هكذا ما تكون الأقدار دومًا على غير معرفة البشر أو توقعهم، فمن داخل قلب المعاناة قد تخرج شعلة مضيئة لا يستمر بقاؤها كثيرًا، لكن ضياءها يستمر لعقود. هكذا كانت الصورة بعد رحيل سوهارتو ووصول بحر الدين يوسف حبيبي إلى سدة الحكم في إندونيسيا بعد 30 عامًا من الانحدار والتدهور على كافة الأصعدة.

ففي الوقت الذي كان الرئيس الإندونيسي سوهارتو على أعتاب الرحيل عن كرسي الحكم، بسبب التدهور المريع الذي أصاب إندونيسيا وخرجت على إثره العديد من المظاهرات التي أنهت حكمه المستمر لثلاثين عامًا، صعد نائبه الباحث ودارس العلوم بحر الدين يوسف كرئيس انتقالي، لفترة لم تتجاوز العام تقريبًا، لكنها كانت نقطة مشتعلة لبناء دولة حديثة.

من هو بحر الدين يوسف؟

ولد المهندس بحر الدين يوسف حبيبي في الخامس والعشرين من يونيو/ حزيران من العام 1936 في غرب جزيرة سويلاسي بإندونيسيا، وبعد أن أتم دراسته التمهيدية، وتفوق في معهد باندونج التقني بإندونيسيا قرر دراسة الهندسة في ألمانيا، وقد كانت

دراسته بالكامل

على نفقة أسرته وليس اعتمادًا على منحة دراسية.

قضى يوسف شطرًا كبيرًا من حياته شغوفًا بالهندسة وبالطائرات وصناعتها، فقد كان واحدًا من أهم أحلامه على الإطلاق صناعة طائرة إندونيسية ليسافر بها أبناء بلدته أينما يشاؤون.

حظي يوسف بحياة قليلة الإمكانيات في ألمانيا، حيث إنه كان يذهب إلى الجامعة سيرًا على الأقدام من محل إقامته البعيد عن العاصمة، توفيرًا للنفقات، وقد نجح خلال سنوات دراسته في ألمانيا ما بين 1955 وحتى 1965 في تحقيق العديد من الإنجازات العلمية، بداية من الحصول على درجة

البكالوريوس

وأكمل دراسته في نفس الجامعة ليحصل على درجة الماجستير وبعدها حصل على منحة لنيل الدكتوراه، وتدرج في الجامعة حتى وصل إلى منصب أستاذ مساعد.

توافق ذلك كله مع تفوق يوسف الاستثنائي، والذي مكنه من الوصول إلى درجة الدكتوراه في الثامنة والعشرين من عمره، وقد كان ذلك إنجازًا لم يصدقه الكثيرون حينها، وكان تخصصه في دراسة هندسة الطيران.

كان يوسف من المهووسين بالقراءة، فخلال فترة دراسته بألمانيا كان يتعامل مع
المكتبات العامة المفتوحة طوال الوقت بالمجان للزائرين

ككنز

يجب اغتنامه طالما كانت
الفرصة متاحة، وهو ما ساعده على التوسع في تحصيل العلم، حتى أنه لاقى الكثير من
التقدير في المجتمع الألماني باعتباره من النوابغ العلمية.

لم تتوقف مسيرة التحصيل العلمية عند يوسف في ألمانيا، انتقل بعدها إلى
هولندا ليستزيد من العلوم هناك، حتى عاد إلى إندونيسيا في 1970 وقد أصبح من أهم الشخصيات
العلمية في المجتمع الإندونيسي.

وأضيف إلى ذلك سجلٌ كبيرٌ من الجوائز العلمية في إندونيسيا وبريطانيا والولايات المتحدة والسويد.

الطريق نحو السلطة

بمجرد وصول يوسف إلى إندونيسيا، استطاع أن يحوز اهتمام الجميع – السلطة والشعب – فاختاره الرئيس سوهارتو ليصبح مؤسس و

رئيس شركة الطيران الوطنية

المملوكة للدولة، والتي اعتبرت أول شركة طيران من نوعها في جنوب شرق آسيا، كان ذلك على وجه التحديد في العام 1976.

وقد أولى يوسف اهتمامًا كبيرًا بذلك القطاع منذ توليه رئاسة الشركة، حيث كان اهتمامه منصبًا على تقديم الكثير من المعارف الأوروبية في مجال الطيران إلى الشركة الوليدة، والتي نجحت بعدها في تحقيق هدفها الذي رغب فيه يوسف، وهو النجاح بشكل كبير في تصنيع الطائرات بمعايير جودة متميزة.

تدرج حبيب في المناصب المختلفة، فوصل إلى منصب وزير البحث العلمي والتكنولوجيا في حكومة سوهارتو في العام 1978، وقد كان تركيزه خلال هذه الفترة منصبًا على تحويل الآلية الاقتصادية في إندونيسيا من التبعية إلى الاستقلالية اعتمادًا على التكنولوجيا الحديثة، ومن بين نجاحاته الهامة

تنسيق عمليات

بيع المنتجات التي قدمتها شركة الطيران الإندونيسية لمختلف الدول حول العالم، مما شكل موردًا اقتصاديًا لا يستهان به.

وصل يوسف وباختيار الرئيس سوهارتو إلى منصب نائب الرئيس لتصبح هذه واحدة من أهم الخطوات في مسيرته المهنية والسياسية، بعد كل النجاحات التي حققها، وكان القدر قد خبأ له ما لم يفكر به، إذ وقعت أزمة اقتصادية طاحنة هزت قارة آسيا بأكملها، بعد شهور من توليه منصب نائب الرئيس، لتخرج المظاهرات العارمة في الشوارع مطالبة برحيل سوهارتو بعد 30 عامًا متواصلة من حكم إندونيسيا، ليترك

سوهارتو الحكم في مايو/أيار من العام 1998

ويصبح يوسف الرئيس المؤقت للدولة، في حقبة صنفت كواحدة من أصعب الحقب السياسية التي مرت بها إندونيسيا في العصر الحديث.

في الوقت الذي شعر فيه جمهور المتظاهرين بالتخوف مما يمكن أن يفعله يوسف بتوليه منصب الرئيس، والخشية من أن تكون إستراتيجيته مشابهة لسلفه، كان يوسف سباقًا بمجموعة من الخطوات الإصلاحية على رأسها فتح مجال الحريات بصورة واسعة بما فيها حرية الصحافة والإعلام،

والإفراج عن السجناء السياسيين

وهو ما شكل دورانًا هامًا لعجلة الاستقرار في إندونيسيا، وساهم بشكل كبير في تهدئة الأوضاع بصورة مؤقتة.

ومن أهم ما قام به يوسف في هذه الفترة هو إصدار مجموعة من

التشريعات الخاصة

بالبرلمان وحرية تأسيس
الأحزاب، بالإضافة إلى قوانين الانتخابات التي سمحت لمختلف الفئات بالمشاركة في
العملية السياسية، وفي الوقت نفسه اهتم بمسألة النقاش المجتمعي، والتي ساهمت في
إثراء الحركة السياسية والدستورية فيما بعد.

وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام 1999 قرر يوسف إجراء

انتخابات رئاسية مبكرة

، خرج على إثرها من السلطة، بعدما وجد حالة من التنافسية المحمومة داخل حزبه جولكار، ولم يحاول يوسف بعد خروجه من السلطة العودة للمشهد السياسي مرة أخرى، وقد كان لذلك أثر كبير عند الشعب الإندونيسي تجاه يوسف، وظلت هذه الحادثة علامة فارقة في تاريخه.

وتفرغ بعدها لنشاطه التجاري في مجال صناعة الطائرات التي أحبها طوال حياته، واستمرت مشروعاته على مدار السنوات التالية لخروجه من الحكم، حتى أن آخر مشروعاته هو شركة لتصنيع الطائرات بدأها عام 2012، وتعمل حاليًا على تصنيع الطائرة المعروفة باسم

R80

والتي ستسع 80-90 راكبًا، ومن المفترض أن تخرج رحلتها الأولى بحلول عام 2022.

صدمات وخسائر

على الرغم من ذلك السجل الحافل، والذي كان بمثابة تعبيد الطرق لحركة
اقتصادية وسياسية مستقرة في إندونيسيا الحديثة، إلا أن هناك ما كان بمثابة الصدمة
بالنسبة للإندونيسيين بعد تولي يوسف مقاليد الحكم، حيث سمح ولأول مرة لمواطني
تيمور الشرقية بإجراء استفتاء يقرر فيه سكان الإقليم رغبتهم في البقاء تحت العلم
الإندونيسي أو الانفصال والحصول على الحكم الذاتي، وكان ذلك ضمن مجموعة السياسات
التحررية التي أطلقها يوسف.

وحصل إقليم تيمور الشرقية على

الحكم الذاتي

بالفعل بعد الاستفتاء، وقد كانت تلك صدمة كبيرة للشعب الإندونيسي، وعلى الرغم من كل السياسات الإصلاحية التي وضعها يوسف بمجرد توليه الحكم، إلا أنه فشل في السيطرة على

الاضطرابات السياسية

التي ضربت الشارع بصورة كاملة، مما دفعه للانسحاب من سدة الحكم بعد 17 شهرًا فقط في قصر الرئاسة.

وبعد سجل حافل وطويل، رحل بحر الدين يوسف حبيبي في 11 سبتمبر/ أيلول الجاري بعد إصابته بأزمة قلبية، ليظل في عيون وسجل الشعب الإندونيسي رائد الصناعة والأب الروحي لعصر التكنولوجيا الحديثة في إندونيسيا.