لقد كرسنا أنفسنا لنكون كلنا عباقرة في اللعب بالكرة. ولكن لا، هذه ليست طريقتنا نحن الإسبان، إننا نملك حوالي عشرة أو 12 لاعبًا من أصحاب اللمسات المذهلة، لكنهم عاجزون عن اللعب معًا. إن أي لاعب جيد يظهر في إسبانيا يصبح نجم أوروبا خلال عام أو اثنين، وتلك مشكلة تجارية لأن الإعلام يروّج لكرة القدم كمُنتَج. لكن الناس في الحقيقة لا يعشقون الكرة من أجل الانبهار، بل يحبونها ويذهبون للمباريات لانتمائهم للفرق التي يشجعونها.





لويس أراجونيس 1998

كثيرًا ما يرتبط هبوط فِرَق بعينها في كرة القدم بنهاية جيل ذهبي أو اعتزال مجموعة كبيرة من النجوم خلال سنوات قصيرة، أو ربما اعتزال نجم واحد خارق للعادة، تمامًا كما حدث مع اعتزال زين الدين زيدان بعد كأس العالم عام 2006، والذي تلاه تراجع فرنسا في عالم كرة القدم بعد جيلها الذهبي الحاصل على كأس العالم عام 1998 وكأس أوروبا عام 2000، وكذلك مع اعتزال الجيل الذهبي الأخير للبرازيل المكون من رونالدو وروبرتو كارلوس وكافو، والذي أدى لتراجع لم تتعافَ منه البرازيل حتى اليوم، لكن من النادر جدًا حدوث العكس: أن يترافق اعتزال نجم كبير مع صعود فريقه مباشرة بقوة من بعده، بيد أن ذلك في الحقيقة هو ما جرى مع نجم إسبانيا السابق راؤول جونزاليز.


وداعًا راؤول

جماهير الماتادور الإسباني غاضبة لأجل إقصاء راؤول جونزاليز من الفريق بعد إخفاق إسبانيا في كأس العالم 2006 ثم تعثرها في مباراة مع أيرلندا الشمالية بتصفيات اليورو 2008. والغضب موجّه بالطبع للمدرب العجوز غير الكفء – حتى الآن – لويس أراجونيس الذي يدرّب المنتخب منذ عام 2004 ولم يحقق إنجازات تُذكَر. والعلاقة بين الرجلين ليست على ما يُرام أبدًا، وهو أمر غير جيد لأراجونيس لأن راؤول هو نجم إسبانيا وريال مدريد المفضّل في نهاية المطاف، ولا خلاف على موهبته كمُهاجم.

قُبيل انطلاق البطولة بأسابيع قليلة جلس أراجونيس في مؤتمر صحافي، أو محاكمة بالأحرى، حيث تجمّعت مجموعة من الصحافيين كان معظمها متعاطفًا مع راؤول كما بدا مما طرحته، لتوجِّه له الأسئلة عمّا إذا كان سنه أكبر من اللازم لتدريب المنتخب الإسباني (70 عامًا آنذاك،) وما إن كانت نجومية راؤول سببًا في إقصائه، علاوة على كراهيته لنادي ريال مدريد «نادي النجوم» في ذلك الوقت وهل هي سبب من أسباب إقصاء راؤول أيضًا، وأخيرًا إمكانية أن يكون فيسينتي دِيل بوكسي مدرّب الريال المخضرم السابق بديلًا أفضل لإسبانيا.

لعل أراجونيس قد كره النادي الملكي بالفعل لأسباب عديدة، ولكن مشكلته مع راؤول تجاوزت مجرد كونه نجمًا ولاعبًا في الريال، فالأمر ببساطة هو أنه لم يكن ثمة مكان مناسب لراؤول في خطط أراجونيس العنيد لتشكيلة إسبانيا وفلسفتها الجديدة. ورُغم اعتقاد البعض آنذاك بأن أراجونيس بالفعل قد يرحل بقرار مفاجئ قبل بدء اليورو، وأن شعبية راؤول قد تعيده لموقعه مع مدرب جديد، إلا أن الاتحاد الإسباني – لحسن حظه – لم يعرقل مسيرة العجوز وفريقه نحو اليورو، حيث كان الإسبان كلهم على موعد مع التاريخ، لينسوا غضبهم سريعًا بسبب إقصاء راؤول، بل وينسوا راؤول نفسه.

يجب أن تظهر كلمة «كرة القدم» في القواميس وبجانبها صورة للويس أراجونيس، فقد امتلك الجرأة لاختيار مجموعة من اللاعبين الصغار والموهوبين فنيًا لوضعهم في فريق واحد تاركًا بصمة عظيمة في تاريخ الكرة الإسبانية.





تشافي هيرناندز


العجوز وكتيبة الصغار





لم تكن إسبانيا على مدار تاريخها الكروي من منتخبات الدرجة الأولى كالبرازيل وألمانيا وإيطاليا والأرجنتين، ولم تتميز بطابع خاص في لعبها لكرة القدم مثل كرة الألمان النظامية أو كرة الطليان التكتيكية أو الكرة اللاتينية الفنية، ولم تحقق بطولات كبرى باستثناء بطولة أوروبا عام 1964، وكان وصولها للأدوار الأخيرة في البطولات الكبرى يجعل منها ببساطة «حصانًا أسودَ» مثلها مثل منتخبات الدنمارك أو تشيلي على سبيل المثال. لكنها جادت علينا أحيانًا بنجم بين الحين والآخر، وأحيانًا ما كان يظهر في صفوف الدوري الإسباني مع النجوم غير الإسبان في الريال أو برشلونة.

كان راؤول واحدًا من هؤلاء النجوم، ولكنه كان مهاجمًا مهاريًا بالمعنى الكلاسيكي، فهو ينتظر كرة سريعة قادمة من الخلف أو من الأطراف ليضع لمسته الأخيرة والذكية، تاركًا مهمة صنع الأهداف لرجال وسط الملعب وفقما تُملي خطط الكرة التقليدية، وهو ملائم لنوعية الفرق المرتكزة أكثر لنجم واحد أو اثنين في الهجوم، تمامًا كما تُملي خطط 4-4-2 المعتادة، لكن الخطط التي قرر أراجونيس أن يجربها مع الإسبان قُبَيل يورو 2008 كانت مختلفة تمامًا عما عرفه راؤول عن كرة القدم.

4-3-3 هي الخطة التي أقرها أراجونيس، وهي خطة اعتقد أن نجاحها مرهون بتغيير فلسفة اللعب من توجيه الكرة بطول الملعب بأسرع وأطول طريق ممكن لرأس الحربة، إلى الاستحواذ على الكرة كتكتيك بحد ذاته، وذلك بتمريرها بسرعة في تمريرات قصيرة تزحف بعرض الملعب بين مجموعة لاعبين لا تقل أبدًا عن ثلاثة، ومن ثم التقدم بدأب نحو مرمى الخصم بتلك اللوحة الفنية الجماعية، وليس بالضرورة بمهاريات “اللاعب النجم” على غرار ما كان يفعل زيدان يومًا ما، على أن يسجل أحد اللاعبين حين يتسنى له ذلك الهدف المطلوب.

فلسفة جماعية كهذه تطلبت لاعبين تتسم مواقعهم في الملعب بالمرونة بين السيطرة على الكرة بوسط الملعب وصنع الأهداف وتسجيلها، وهي مهام وجب عليهم المشاركة فيها كلها حسب ظروف كل مباراة أو حتى كل هجمة، وهي فلسفة لم يفهمها راؤول أبدًا، وعانى من محاولة تطبيقها الأولى في بطولة العالم 2006، وهو ما يفسر انحياز أراجونيس في تشكيلاته لمجموعة الشباب الجدد أثناء البطولة، إذ وصل إجمالي الوقت الذي لعبه راؤول إلى 144 دقيقة من أصل 360 لعبتها إسبانيا، في حين لعب الشاب الصغير سيسك فابريجانس، البالغ من العمر 17 عامًا آنذاك، 214 دقيقة.

مجموعة من الصغار انحاز لها أراجونيس لأسباب غير واضحة في ذلك الوقت على حساب نجوم إسبانيا القدامى، وهو انحياز ظن كثيرون في 2006 أنه السبب في الفشل بكأس العالم حينئذ، لكن ما اتضح فيما بعد هو أن أراجونيس احتاج فقط لتطبيق فلسفته الكروية بشكل أشمل وأكثر جذرية، وألا يترك مجالًا نهائيًا لراؤول ورفاقه، وأن يضع ثقته الكاملة في أسماء شباب اختارهم بعناية منذ توليه عام 2004 وإلى بطولة اليورو 2008: سيرجيو راموس، أندرياس إنييستا، ديفيد فييا، سيسك فابريجاس، تشافي، تشابي ألونزو، فرناندو توريس، وديفيد سيلفا.


الـ «تيكي تاكا»

فيرناندو توريس بعد نهائي يورو 2008 أمام ألمانيا

رحل أراجونيس بعد تتويج إسبانيا بيورو 2008، رحل بعد أن أثبت للجميع صواب اختياراته وفلسفته الجديدة، وخلفه في موقعه فيسنتي دِل بوسكي، ورُغم الاختلاف الواسع بين الرجلين، إلا أن دِل بوسكي سار على درب أراجونيس في عدة أمور أتاحت له إكمال المسيرة الذهبية للإسبان، أولها أنه لم يدعُ راؤول أو أيًا من “النجوم” للعودة إلى المنتخب رُغم معرفته بقدراتهم كمدرب سابق لريال مدريد، وثانيها إدراكه أن التيكي تاكا هي مفتاح المسيرة الاستثنائية التي استشرفها أراجونيس في كتيبة الصغار، ولو تغيّرت التفاصيل التكتيكية من مباراة لأخرى، وأن عالم نجوم الريال ليس هو الطريق المناسب للبناء على ما قدمه أراجونيس.

لم يعُد راؤول إذن أبدًا لإسبانيا، واتجهت أنظار دِل بوسكي إلى صفوف فريق برشلونة المنافس لريال مدريد للبحث عن المزيد من لاعبي الأسلوب الجديد، والذي رعاه بيب جوارديولا كمدرّب في النادي الكتالوني آنذاك. ليضم لقائمة المنتخب كلًا من بِدرو وجيرار بيكيه وسيرجيو بوسكِتس، وهو اتجاه استمر مع دِيل بوسكي الذي انصب تركيزه على ضم عدد أكبر من لاعبي برشلونة ممن اعتقد أن موهبتهم غير مسبوقة في تاريخ إسبانيا، ليشهد المنتخب في صفوفه بالفعل أكبر عدد من لاعبي برشلونة في تاريخه.

محتفظًا بكتيبة أراجونيس، ومعززًا إياها بوجوه جديدة من برشلونة، بدأت مسيرة دِل بوسكي، والتي لم يعتقد كثيرون أنها قد تصل إلى التتويج بكأس العالم، ظنًا منهم أن يورو 2008، على غرار يورو 1964، مجرد حالة استثنائية للإسبان الذين لم يصلوا أصلًا لنهائي بطولة كأس عالم من قبل. بل ووصلوا لنصف النهائي مرة واحدة ليس إلا عام 1950، لكن هزيمة واحدة فقط مُنيت بها إسبانيا خلال 49 مباراة رسمية وودية قبل البطولة مباشرة ضمنت على الأقل أن يصبح الإسبان أحد المرشحين الأقوياء للقب.

خسارة واحدة أخرى أضيفت لذلك السجل التاريخي في المباراة الافتتاحية بكأس العالم أمام سويسرا، وهي خسارة دفعت أراجونيس لشن هجوم عنيف على خطط دِل بوسكي، ودفعت الإسبان للتشاؤم وتصديق أن يورو 2008 كان استثناءً فعلًا، لكنها كانت الخسارة الأخيرة في البطولة قبل خمسة انتصارات حملت الماتادور إلى النهائي لأول مرة في تاريخه، ليليها الانتصار السادس على هولندا في النهائي بهدف إنييستا في الوقت الإضافي، ومن ثم يعود دِيل بوسكي حاملًا كأسًا جديدًا هذه المرة إلى مدريد، كأسًا يريدها كل الإسبان منه وليس عشاق النادي الملكي فقط: كأس العالم الأولى لإسبانيا.


ماذا بعد يورو 2016

وصلت المباراة لمرحلة عجز فيها الفريق الألماني عن مجرد لمس الكرة مرة واحدة، وقد تبادلوا النظرات حينئذ وكأنهم يقولون لبعضهم البعض ’ما هذا بحق السماء؟‘ خلال تلك اللحظة كل ما فكرت فيه هو أن كل ذلك لن ينتهي هنا، وأن ما يحدث هو مجرد البداية.

لا أعتقد أن ما حدث هو نهاية حقبة بأي حال. كرة القدم الإسبانية تمتلك بنية عظيمة ولاعبين عظماء، ولا أظن أن كل ذلك قد انتهى أبدًا.





دِيل بوسكي بعد هزيمة دور الـ 16 أمام إيطاليا

طوال الفترة بين تتويجها بيورو 2008 ويورو 2012 لم تخسر إسبانيا أية مباراة رسمية سوى مباراة أمام أمريكا في كأس القارات 2009، ثم مُنيت بأول هزيمة ثقيلة على يد البرازيل في نهائي كأس القارات عام 2013، وهي هزيمة بدت منطقية أمام البرازيل صاحبة الأرض آنذاك ولم تكن لتعرقل بطل العالم عن الدفاع عن لقبه في 2014، لكنها على ما يبدو كانت إشارة إلى بداية تراجع الجيل الذهبي الإسباني حيث حدثت المفاجأة بالفعل وخرجت إسبانيا من الدور الأول بعد هزيمتين أمام شيلي 2-0 وأمام هولندا 5-1، قبل أن تخرج بالأمس من ثُمن النهائي الأوروبي أمام إيطاليا.

معظم الأسماء التي شاركت في صفوف هولندا عام 2010 وخسرت أمام الإسبان في النهائي هي ذاتها التي سجلت في مرمى كاسياس خمسة أهداف عام 2014، ومعظم الأسماء الإيطالية التي مُنيت بأربعة أهداف في شباكها في نهائي اليورو عام 2012 هي نفسها التي شلّت تمامًا تحركات التيكي تاكا بالأمس ووصلت لشباك لا روخا مرتين، وهي أول مرة ينجح أحدهم في تسجيل هدف بشباك إسبانيا في الدور الثاني ببطولات اليورو الثلاث الأخيرة – صدق أو لا تصدق!

هي مفارقة أن تُقصي إسبانيا تشكيلة مثل إيطاليا اليوم، والتي توقع البعض ألا تمضي كثيرًا في البطولة الحالية، بل وربما أن تخرج من الدور الأول نظرًا لغياب أسماء كبيرة في الجيل الحالي للكرة الإيطالية، لكن الحقيقة هي أن المدرب الإيطالي أنطونيو كونتي، على غرار ما فعل أراجونيس عام 2008، لم يُرِد أي “نجوم” في الفريق الحالي، وهي واحدة من أسباب إقصائه لأندريا بيرلو المخضرم من تشكيلة اليورو 2016، وباستثناء بوفون في حراسة المرمى، فإن معظم لاعبي كتيبة كونتي التي هزمت إسبانيا بالأمس كانت أسماءً لعلنا لم نسمع بها قبل بداية البطولة.

مثله مثل أراجونيس، وربما على العكس من فلسفة الكرة اللاتينية الأكثر تقديرًا للإبداع الفردي، أراد كونتي تشكيل فريق من الصغار المُفعمين بالحماس والخالية سجلاتهم من أية بطولات كبرى ليسيروا وفق خططه الجماعية بدقة وصرامة ويبدأ تبلور مسيراتهم الكروية وفق الأدوار التي يرسمها لهم، لكن المشكلة الوحيدة في تلك الفلسفة الجماعية هي أنها تصبح مرهونة بتناغم مجموعة معيّنة لجيل واحد لعب لفترة طويلة معًا مثل الجيل الإسباني الحالي، وهو ما يعني أنه مع بداية بلوغهم الثلاثينيات واعتزال بعضهم وفقدان البعض الآخر لسرعته وكفاءته السابقة، يبدأ الفريق في الهبوط بشكل مفاجئ كما رأينا مع لا روخا خلال العامين الماضين، وتبرز الحاجة إلى دماء جديدة للفريق كله بشكل سريع.

تغيير تشكيلة إسبانيا اليوم بشكل جذري سيحتاج لرجل بجرأة أراجونيس في الدفع بالصغار من منتخبات الشباب الإسبانية، بل وسيكون ذلك أصعب مع الجيل الحالي الأكثر رسوخًا في أذهان الإسبان من راؤول عام 2008، وكذلك إلى رؤية أراجونيس في انتقاء الشباب المناسب بالفعل لملء الفراغات التي تركها لاعبون مثل تشافي وفييا وسيتركها عديدون في السنوات القادمة، وتشكيل فريق آخر مميزًا ومتناغمًا بهم قبل أن تخطفهم أضواء النجومية لو تُركوا لسن متأخرة.

لعل تلك القاعدة هي مُعضلة لا روخا؛ أن التيكي تاكا تصنع نجومًا ولكنها لا تُصنَع من النجوم أبدًا، بيد أنها تشي في آن بنفس الحقيقة التي أشار لها دِيل بوسكي بالأمس: عبقرية التيكي تاكا يستحيل أن تنتهي بتلك البساطة، وكل ما هنالك هو أن جيلها الأول فقط قد انتهى.