تخرج عاطف الطيب في المعهد العالي للسينما في يونيو 1970، بعد سنوات دراسة شهد أصدقاؤه أنه كان فيها شخصاً مُنطويًا هادئًا، لا تحمل درجاته الدراسية أو مشروع تخرجه المتواضع أي نبوءات يُمكن أن تستعيدها الذاكرة حول ما سيصير إليه.

ربما لأن التشكل الحقيقي لوجدان الطيب حدث بعد الخروج من مصاف المقاعد الدراسية لعالم غائم، تجربة ناصرية تترنح بعد النكسة، تتآكل مصداقية وعودها ثم تنتهي كليًا في عام تخرج عاطف الطيب بموت أبيها الروحي جمال عبدالناصر. ليجد عاطف نفسه ضمن آلاف المُجندين المصريين على الجبهة، جيل بالكامل تحطمت تجربته ومات رمزها تاركًا إياهم عالقين لسنوات في صحراء بعيدة مع وعود سلطوية بالعبور ومحو آثار العدوان لكنها لم تتحقق بعد.

المخرج المصري الراحل عاطف الطيب
المخرج المصري الراحل عاطف الطيب

سوف يقضي عاطف خمس سنوات مُجندًا في وحدة التوجيه المعنوي، المنوط بها دومًا بث الأخبار التي تؤيد السلطة وتوحد الصف، وتُزكي العزيمة وتُخرس الشكوك في أزمنة القلق، خلال سنوات تجنيده سيُقدم فيلمه التسجيلي الأول باسم «جريدة الصباح» 1972، عن التناقض المُبكي بين عناوين الجرائد الصباحية والواقع المُعاش. مُدة الفيلم أربع دقائق لا أكثر، من رحمها ولدت رؤية سوف تطبع مسيرة عاطف للأبد، أفلامه سوف تُعاكس كل التوجيهات المعنوية، يقول عاطف على لسان أحد أبطاله في فيلم «كشف المستور» إن أهم لحظة في حياة المرء هي لحظة الحقيقة، حتى لو كانت حقيقة أن المرء مخدوع أو مهزوم لا يهم، لحظة انكسار المرايا والنُسخ المزورة وبقاء نُسخة واحدة، رجل وحيد في صدقه دون عدسات عاكسة أو خادعة.

تلك لحظة سوف تحياها كل شخوصه في أفلامه التالية، لهذا سوف تأتي أفلامه لتُقدم نقيض ما دُرب عليه في سنوات الجُندية، تعارض السلطة وتثير الشكوك وتخرج النفس من أمانها الضيق لفدادين واسعة من القلق.

الغياب والسؤال

في أفلام عاطف الطيب، البطل دومًا على الحافة، سوف ينفجر لا محالة





نور الشريف

غيرت سنوات التجنيد «عاطف الطيب» للأبد، لم تُسلحه بالبندقية أو المهارة، إنما فقط بالغياب والسؤال، غاب عاطف خمس سنوات كاملة عن مُجتمع ينسلخ من جلده كليًا بموت زعيمه نحو انفتاح اقتصادي تقوده دولة تنسل ببطء من حيز مسؤولياتها تاركة مواطنها وحيدًا أمام تحولات تسحقه، منح هذا الغياب «عاطف» عينًا طازجة للمشاهدة ودواخل مُثقلة بذاكرة الماضي، أمام واقع لا يُشبهه، لذا سوف يُسلح شخوصه بالسؤال:

ماذا حدث للمصريين؟

في فيلم «سواق الأتوبيس» يعود البطل «حسن سُلطان» من انتصاره في أكتوبر لمُجتمع جشع يتكالب فيه أهله على ورشة أبيه، يخرج «حسن عز الرجال» في فيلم «كتيبة الإعدام» من سجنه ليواجه مُجتمعًا يصمه بالخيانة وقت الحرب، يُحاول إثبات براءته لكن يُرعبه اغترابه في حياة لا تٌشبهه.

نور الشريف وعايدة فهمي من فيلم كتيبة الإعدام
نور الشريف وعايدة فهمي من فيلم كتيبة الإعدام

يذرف المٌحامي «مُصطفى خلف» دموعه في قاعة المحكمة ليختصم الحكومة، واصفًا نفسه بأنه ابن تجربة ناصرية مُجهضة، خُلق من رمادها مٌجتمع شره كافر بكل ما قاتل لأجله الجميع في الثورة وفي سيناء، يجلس «حسن» سواق الأتوبيس وسط أصدقائه أمام الأهرام، في صحراء تُشبه سيناء التي ضحوا بدمائهم لأجلها، لكن صحراء العاصمة تكشف غُربتهم، لا جنود في العاصمة لكن الحرب موجودة، حرب دون أسلحة وعدو واضح وجبهة يُمكن عبورها، حرب الجميع فيها ضد الجميع، الجميع يسرق ما تصل إليه يداه، والعبور ليس مُشرفًا مثل عبور أكتوبر، الجميع يعبر الوطن من بوابة المطار للخليج وبلدان أخرى تمتص مواهب لا يُعيرها الوطن اهتمامه.

نور الشريف من فيلم سواق الأتوبيس
نور الشريف من فيلم سواق الأتوبيس

يجعل ذلك كل أبطال عاطف الطيب على الحافة، لأن غُربتهم في وطنهم، والحرب خلت من وضوحها ونُبل أهدافها وبساطة عدوها لتصير حربًا داخلية في نفس أفراد يرفضون التسليم بالواقع الجديد، ولا يملكون في فرادتهم المسكينة دفء جيشهم القديم المُستعد للموت فداء المعنى، أفراد وحيدون تركوا كتائبهم وشهداءهم وعادوا لوطن يلفظهم، لهذا يكون الانفجار حتميًا.

شعرية التكنيك وقبح الواقع

سُئل عاطف الطيب في

لقاء تلفزيوني

عن مُعادلتين، مُخرج ذو تكنيك فني مُمتاز يملك موضوعًا عاديًا، ومُخرج ذو تكنيك فني عادي يملك موضوعًا صادقًا وثريًا، أيهما أقرب للنجاح؟

يُجيب عاطف دون تفكير:

أنا بعتبر إن المخرج مهواش تكنيك المخرج أساسًا مفكر، ولو فكره مش بيظهر من خلال فيلمه فالتكنيك مش هيبقى هو اللي بيقدمله العذر عن ركاكة الموضوع، مهم المخرج يبقاله رؤية واضحة للمجتمع ورؤية واضحة لنفسه هو عايز ايه من دنيته؟ وبعد كدا حتى لو هو سينمائي عادي، الشخصيات هتكون صادقة وهتعيش.

ينتمي عاطف الطيب لتيار الواقعية الجديدة، لكنه يُصنف من نُقاد كُثر أنه أكثر رواد التيار واقعية وفقرًا في التكنيك الفني، يُغلف داود عبد السيد حبكته بفلسفة غائمة، ومجازات ساحرة، يملك محمد خان شعرية ورقة بطلاته الإناث تمنح حكاياته جمالياتها، وخفة خيري بشارة يُمكن تذوقها في كل ما يصنع، أما عاطف الطيب أفلامه واقعية بشكل مُستغن كليًا عن كل إمكانات الكاميرا في التجميل والفلترة.

عاطف الطيب مع بشير الديك ومحمد خان
عاطف الطيب مع بشير الديك ومحمد خان

خلال تصوير فيلم «ملف في الآداب»، يُصر الطيب أن يلتقط مصوره الأثير سعيد الشيمي صورة واضحة للافتة «شركة المصنوعات المصرية» بينما الأسرة في الفيلم تلهث في الشوارع بعد شراء حاجياتها، يُخبره الطيب أن تلك الشركة كانت تقدم بطاقات كساء شعبي، والواقع يفرض على شخوصه أن يتجهوا لها للشراء، والفيلم لا بد أن يحفظ تلك الحقيقة اليومية البسيطة للأبد.

شركة بيع المصنوعات من أحد أفلام عاطف الطيب
شركة بيع المصنوعات من أحد أفلام عاطف الطيب

لا تهتم سينما الطيب بتجميل الواقع أو تغليفه في شعرية مُخففة، إنما الإمساك بتلابيبه ومُساءلته، وفي تلك المُساءلة لا بد أن يتبدى قُبحه كاملًا.

يتبدى هذا الواقع الفقير في فنيته والثري في دلالته في الكاميرا اللاهثة في فيلم «حُب فوق هضبة الهرم»، فيلم يحمل عنوانه لفظ الحب وأبطاله عاشقان شباب، لا يجدون مساحة واحدة في الواقع تمنحهم الشعرية، الواقع مُصادر بالكامل ومُسلط عليهم بحراسه وعيونه الخانقة لكيلا يُمارسا لحظة حب واحدة، لا تهدأ الكاميرا في هضبة الهرم الفسيحة، يظل الكادر ضيقًا قلقًا، لا يوثق عاطف الطيب جمالية الحُب، إنما الهروب به من قبح الواقع كأنه جريمة، وبالفعل لا تهدأ الكاميرا ويتوقف اللهاث إلا في عربة الترحيلات، ينتصر الواقع ويُسجن الحبيبان، يُطلان على الواقع من كوة ضيقة ذات قضبان بينما المُحب يبتسم ويخبر حبيبته، أنه سوف يُطالب بأن يتزوجا في زنزانة واحدة!

من فيلم الحب فوق هضبة الهرم - إخراج عاطف الطيب
من فيلم الحب فوق هضبة الهرم – إخراج عاطف الطيب

في أفلام عاطف الطيب لا يُمكن أن يمنح الواقع شعرية، إنما الشعرية أسيرة وجدان أبطاله، مثلما حقيقة ونبل عالمه أسيرة ذاكرته الماضية قبل النكسة والحرب والإنفتاح، كل أبطاله مُغتربين يحملون في دواخلهم ذكرى مجتمع كان أكثر نبلًا وأقل توحشًا، نلتقط تلك الحالة الاغترابية بخفة في فيلم «الهروب»، البطل مُنتصر، شرس، متوحش، عاقد العزم، لا تحمل ملامحه أي ذرة غفران، لكن في قلبه جنة، هو فيها بعد طفل ينام بسلام في حقول قرية «الحاجر»، طفل يخاف أن يُدخن في حضور أمه، طفل يهرب ويُحول محاكمته لجحيم ليمنح أمه عناقًا أخيرًا قبل دفنها.

من فيلم الهروب
من فيلم الهروب

بينما في «سواق الأتوبيس» نجد الشعرية رهينة لحظات عابرة في كادر حالم يتذكر فيها حسن سنوات طفولته وهو يلعب على درجات سلم منزله، في «البريء» لا نتعرف على براءة سبع الليل إلا في لحظات عزف الناي المٌختلسة، لحظات خاطفة لشخوص أفلامه ينتزعهم بعدها الواقع بقسوة منها، الشعرية في عوالم الطيب، تنتمي للماضي، لذاكرة شخوصه، هي ما يُرسخ اغترابهم، وهي وقود سعيهم لاستعادة هذا الواقع بالتمرد والثورة والانفجار أخيرًا.

من العدو في سينما الطيب؟

تجرعت هزائم التجربة الناصرية وانكساراتها، هُنت مثلما هان كل شيء، وسقطت كما سقط الجميع





ضد الحكومة

في أفلام عاطف الطيب، يخوض الأبطال دومًا رحلة ظاهرة في شوارع المدينة ورحلة باطنة في الجحيم، في فيلم ليلة ساخنة وسواق الأتوبيس وكشف المستور، نجد الأبطال دومًا عالقين في سيارتهم، يُدركون طرق مدينتهم عن ظهر قلب ومع ذلك طابع رحلتهم هو التيه!

كان انتماء الطيب الأول هو للتوجيه المعنوي في المؤسسة العسكرية، انتماء سيؤسس عاطف السينما خاصته بالانقلاب عليه، لهذا نجد في أفلامه كل شخوصه تنتهي لانقلاب تام على منظومة الامتثال التي تضمها، ينقلب «سبع الليل» على قادته في معسكرات الأمن المركزي، ويُسخر المحامى «مصطفى خلف» روب المُحاماة لمحاكمة منظومة القانون التي ينتمي لها، بينما رجال الشرطة يُحققون عدالتهم بشريعة الغاب التي تُحاربها مؤسساتهم في «كتيبة الإعدام». هذا يجعلنا نتساءل من العدو في أفلام عاطف الطيب؟


لا تتعلق نكسة 67 -التي شكل جرحها العميق تيار الواقعية الذي ينتمي له عاطف- بالهزيمة العسكرية، لا تخلو أمة تقريبًا على وجه الأرض من هزيمة عسكرية في سجلها، إنما جرحها العميق يأتي من شكل الهزيمة، من تخلي القيادة عن جنودها في صحراء مكشوفة، ليتم اصطيادهم كالذُباب، ليعود الناجون منهم مُكللين بعار لا يفهمونه.

تلك لحظة انحفرت في الوجدان الجمعي لشعب كان يعبد قائده ويؤمن بتجربته، لماذا حدثت الهزيمة بهذا الشكل؟ ولماذا تخلت كل قيادات الوطن عن أبنائه؟

عاد عاطف الطيب من الحرب بسؤاله، توجهت بنانه به نحو القيادات في كل صورها، كل أبنية السُلطة التي سمحت بأن يترعرع في أرجاء الوطن كل هذا الفساد، لم تنج سُلطة واحدة من المُساءلة في أفلام الطيب، ولم تظهر سُلطة واحدة بشكل يدعو للثقة، السُلطة دومًا تطعن بطلها في الظهر، لا تؤطر أفلام عاطف الموت البطولي الذي شاهده مرارًا في الحرب، لبطل يموت برصاص عدوه، بل الموت التراجيدي الإغريقي الذي يُشبه طعنة بروتس لقيصر، يموت مُنتصر برصاص السلطة لكن يموت جواره الضابط الريفي، يموت برصاص السلطة التي ينتمي لها، التي اتخذت من مُنتصر قربانًا إعلاميًا لغسل عوارها، تموت «سلوى شاهين» في «كشف المستور» برصاص السُلطة ذاتها التي خدمتها مرارًا بجسدها، ويموت «سبع الليل» في مواجهة مع السلطة التي التهمت براءته. بينما «سيد» في «ليلة ساخنة» بعدما يُقرر أخيرًا فعل الصواب وتسليم أموال لا تخصه للسلطات، تُلفق له الشرطة تُهمة السرقة والقتل.

أحمد زكي وعبد العزيز مخيون من فيلم الهروب
أحمد زكي وعبد العزيز مخيون من فيلم الهروب

سؤال عاطف الطيب مُجتمعي والمُتهم فيه هو السلطة بكل أشكالها، لا تخلو أفلامه من الأفاقين والقتلة وتجار المخدرات والسارقين، لكن لا يخلق وجودهم أي غرابة، مثلما لا يخلق وجود العدو غرابة في ساحات الحرب، أما الغرابة والرعب فيأتيان من سلطة تسمح بكل ذلك وتخلق تآلفها معه وترتبط معه بمصالح تستديم وجوده.

جنة المُهمشين والمطرودين من الفردوس

ترتاب أفلام عاطف الطيب في السلطات وفي التيارات الدينية المُتشددة وفي كل ما يُملي على الإنسان حدود سجنه، ينحاز للمُهمشين طبقيًا وحتى المطرودين من جنة الإجماع الأخلاقي، فالعاهرة دومًا في أفلامه أكثر صدقًا وطمأنينة من الجميع، لأن عريها المفضوح يُعفيها من سمات النفاق والمٌداهنة التي تسيدت مشهد المجتمع كاملًا.

تبدو «سلوى شاهين» في دور العاهرة التي تقوم برحلتها الجحيمية لعالمها القديم في فيلم «كشف المستور» أكثر صدقًا من كل السلطات التي استغلتها، بينما «حورية» في دور العاهرة بفيلم «ليلة ساخنة» تبدو أكثر حنوًا وإنسانية من كل الشخصيات الليلية المخيفة التي قابلها السائق «سيد» في رحلة واحدة بالقاهرة فضحت له مُجتمع مُتحلل، يعمل فيه الشاب المتعلم سائس سيارات ويسد فيه البلطجية نهر الشارع ويجرحون سيارته باسم التدين، في ليل موحش تبدو العاهرة أكثر صدقًا وحنوًا من أضواء القاهرة الزائفة ووحوشها السكارى أو المتزمتين أخلاقيًا، بينما الراقصة في فيلم «الهروب» تبدو أكثر حُبًا وإخلاصًا لمنتصر في هروبه من زوجته التي تخلت عنه.

نبيلة عبيد من فيلم كشف المستور
نبيلة عبيد من فيلم كشف المستور

في مجتمعات النفاق يرى عاطف الطيب أن العاهرة أكثر صدقًا والمُهمش المطحون غير المُكترث به هو أكثر فئات المجتمع قابلية للانفجار وهو ما يحدث دومًا في النهاية.

مشهد ختامي تؤطره الموسيقى

إننا نعيش في واقع تغمره الأحزان اليومية، أنا أسجل تلك الأحزان وناسها، وأحاول بقدر المُستطاع الغوص في أعماقهم والطرق بود حنون على متاعبهم، هذا هو هدفي





عاطف الطيب

خلال سير «عاطف» المُتمهل مع حبيبته وزوجته الوحيدة «أشرف»، يقطع نُزهتهما دومًا بمُصافحة شرطي المرور وبائع الصحف دون مناسبة، تسأله حبيبته عن السبب فيُخبرها أنه يُخرج بتحيته الأفراد من عاديتهم ورتابة مهنتهم اليومية، يمنحهم عين تُشاهدهم وتقف لأجلهم مُمتنة لدورهم، تلك المعاينات الإنسانية سيُخلدها عاطف في السينما خاصته، سيكون أبطاله سائق وموظف وجُندي بسيط، سوف يتسيدون الحكاية كاملة، سيكونون أبطالها، بينما ستكون علامة عاطف الأثيرة في أفلامه هي حضوره العابر ككومبارس في الخلفية، يعكس عاطف الآية كاملة، يصير المخرج الشهير مار عابر في الهامش، والبسطاء أبطال المتن.

عاطف الطيب وأفلامه
عاطف الطيب وأفلامه

يقول صديقه المصور «سعيد الشيمي»، أن الطيب كان ينقل انحيازات أفلامه الأخلاقية لواقعه، وكان نبله الشخصي يٌشبه نبل شخوصه ومثالياتهم.

بينما يٌشتهر عنه التزامه الصارم بجدول عمله الذي تجرعه من عمله كمساعد مخرج في الأفلام الأجنبية وتحت قيادة أساطير بحجم «شادي عبد السلام» إلا أنه دومًا ما كان يستعين بعمال تصوير عجائز لا يجدون عملًا، يثقلون ميزانية أفلامه لكنه يقدم لهم مساعدته المادية في صورة أجور رمزية تحفظ لهم تعففهم.

لم يشتر عاطف الطيب في حياته إلا سيارة واحدة، يفضي لصديقه بحزنه عندما يرتاح في سيارته بينما جموع المواطنين حوله مُكدسة في حافلة عامة، كان يكره هذا الانفصال المريح الذي تصنعه سيارته، يخشى بالوقت أن تتحول المسافة الطبقية والمكانية بين مقعده المريح وشخوصه الأثيرة في الحافلة لانفصال له عن الواقع يُعجزه عن خلق السينما التي يُحبها.

في 13 عامًا فقط، قدم عاطف الطيب 21 فيلمًا ليكون أغزر رواد الواقعية الجديدة إنتاجًا، بعد محمد خان الذي عاش بعده عشرين عامًا، كان عاطف الطيب يٌسابق موتًا لا يراه أحدًا سواه، يُخرج أفلامه وهو على حافة النوبة القلبية، يعمل 20 ساعة يوميًا حتى تخور قواه، يُحفزه سؤال قلق وانحياز حنون وأحزان يومية تُطبق على نفوس شخوصه كل يوم أكثر من سابقه.


يقول المخرج «محمد ياسين»

أن آخر كلمة قالها عاطف الطيب قبل دخوله غرفة العمليات وموته أنه يسمع موسيقى جميلة، شعرية، لم يسمع مثلها من قبل، موسيقى لم يسمعها أحد سواه، كانت تلك علامة موته أو ربما عالم آخر أكثر عدالة ورقة يُناديه من قبح واقعه، أو ربما شعرية تنبع من داخله، تحفظ لقلبه نُبله وتوقد ثورته، مثلما نبعت الشعرية دومًا من قلب شخوصه ولم يرها سواهم.