المساحات الآمنة مغرية جدا، خاصة إذا كانت تحقق لك شيئا آخر ملموسا مع الأمان، كأن تحقق لك النجاح مثلا، خاصة إذا كان عملك إبداعيا يتعلق بآراء الجماهير، سوف تجرب ربما أكثر من مرة إلى أن تصل للتوليفة الآمنة التي تجعلهم يشيدون بك، تنجح ويلمع نجمك ويحب جمهورك هذه التوليفة، فتأمنها وتطورها وتنتج أعمالا إبداعية أكثر تدور في نفس المنطقة الآمنة.

إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي تستنفد فيه كل المتاح في منطقتك الآمنة، فيأتي عملك الإبداعي ضعيفا ولا يحقق نفس النجاح، لأنك إذا لم تخرج عن حدودك التي التزمت بها فلن ترى أبعد، وسوف تظل تدور في نفس الدائرة إلى أن تمل منك الحدود.


غيوم ميسو: الأدب الجماهيري والموهبة

«

غيوم ميسو

» من أشهر الكتاب الفرنسيين في السنوات الأخيرة، ولد في 1974 وغادر «فرنسا» في سن التاسعة عشرة إلى «الولايات المتحدة الأمريكية» لأنه كان يرى أن سفره إليها سيشحذ ذهنه بالعديد من الأفكار التي ستمكنه من كتابة الروايات، حيث إنه كان يعرف أن هذا هو المسار الذي يريد أن تأخذه حياته.

عاد «ميسو» إلى وطنه «فرنسا» بعد عدة أشهر مفتونا بالولايات المتحدة التي ستظل علامة واضحة في كل أعماله لاحقا، حيث إن جميع رواياته تدور هناك، رغم أنه لا زال مقيما بفرنسا إلى اليوم، واستكمل تعليمه حتى حصل على شهادة في الاقتصاد خولته للعمل مدرسا للاقتصاد بالمدارس الثانوية.

ثم تعرض «ميسو» لحادث سير مروع كاد يفقد فيه حياته جعله يكتب أولى رواياته عن طفل يتعرض لتجربة الدنو من الموت وأسماها «وبعد» صدرت عام 2004، وقد حققت الرواية نجاحا باهرا، وباعت أكثر من ثلاثة ملايين نسخة وترجمت إلى عشرين لغة حول العالم.

يكتب «غيوم ميسو» أدبا تشويقيا يمكننا أن نسميه أدبا جماهيريا، دائما رواياته لا تحتاج عمقا من أي نوع لفهمها واستيعابها والتعاطي معها، روايات سهلة وأحداث متلاحقة وحبكات جيدة جدا، ودائما هناك شيء ما غامض ولغز يستعصي على الأبطال والقارئ على حد سواء وتنحل عقدته في النهاية، أدبا يصلح لكل الأعمار والميول، لا فلسفة ولا صعوبة ولا غوص في مشاكل مجتمعية أو نفسية أو وجودية.

أدب «غيوم ميسو» مسلٍ جدا، وكأنك تشاهد فيلما حديثا بتقنيات عالية، وتجلس على حافة مقعدك مشدوها متسارع الأنفاس، ثم ينتهي الفيلم الذي أعجبك جدا وشد انتباهك جدا جدا والذي تنسى كل شيء عنه بعد وقت قصير فلا يعلق معك شيء من المغامرة.


عائد لأبحث عنك

في روايته التي صدرت مؤخرا بالعربية «عائد لأبحث عنك» يحكي «ميسو» قصة طبيب نفسي يصل لقمة السلم الاجتماعي بعدما يتخلى عن ماضيه تماما، ويبدأ حياة جديدة وهو في الثالثة والعشرين من عمره ليترقى في الحياة حتى يصبح شخصية عامة، ولكنه ورغم امتلاكه لكل شيء فاقد لمعنى حياته، ويلمع في ذهنه مصطلح «نقطة اللارجوع» التي يفكر فيها على طول الرواية، وكأنها هي سلسلة الأحداث التي أدت إلى ما هو فيه، والتي لا يمكن أن تعود بعدها حياته كما كانت قبلها.

ثم تحدث معه سلسلة من الأحداث الغامضة والغريبة التي تجعله يعيد التفكير في حياته وفي «نقطة اللارجوع» الخاصة به وينقلب كل شيء رأسا على عقب.

الرواية تشبه كل أعمال «غيوم ميسو» من حيث التتابع السريع، والغموض، وقصة الحب التي تتضفر مع الأحداث المتشابكة، واللغز الذي تنحل عقدته في نهاية الأحداث، هي توليفته الآمنة بنفسها التي يعتمد عليها في أن يصبح من أكثر كتاب فرنسا مبيعا في السنوات الماضية.

ورغم أنها تلعب في المنطقة الآمنة التي اعتاد عليها «ميسو»، فإنها تفتقد نفس الروح، وكأنه استنفد كل ما كان يمكن أن يقوله في هذه المنطقة، الفكرة مكررة وقصة الحب ليس لها أي جذور حتى عندما حاول أن يؤصل لها، وحتى اللغز الأخير الذي اعتاد قراؤه أن يندهشوا من حله جاء في منتهى السذاجة، كل العناصر التي اعتاد أن يجمعها متوفرة، ولكنها ليست على نفس المستوى، وجاءت – إلى حد كبير – مخيبة للآمال.


المنطقة الآمنة ليست آمنة للنهاية

فخ التكرار أو إعادة تدوير الأفكار والتيمات ليس عيبا وقع فيه «ميسو» وحده، ولكن يقع فيه كل من يشتغلون بالفن خاصة الفن الجماهيري الذي يهتم أول ما يهتم بالمبيعات ورأي الجمهور، تصبح وقتها التوليفة التي يوافق عليها هذا الجمهور دينا يتبعه المبدع ويسخر كل أدواته للإخلاص لهذا الدين، فيأتي الوقت الذي لا تحقق فيه هذه التوليفة النتائج المرجوة، وهذا هو ما حدث هنا.

بالطبع ليس السبب هو نفاد الأفكار، فمهما كانت المنطقة الآمنة ضيقة فإن الأفكار لا تنفد، خاصة أن العالم حولنا يتغير في كل لحظة، ويلهم من يحتاجون للإلهام، المشكلة في حبس التفكير في مربع واحد يجب ألا يحيد عنه، فمهما كان هذا المربع واسعا فإن المبدع يظل يرى الحدود التي يرسمها المربع من حوله ويكف عن التفكير ويتعطل.

هذا هو غالبا ما حدث هنا، فالعناصر التي يستخدمها «غيوم ميسو» محدودة، وهو أيقن أنه يجب ألا يغامر ويستخدم ذات العناصر مع ترتيبات مختلفة حتى ينتج نفس التوليفة التي يحبها جمهوره، والتي تضمن له صدارة المبيعات، فجاءت الرواية باهتة بلا ملامح أصيلة خاصة بها، ولم تكن على مستوى توقعات جمهوره في الأغلب، المهم ألا تمثل رواية «عائد لأبحث عنك» «نقطة اللارجوع» بالنسبة لـ«غيوم ميسو».