يملك فيلم أفاتار Avatar شهرة ضخمة، هو أحد أشهر الأفلام وأسهلها تعريفاً، إذا سألت أي شخص غير مهتم بالسينما عن أفاتار على الأرجح سيصف لك مخلوقاً أزرق، لكن على الرغم من أيقونيته فإنه أحد أقل الأفلام بقاء في وجدان مشاهديه والعالم، ماذا كانت قصة أفاتار وما موضوعه وما الذي يتوقعه العالم من جزء آخر من الفيلم؟ تتمثل شهرة الفيلم في الإنجاز التقني الضخم، في خلق صور لا تنسى، اختبرها من اختبرها في دار العرض عندما عرض لأول مرة عام 2009، أما من لم يلحق أن يشهد الفيلم الذي يتحدث عنه الجميع على الشاشة الكبيرة بتقنية التصوير ثلاثية الأبعاد في أوج شهرتها وتطورها قبل أن تتراجع وتتلاشى لأنها لم تضيف ما توقعه صناعها لفن السينما وفن الفرجة فإنه فقد جزءاً كبيراً من التجربة، ربما شاهد الفيلم لاحقاً على شاشة تلفاز أو كمبيوتر محمول ولم يشعر بشيء مميز.


السينما كمكان للزيارة

قدم المخرج المعروف جيمس كاميرون فيلمه أفاتار عام 2009 باعتباره فيلماً سيقسم تاريخ السينما إلى ما قبله وما بعده، وأعاد تقديمه عام 2022 باعتباره فيلماً صامداً رغم ما قدم بعده من تطورات لم تتخطَه، بعد ثلاثة عشر عاماً يبدو أفاتار جيداً على الشاشة الكبيرة، خاصة بتقنية الآي ماكس ثلاثية الأبعاد،  يملك مؤثرات بصرية بديعة ومعاشة، يبني عوالم مفصلة، ضخمة وباهرة، لكن سرعان ما يصبح كل ذلك البذخ البصري مملاً بعد الاعتياد عليه، يقدم أفاتار تجربة بصرية متكاملة ويستخدم الصور المعدة رقمياً لصالحه دون إفراط على الرغم من طول مدة استخدامها، فكل المشاهد على كوكب باندورا مولدة رقمياً، كل الشخصيات والنباتات، السماء والبخار وقطرات المياه، غير أفاتار التاريخ بالفعل لكن ليس بشكل إيجابي كما أمل كاميرون، ربما مهد الفيلم للسينما كحديقة ألعاب كما سماها سكورسيزي، بعده أصبحت التجربة السينمائية المهيمنة هي الأفلام الكبيرة المولدة رقمياً، وأي تجربة غير ذلك فرصها شبه معدومة في النجاح.

يرجعنا إعادة عرض أفاتار بعد سنوات من عرضه الأصلي للإشكالية السينمائية الحالية المتعلقة بالوسيط ومكان لعرض وعادات المشاهدة، إذا أخبرت أحد محبي فيلم أفاتار أنك لم تستسغه ولم يعجبك سيخبرك على الفور أن السبب  أنك لم تشاهده في حالته الأصلية أي بتقنية الصورة ثلاثية الأبعاد على شاشة ضخمة ذات جودة صوت وصورة ممتازين، ربما يعني ذلك أن التجارب السينمائية غير متساوية وأن بعضها خلق للشاشة الكبيرة وبعضها لا، لكن ذلك من الممكن أن يعني أن بعض الافلام لا تملك أي قيمة إذا تم نزعها من مكانها الأصلي. اختبار أفاتار في دار العرض يشبه الذهاب في مغامرة في بلد غريب، تتحرك الكاميرا سريعاً لترينا من كل الزوايا أبعاد الأماكن ومدى تنوع تفاصيلها، فهو أشبه بزيارة لمكان ترفيهي أكثر من مجرد مشاهدة فيلم وقصة وممثلين وكلمات تنطق على الشاشة.

فعل الزيارة والذهاب إلى مكان غير البيت هو الهدف الرئيسي، في وقت عرضه عام 2009 تم إطلاق كل الخيارات الممكنة لمشاهدة أفاتار بحسب إمكانيات البلد المعروض فيها، فتم عرضه بشكل تقليدي وبشكل ثلاثي الأبعاد وفي صالات آي ماكس ثلاثية الأبعاد وفي صالات عرض رباعية الأبعاد التي ترسخ أكثر لاختبار الفيلم كأفعوانية لمدة ثلاث ساعات، ربما تعيدنا التجارب الحسية البدائية تلك لبداية السينما نفسها، كاختراع تكنولوجي جديد يمثل فسحة قبل ما تتبنى السينما الرواية والمسرح ثم سردياتها الخاصة لتصيغ قصصاً وتتولد من داخلها أنواع فيلمية داخل إطار قصصي، بعد مرور فترة الاندهاش الطفولي الأول المتعلق برؤية العالم أمامنا في شكل صورة متحركة، تحاكينا، ترانا ثم نراها، فإن السينما أصبحت وسيطاً قصصياً لكن بشكل ليس حصرياً، فهي وسيط معقد متراكب، يهضم كل ما يضاف إليه، فقبل ما يدخل إليها الصوت كانت صورة فقط وقبل ما يتعرف صناعها على إمكانية المونتاج كانت المشاهد تحدث في وقتها الحقيقي.

ما يربط ذلك بأفاتار أحد أشهر الأفلام بصرياً أنه لم يكن قط أحد أشهر السرديات السينمائية، على الرغم من اهتمام جيمس كاميرون بصياغة حكاية ذات رسالة واضحة، رسالة شاجبة للاستعمار والإمبريالية الأمريكية، محبة للسلام والطبيعة، للأشجار وللمخلوقات الملونة، للأرض كما خلقت، لكن ولأن جمع تلك الموضوعات في سردية بسيطة أشبه بقصة تحذيرية شبه مستحيل فإن نوايا كاميرون الحكائية ارتدت على ذاتها، وأتت بنتائج عكسية، جعلت قصة فيلمه ساقطة من ذاكرة مشاهديه بشكل عام وإذا تم تذكرها وتحليلها، بعد المرور على التجربة البصرية لسيطرتها بالطبع، فإنها تسترجع بسبب قصر نظرها، وسياساتها الاستعمارية الجديدة التي تناهض الاستعمار الكلاسيكي وتستبدله باستعمار حديث، حسن النية ذو وجه لطيف، وروح رومانسية حالمة.

السينما كوعاء للأفكار

يبني أفاتار سرديته الرئيسية حول فرضية بسيطة، وهي أن الإمبريالية والاستعمار أدوات شر بشكل عام، تمكن البلدان ذات السطوة المادية والعسكرية من سلب ما لا تملك من مناطق ذات طبيعة أكثر ثراء وسكان أكثر سذاجة، مما يرسخ بالطبع لفرضيات بدائية مثل ارتباط الغرب بالعلم والعملية والشعوب الأخرى بالسحر والطيبة والارتباط بالطبيعة، يتعامل أفاتار مع الإمبريالية الأمريكية بشكل خاص، يمثل الجيش الأمريكي بأبشع صوره، في إطار طفولي غاضب متعطش للدماء، بينما يمثل الشعب الذي يشابه الأمريكيين الأصليين أو ربما شعب أفريقي ما نظراً لاختيار عدة ممثلين ملونين البشرة للعب أدوار شغب النافي na’vi في صورة ملائكية لكنها صارمة، شعب يعيش في تناغم مع الطبيعة لكنه حاسم وقوي ذو مهارات قتالية تكاد تكون خارقة.

في ظاهره لا يمثل ذلك السرد ترسيخاً أو انغماساً في السرديات الاستعمارية، فالقصة واضحة وبسيطة ربما أبسط من اللازم، جيش متوحش ضد شعب بريء، كولونيل متوحش ضد رب أسرة حكيم، تأتي السردية الاستعمارية الحديثة في صورة البطل نفسه جيك سولي (سام ورثينجتون) الذي يمثل نمطاً شهيراً في السينما الأمريكية والغربية وهو المنقذ الأبيض أو ربما حتى المسيح المخلص، يملك النافي كل ما يمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، قوة جسدية وإمكانيات قتالية وتمكن من الأسلحة وحيوانات الغابة المقاتلة القوية، كما يملكون زعيماً حكيماً وعادلاً لكن كل ذلك لا يكفي، جيك سولي ضابط المارين الأمريكي أصلح بالزعامة، يتخلى سولي عن بياض بشرته ويتبنى لون السكان الأصليين لكي يصبح نبيهم، يقودهم ويوحدهم وتحت إمرته يغلبون القوة العسكرية الأقوى على الأرض.

يبدأ انقلاب الأفراد على المؤسسة بوقوع جيك في الحب، في إطار حكاية أشبه ببوكاهنتس، عندما تهم نيتيري (زوي سالدانا) بقتل جيك يأتيها إلهام من إلهة الغابة بأن تتركه يعيش، وتقنع بعدها أسرتها وقبيلتها بأنه ليس دخيلاً سيئاً بل هو حليف يمكن أن يتعلم منهم ويصبح أحدهم، يسرد الفيلم براو صوتي يؤديه سام وورثينجتون، يفصح عن مخاوفه وتجاربه ومشاعره اليومية تجاه الأرض وتجاه الكوكب الآخر، الجيش والحرب، وكونه مجنداً بإصابة تمنعه عن المشي تجعله يتمنى الطيران ويحقق حلمه في جسد آخر، يخبرنا جيك أنه لطالما حلم بإيجاد المعنى، بالقتال في سبيل الحرية والسلام، وأنه في الماضي اعتاد أن يقاتل في سبيل الحق مع جيش من الرجال المخلصين أما الآن مع سيطرة النقود والشركات فإنه أشبه بالمرتزقة، تمثل سردية سولي عن نفسه التناقض الأول في ما يخص رؤية أفاتار للإمبريالية فهي انتقائية وغير واضحة، لا يوجد خط فاصل بين أحقية تدخلات الجيش في بلدان وأخرى.

بجانب شخصية المنقذ الأبيض فإن كل الأبطال على الجانب  الأمريكي يقعون تحت صبغة استعمارية جديدة، تتسم بحسن النوايا بالطبع وحب الغير/الآخر غير المتحضر، يتمثل ذلك في العالمة دكتور جريس (سيجورني ويفر) التي ترى أن العنف ليس هو الحل، تعمل مع الجيش الذي تعرف نواياه قبل أن تنقلب عليه، تريد الدراسة واستكشاف ذلك الكوكب البديع نباتياً وجغرافياً، تعلم الأطفال الإنجليزية وتتعامل بلطف مع السكان المحليين وبحدة مع زملائها في العمل وتحصد نهايتها البطولية في الكوكب الذي سحرتها طبيعته، يدور أفاتار في فلك السرديات الاستعمارية التي يحاول نبذها وتفكيكها، يستخدم السمات والصور المتعلقة بثقافات أخرى كأجهزة وأدوات لتحريك حبكته، لأنه فيلم ضخم يصعب أن يكتفي بضخامته التقنية لكن يتوجب عليه أن يحمل أيديولوجيا مؤثرة، يعتقد بشكل ما أنها سوف تغير العالم، لكنها ترسخ لحال العالم كما هو عليه.

يمثل أفاتار في إصداره الجديد أداة فعالة لتحليل مرور الزمن على الأعمال الفنية، كيف يتغير تلقينا لها وكيف تصمد في اختبار الزمن، تخطى أفاتار أرقاماً قياسية عديدة عندما عرض لأول مرة وأصبح الفيلم الأعلى إيراداً في تاريخ السينما ودور العرض ومع عرضه ثانية لم يفقد جودته وإبهاره، ربما خفت قليلاً لكنه منتج متماسك يصعب أن تفقده التطورات التقنية المقبلة بعده جودته الأصلية، لكنه ومثل بداية صدوره يملك  تأثيراً شعبياً وثقافياً محدوداً ويكتفي بكونه أعجوبة سينمائية تقنية، في زمن لم تعد السينما فيه صندوق يحوي صوراً متحركة نراها لأول مرة، الصور المتحركة أصبحت هي الطبيعة اليومية لحياتنا.