الحالي سيشكل ضمانة لحماية المقاومة وحماية معادلة الجيش والشعب والمقاومة».

وأضاف: «لو خسرنا مقعدًا شيعيًا في بعلبك – الهرمل، أو الجنوب، لشهدنا حملات إعلامية ضخمة تقول إن بيئة المقاومة بدأت تعاقبها على خياراتها. لكن هذا الاستهداف أُسقط، والانتخابات أعطت رسالة معاكسة لمن كانوا يحاولون القول إن المقاومة تراجعت في بيئتها». وبتنسيق حزب الله وحركة أمل مع التيار الوطني الحر، يشكل هذا التحالف أكثر من 50% من مجمل مجلس النواب اللبناني.


وفي أولى ردود الفعل على النتائج الأولية للانتخابات

قال وزير التعليم الإسرائيلي

نفتالي بينيت، العضو في مجلس الوزراء الأمني المصغر، «إن حزب الله يساوي لبنان»، متابعًا بأن «دولة إسرائيل لن تفرق بين دولة لبنان ذات السيادة وبين حزب الله وستعتبر لبنان مسؤولًا عن أي عمل داخل أراضيه».

اقرأ أيضًا:

إسرائيل وإيران بين حتمية المواجهة وتعدد الآليات

في النهاية، ما يزال التقسيم الطائفي للسلطة قائمًا في لبنان، لكن ما اختلف هذه المرة هو توزيع القوة بين الفرقاء أو ما يمكن أن نسميه

إعادة تدوير

للنظام السياسي بشكل أو بآخر، فإذا قلنا بتمكن الحريري من الوصول لمقعد رئاسة الوزراء، فإن نتيجة الانتخابات النيابية تضعه في

موقف ضعف

أمام خصومه لاسيما حزب الله. أما جبران باسيل فقد أصبح تياره في ورطة غير محسوبة بعدما تمكن حزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع من كسر هيمنته لتمثيل الطائفة المسيحية، الأمر الذي يعني أن المرحلة المقبلة قد تشهد صراعات سياسية داخلية للوصول إلى كرسي رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية، غير أن حزب الله وحركة أمل تمكنا من تعضيد سيطرتهما المطلقة على الطائفة الشيعية، وبهذا يحوز الحزب شرعية السلاح والسياسة معًا.