بخمسين دينارًا فقط، باعه تاجر المماليك الخواجا محمود، إلى السلطان الأشرف برسباي (1422م-1437م). ماتَ برسباي وخُلِع ابنه العزيز يوسف (1437م-1438م)، فضمّوا المملوك “قايتباي” إلى بيت المال. وقُدِّرَ له أن يشتريه السلطان الظاهر جقمق (1438م-1453م) من بيت المال ويعتقه ويجعله من مماليكه الخاصكية (المحيطين بالسلطان للخدمة والحراسة). وفي عهد الأشرف إينال (1453م-1460م) أُنعِمَ عليه برتبة «أمير عشرة»، ثم رُفِعَت رتبته إلى أمير طبلخانة (أمير عدد لا يقل عن أربعين مملوكًا وتُقرَع الطبول عند تحركه تحية له)، في عهد الظاهر خشقدم (1460م-1467م)، الذي ولاه أيضًا وظيفة شاد الشراب خاناه (المسئول عن أشربة وأدوية السلطان)، قبل أن يرفع رتبته مجدّدًا إلى مقدّم ألف. وخلال ثلاثة أشهر من عام 1467م، هي كلّ عهد الظاهر يلباي، صار «قايتباي» رأس نوبة النوب (المسئول الأول عن نوبات خدمة حماية السلطان وكذلك إعاشة مماليكه والإشراف عليهم في القلعة)، وخلال ثلاثة أشهر مشابهة من العام التالي، هي كلّ عهد الظاهر تمربغا، أصبح «قايتباي» أتابكًا للعسكر.

المملوك الذي سيُدعى بعد سنوات، بـ«الملك الأشرف أبوالنصر سيف الدين قايتباي المحمودي الظاهري». «المحمودي» نسبةً إلى التاجر الذي جلبه أولاً، و«الظاهري» نسبةً إلى مُعتِقه لاحقًا السُلطان الظاهر جقمق.


مميّزات شخصيّة لافتة

أمر غريبٌ، بمقاييس عصر المماليك، أنّ “قايتباي” منذ تأميره إلى سلطنته لم يتعرض لأية مِحَن من اعتقال أو نفي أو مصادرات، على غير عادة ما كان يجري مع غيره من الأمراء والسلاطين. ورغم بطء ترقّيه في الرتب والمناصب في بدايات حياته، إلا أنه فجأة صار سريع الحركة صعودًا، منذ حصوله على رتبة «أمير عشرة»، لدرجة أنه صار في السلطنة خلال تسع سنوات فقط.



بتولّيه السلطنة، أنهى قايتباي مرحلة من الفوضى في تاريخ المماليك، وقدّم أنموذجًا ناجحًا غير مألوف للسلطان المملوكي القويّ

كانت الفوضى شعار المرحلة التي ابتدأت بوفاة الظاهر خشقدم سنة 1467م، وانتهت بتولي قايتباي السلطنة سنة 1468م. فقد تسلط الأمير خير بك الدوادار على الحكم، ولكنه فضّل في بداية الأمر أن يضع سلطانًا ألعوبة، فكان «يلباي»، بينما يحكم هو من وراء الستار، ثم بعد أن انتهى الغرض من يلباي خلعه ووضع محله «تمربغا»، ثم طرأ له أن يخلع هذا الأخير ويتسلطن هو فرفع نفسه على كرسي الحكم وتلقب بالسلطان الظاهر، (القاهر في رواية أخرى)، ولكنه فوجيء في اليوم التالي بـ«قايتباي» والأمراء والجند يخلعونه ليُحمَل إلى السجن ثم إلى المنفى، وليوصَم أبدًا بلقب «سلطان ليلة».

يقول مؤرخ العصر المملوكي ابن إياس الحنفي، في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» إن قايتباي حين أعلمه الأمراء باتفاقهم على سلطنته أعرض وتشدد في الإعراض، حتى أنه بكي وهم يلبسونه خلعة السلطنة (الزي والعمامة الأسودان، كشعار للخلافة العباسية التي كانت قد انتقلت قبل قرنين تقريبًا للقاهرة)، واشترط من البداية ألا يفرق على الجند «نفقة البيعة» وهي مبلغ من المال كان يوزعه عليهم كل سلطان فور توليه الحكم. ثم عُمِلَت الصورة الشرعية لخلع تمربغا من السلطنة بشكل رسمي – إذ كانوا لم يعترفوا بخلع خايربك له ولا بسلطنته نفسه-، وأحضر قايتباي تمربغا بين يديه – وكانت بينهما زمالة قديمة- فبكى الصديقان تأثرًا بالموقف، وترفق السلطان بسلفه المخلوع واعتذر له عن خلعه بأن الظروف ألجأته إليه، وأبدى تمربغا التفهُم، ثم انتقل إلى دمياط معززًا مكرمًا، وجلس قايتباي على العرش وهو ابن خمس وخمسين عامًا.

عُرِف «قايتباي» بنزعة دينية تصوفية، واعتقاد بالأولياء والزاهدين والصالحين، وكان يجلّ الفقهاء خاصة مع اهتمامه بالعلم وميله الشخصي للمعرفة والاطلاع في أمور الدين. كما عُرِفَ بإجلاله للمشايخ الكبار أمثال أمين الأقصرائي وجلال الدين السيوطي، حتى أن خطيب مسجد القلعة كان ربما بالغ في نقده في خطبته وتخويفه من حساب الله، فيرتعد السُلطان رهبة وربما أغشى عليه، بل وكان يسارع لتقبيل يد الخطيب وشكره على وعظه وإن كان قاسيًا.

وكان متواضعًا للناس؛ حتى أنه مر يومًا بامرأة غريبة ماتت ولا يوجد لها أقارب، فأوقف ركبه ونزل عن جواده وصلّى عليها. كما كان متشددًا في التزامه الديني حتى أنه كان قد توجه للصلاة على مملوك له سقط عن مبنى فمات، فلما عرف أنه كان سكرانًا رفض الصلاة عليه.


«قايتباي» وتحديات الداخل

– 1- تحدّي الأمن والسياسة الداخلية

خالف قايتباي سُنّة سلاطين المماليك في قمع التكتلات الموالية لأسلافهم، حيث كانوا ينهالون على من بها قتلًا ونفيًا حتى يصفو الجو للموالين لهم فقط. أما السلطان الأشرف فعلى العكس من ذلك، سعى لتأليف قلوب مختلف الفئات، وكان أشدها شوكة حزب الإينالية (مماليك السلطان إينال).



مثّلت تكتلات المماليك متنوّعة الولاء، والمماليك الجلبان، وقبائل العربان، تحدّيات أمنية وسياسية أمام قايتباي، الذي تعامل معها بما يناسبها

وعبثًا، حاول السلطان اجتذابهم لصفه، وتقريبهم إليه، بل وكان يحرص على إشغالهم بالمشاركة في حملاته العسكرية – نحو ستة عشر حملة- وتوليتهم المهام والوظائف، لكنهم بقوا على التدبير عليه سرًا، إلى حد نشر الشائعات ومحاولات الوقيعة بينه وبين أمرائه المقربين – مثل يشبك الدوادار-، بل ومحاولة اغتيال السلطان نفسه وبعض أمرائه، الجرم الذي أدين به أحد كبارهم – الأمير أزدمر الطويل- والذي تجاوز عنه السلطان واكتفى بحبسه في أسيوط؛ لولا أن ألح الأمير يشبك في قتله فكان ذلك.

كذلك واجهته مشكلة المماليك الجلبان، (المجلوبون كبارًا من الخارج)، حيث كثر شغبهم واعتداؤهم على العامة وسلبهم إياهم أشياءهم بالقوة، بل وتطاولهم على الأمراء والسلطان نفسه، بحجة تأخر النفقة.

ومن خارج الوسط المملوكي، كان شغب العربان (الأعراب) الذين كانوا يتمردون على السلطة المركزية ويمارسون قطع الطرق ويشنون الغارات على القرى والبلدات المجاورة، بل وعلى ضواحي القاهرة نفسها أحيانًا لممارسة السلب والنهب.

اتسم تعامل «قايتباي» مع تلك الأزمات الأمنية بالسرعة والحزم، فاعتمد على يده الباطشة وخشداشه (رفيقه في التدريب تحت يد نفس الأمير المالك لهما قبل العتق) «يشبك الدوادار»، فسلطه على عربان الصعيد والشرقية والبحيرة حيث دوخهم قتلًا وأسرًا لقمع فسادهم، وبلغ به الأمر أن عينه السلطان أميرًا لقبيلة الهوارة بدلًا من أميرها الذي خلع الطاعة وهرب!

في نفس الوقت كان يتعامل مع الجلبان باللين تارة وبالشدة تارة، حتى بلغ الأمر أن خرج عليهم بغتة في إحدى نوبات شغبهم وصاح بهم «هأنذا أمامكم إن كنتم تريدون قتلي» فأخافتهم الصدمة وارتدوا إلى ثكناتهم إلى حين. ثم في واقعة شغب تالية أظهر لهم «العين الحمراء» فنادى في الجند بالتجهز للقتال وحمل السلاح، وأعلن أنه قائم بنفسه في محاربة الجلبان ومعاقبتهم بالقوة، فخافوا وارتدعوا مؤقتًا وخف ضررهم ولكنهم بقوا على مشاغباتهم تلك إلى نهاية الدولة.

أما الإينالية فقد طال صبر السلطان عليهم، حتى استهلك كل الحيل في تأليف قلوبهم واجتذابهم، فأصبح يتخلص منهم بالنفي والإرسال لحملات بعيدة ليخرجهم من البلاد دون أن يضطر لإراقة الدم.

– 2- تحدّيات الاقتصاد المحلّي

لم تقتصر التحديات الداخلية على الجانب الأمني فحسب؛ فمن الناحية الاقتصادية كانت تواجه السلطنة ضوائق مالية متتالية، خاصة مع تصعيد قايتباي لحملاته العسكرية الخارجية، مما كان يضطره – وهي سمة مرتبطة بعهده ومحسوبة من أبرز سلبياته- لفرض المصادرات على بعض أموال كبار التجار لتمويل تلك الحملات، وإن كان أحيانًا يعيد تلك المبالغ لهم حال سماح خزينة الدولة بذلك.



استهلكت حملات قايتباي العسكرية 7 ملايين دينار، وهو ما شكّل تحديًا اقتصاديًا هائلاً أمامه، إضافة إلى تحدّيات ضبط السوق المحلّي

أيضًا، فقد كان يعقد المجالس الشرعية بقضاة المذاهب الأربعة ليطلب منهم قرارًا رسميًا بضم فوائض الأوقاف للخزانة السلطانية، ولكنه كان عادة ما يواجَه بمعارضة أقوياء الشخصية منهم، ولأنه – قايتباي- كان متدينًا ذا اعتقاد تصوفي فقد كانت من نقاط ضعفه هيبة الفقهاء، فكان لا يستطيع تجاوز من يتصدى له منهم بالذات الشيخ أمين الأقصرائي، الذي يذكر عنه أنه حضر مجلسًا بهذا الشأن وافق فيه الجميع قرار السلطان فوقف له الشيخ وعطل قراره، بل وربما أغلظ عليه فانفض المجلس.

كذلك، فقد اتخذ إجراءً رآه المعاصرون له قاسيًا جائرًا – بينما يمكن تقبله بمقاييس عصرنا هذا-، وهو قطع نفقة طبقة «أولاد الناس». وأولاد الناس هم الأبناء المولودون في مصر لمماليك جاءوا صغارًا من الخارج، فكانت في بداية الدولة من الفئات المكونة للجند في الجيش، ثم تراخى أمر مشاركتها في ذلك، ولكن بقي أبناؤها يحصلون على نفقة رسمية من الخزانة، فأبطل قايتباي ذلك وجمع «أولاد الناس» وألزم كلا منهم أن يظهر مهارته في الرماية، فمن نجح أبقى على نفقته وعلى اسمه في ديوان الجند، ومن أخفق رفعه من الديوان وألغى نفقته، بل وكلفه أن يقدم مبلغًا من المال ليتوفر بديل عنه بين الجنود!

يبرر البعض ذلك بكثرة الحملات الحربية وجدية التهديدات من الإمارات التركمانية في شمال الشام وجنوب الأناضول، وكذلك تهديدات الدولة العثمانية لحدود السلطنة، بينما يدين البعض الآخر تلك السياسة المالية ويعزونها لجشع السلطان لجمع المال. ولكن المطالع لكتب مؤرخي تلك الفترة الذين دونوا المبالغ التي تكلفتها كل الحملات يدرك أن هذا المال كان موجهًا بالفعل للمجهود الحربي، حيث استهلكت حملات قايتباي نجو 7 ملايين دينارًا – وهو مبلغ مخيف بمعايير هذا العصر-، وهي حملات لم تكن بالعبثية بل كانت – بحق- من عوامل ردع المعتدين عن العبث بأمن حدود البلاد.

أما التحدي الاقتصادي الآخر، فتمثل في موجات الغلاء التي كانت تظهر من حينٍ لآخر، بالذات فيما يتعلق بسعر القمح، ولكن السلطان كان يواجهها بأن يفتح شونه الخاصّة ويبيع منها القمح بسعر رخيص مدعم، كذلك كان يوجه المحتسب لمداهمة محتكري القمح ومعاقبتهم على الملأ لينخفض سعره.

– 3- الصمود أمام الطاعون

التحدي الداخلي الثالث الذي يفوق التحديين سالفي الذكر خطورة ومأسوية، كان الطاعون؛ فخلال ثلاثين عامًا – فترة حكم قايتباي- داهم الطاعون البلاد ثلاث مرات. المرة الأولى كانت سنة 1469م – في بدايات حكمه- واختطف ممن أصابهم ابن السلطان (4 سنوات) وابنته (6 سنوات)، كما أسقط أعدادًا ضخمة من الضحايا إلى حد اضطرار الأمير يشبك الدوادار للقيام بعمل مَغسَل للموتى شارك فيه في تغسيلهم ودفنهم بنفسه.

المداهمة الثانية كانت سنة 1477م، وفقد فيه السلطان أخته، وكان طاعونًا فاتكًا سريع القتل يقضي منه المصاب في يوم واحد. وكانت المرة الأخيرة سنة 1492م، وكانت الأشد وطأة، إذ خلّفت مئتي ألفً قتيلٍ من أهل مصر!

ومع ذلك، ورغم مصابه الشخصي في طاعونين من الثلاثة، فقد استطاعت الدولة التماسُك، واستطاع المجتمع أن يرجع للحياة الطبيعية من بيع وشراء ومعاملات ونحو ذلك، رغم أن هذه الطواعين كانت تفتك – فيمن تفتك بهم- بكثير من الأمراء ورجال الدولة.


التحديات الخارجية أمام «قايتباي»

1. الإمارات التركمانية الشمالية:

في شمال السلطنة – حدود الشام مع الأناضول ودولة المماليك مع الدولة العثمانية-، وُجدت إمارات تركمانية موالية للقاهرة مثلت حاجزًا بين العملاقين المملوكي والعثماني، ومخلب قط لسلاطين المماليك ضد أية تهديدات شمالية محتملة.



وقعت بين سلطنة المماليك وإمارات التركمان صدامات عسكرية ضارية تخللتها مراسلات ومفاوضات تكللت باتفاق الهدنة

تمثل التحدي الخارجي الأول في عصيان «شاه سوار» أمير إمارة «دلغادر» (المعروفة أيضًا بإمارة ذي القدر)، وكان قد شق عصا الطاعة مستغلًا التصارع السياسي المملوكي الداخلي بعد وفاة السلطان خشقدم. اضطر قايتباي حينها لإرسال ثلاث حملات ضد هذا المتمرد الذي استطاع هزيمة اثنتين منها، قبل أن تكسره الثالثة وتضطره للاستسلام سنة 1472م، ليُنقل للقاهرة ويُعدَم هناك مع إخوته.

أما إمارة «الآق قويونلو/القطيع الأبيض» فقد أظهر أميرها حسن الطويل الطاعة أولًا، ثم كُشِفَ عن تآمره حيث بلغت السلطان أنباء استعداده لمهاجمة الديار الحلبية، ومراسلته القوى الأوروبية لتحريضها على مهاجمة مصر والشام بحرًا، تلك الرسالة التي وقعت في يد العثمانيين فأرسلوها للقاهرة ليتخذ السلطان أهبته للتصدي لهذا المخطط.

وبالفعل، وقعت بين سلطنة المماليك وإمارة آق قويونلو صدامات عسكرية ضارية تخللتها مراسلات ومفاوضات في محاولة من السلطان لإعادته للطاعة، ثم اضطر قايتباي أخيرًا لإرسال حملة ضخمة بقيادة يشبك الدوادار سنة 1480م، إلا أنها تعرضت للهزيمة على يد ابن حسن الطويل – الذي خلف والده بعد وفاته- ولقي يشبك مصرعه فسارع السلطان لإعداد حملة أكبر لولا جنوح الإمارة للتفاوض ووصول الجانبين للتهدئة أخيرًا.

2. العثمانيون:

كانت العلاقات بين الدولتين المملوكية والعثمانية ودية يسودها التفاهم والتوافق، حتى جاء عهد السلطان العثماني بايزيد الثاني ابن محمد الفاتح، والذي كان يتطلع بشراهة إلى الممتلكات المصرية في الأناضول والشام. بدأ العداء بين الدولتين بأن هرب إلى مصر الأمير جُم ابن محمد الفاتح، فرارًا من رغبة أخيه السلطان في قتله تنفيذًا لـ«قانون نامة» الذي أقره والده الراحل والذي يقضي بالسماح للسلطان بقتل إخوته الذكور خشية خروجهم عن طاعته.

طمع بايزيد الثاني في مصر المملوكية، متذرعًا بلجوء أخيه جُم إليها، فأنزل به المماليك أربعة هزائم مدوّيةـ، وتوغلوا في آخرها داخل الأراضي العثمانية

ولأن قايتباي كان معروفًا أنه لا يرد مستجيرًا به، فقد استضاف جُم، مما أغضب بايزيد الثاني الذي اتخذها ذريعة لمحاربة مصر، فجهز حملة لمهاجمة الديار الحلبية، وجهز قايتباي حملة مضادة، وتواجهت الحملتان لتحلّ بالجيش العثماني هزيمة قاسية. بعد تلك الهزيمة مدّ المماليك يد السلام للعثمانيين، إلا أنّ العثمانيين رفضوها وأغاروا على بعض القلاع المملوكية الحدودية، فأرسل قايتباي حملة تالية بقيادة أتابكه القدير أزبك، انتصرت كسابقتها على الجيش العثماني، ثم حملة ثالثة حققت نجاحًا كسابقاتها، ورابعة تالية توغلت داخل الأراضي العثمانية ولم تلق مقاومة من العثمانيين. ثم – أخيرًا- حل السلام سنة 1494م، بين العملاقين بعد أن أثبت المماليك قدرتهم على ردع أية محاولات للعدوان على دولتهم.

3. القرصنة البحرية:

كانت المدن الساحلية – وعلى رأسها دمياط والإسكندرية- عرضة دائمًا لهجمات القراصنة الأوروبيين الذين كانوا يتخذون من ميناء برشلونة بدولة الكتلان (كاتالونيا) قاعدة لهم. فهب قايتباي لتأمين تلك الجبهة، فسارع بإنشاء قلعة بمدينة رشيد، وقلعة – هي الأشهر- بالإسكندرية (قلعة قايتباي حاليًا)، ومد سلسلة عملاقة لحماية الساحل أمامها (منطقة السلسلة حاليًا)، كما قام بالقبض على التجار الأوروبيين بالسواحل وأجبرهم على مراسلة حكومات دولهم لإستعادة أسرى القرصنة من أهالي المدن المصرية وتجارها، وأرسل مبعوثًا دبلوماسيًا لملك كاتالونيا لمطالبته بالعمل على إيقاف القراصنة عن مهاجمة السواحل المملوكية.

وبهذا استطاع قايتباي أن يؤمن الثغور البحرية أسوة بنظيراتها البرّية.

4. المسألة الأندلسية:

وباعتبار أن سلطان المماليك كان دومًا يعتبر نفسه سلطانًا للمسلمين – خاصة مع وجود مقر الخلافة بالقاهرة-، فقد كان لابد لقايتباي من موقف من الحصار الإسباني على غرناطة سنة 1487م.

لما راسل ملك غرناطة دولة المماليك مستنجدًا بها، لم يكُن الحل العسكري متاحًا نظرًا لبُعد المسافة ووقوع المناطق المتوسطة بين الدولتين في أيدي قوى معادية، لذا لجأ السلطان قايتباي للضغط السياسي.

فمن ناحية، أمر قايتباي قسس كنيسة القيامة بمراسلة ملك نابولي لمطالبته بالتدخل عند الإسبان لوقف الحملة على غرناطة، وكان ملك نابولي مرتبطًا بمصالح لدى دولة المماليك، مما يجعله مضطرًا للقيام بهذا الدور. كما أمر السلطان رئيس دير صهيون بالقدس – وكان إسبانيًا- بالسفر لحث ملك نابولي على سرعة أداء المطلوب منه، ثم السفر لبابا روما وإنذاره أن الحكومة المملوكية سوف تتخذ إجراءات قاسية ضد الرهبان الفرانسيسكان التابعين للبابا، كما هدد بإغلاق كنيسة القيامة والأديرة الكاثوليكية. ومع انتشار الأنباء عن توافق قايتباي مع بايزيد الثاني العثماني، على إرسال حملة مشتركة لنجدة الأندلسيين، سارع كلٌ من ملك نابولي والبابا بمطالبة فرديناند وإيزابيللا – ملكا إسبانيا- برفع الحصار عن غرناطة، إلا أن الملكين ماطلا وأصرا على موقفهما خاصة مع جنوح حكومة غرناطة سنة 1492م للاستسلام. وهكذا فشلت مساعي قايتباي ولكنها كانت أقصى ما يملك فعله.


الرقابة الداخلية والانشاءات

كان قايتباي – رغم تقدم سنه وتعرضه لكسر عنيف بقصبة ساقه وآخر بفخذه خلال لعبه البولو-، معروفًا بالنشاط الواضح والحركة المستمرة، سواء بجلوسه للمظالم يومين أسبوعيًا، أو بجولاته المتعددة بين المدن المصرية والشامية والحجازية للوقوف بنفسه على أوضاعها وإصلاح ما ينبغي إصلاحه بها. بل واشتهر بأنه كان كثيرًا ما يتنكر ويهبط من قلعة الجبل ليجوب الأماكن العامة ويستمع لأحاديث الناس ليقف على مدى التزام موظفي الدولة بأداء مهامهم بشكل متقن وعادل ونزيه. وكان كثيرًا ما يستمع إلى شكوى من هذا أو ذاك فيستدعيه في الصباح التالي ويحاسبه، بل وربما احتد عليه وعاقبه بنفسه. المثير للدهشة أنه استمر في ذلك طوال عهده، حتى بعد أن تجاوز الثمانين من عمره!

وكان في جولاته يميل للتخلي عن الرسميات من مواكب وتشاريف – بينما كان يحرص عليها في حضور السفراء الأجانب لإظهار هيبة الدولة-، وكان يميل للتخفف من الحراسة الثقيلة وهو أمر يستغربه العالم بتلك الفترة المتوترة التي اتسمت بالتآمر والتآمر المضاد.

وكان لديه ولع بالبناء والتشييد، فكان يشيد القلاع – وأشهرها قلعته بالإسكندرية-، والسُبُل للسقيا – وأشهرها سبيله بالمسجد الأقصى-، والمساجد – وأشهرها مسجد قايتباي الذي يحمل الجنيه المصري الورقي رسمه-، كما أنشأ المدارس والمقابر وجدد عمارة المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة.


و.. نهايةٌ مُحزنة لآخر المماليك العظام



حاول قايتباي التعامل مع المسألة الأندلسية بالحيلة والضغط السياسي، نظرًا لعدم إمكانية الحل العسكري

تمتع السلطان قايتباي بصحة جيدة وقوة بدنية واضحة ساعدته على القيام بمهامه بنشاط شديد، لكنه دوهم بوعكة قاسية سنة 1495م، كابر في مواجهتها وحاول مواجهتها إلا أنها مع الوقت – وكأثر عكسي لعدم التزامه الراحة المطلوبة- تدهورت صحته في العام التالي وأصيب بتجمعات من القيح في بطنه كما أصيب بعلّة البطن (دوسنتاريا) حتى عجز عن تناول الطعام، وبدا واضحًا أنه يحتضر، فأحضر الأمراء ابنه محمد البالغ من العمر 14 عامًا، واستدعوا الخليفة والقضاة وأعلنوا خلع السلطان بحكم احتضاره ومبايعة ابنه سلطانًا من بعده، هذا رغم رفض قايتباي تولية ابنه – وكان الوحيد الباقي على قد الحياة- ولاية العهد لعدم رضاه عن سلوكه وما اشتهر به هذا الابن من انحلال وسوء للأدب إلى حد بغض أبيه له.



لم يأتِ بعد قايتباي من هو في عدله إلى حد أن خلفاءه كانوا إذا جلسوا للمظالم لم يجلسوا على كرسيه حفظًا لمكانته وصونًا لذكراه

وفي اليوم التالي، فاضت روح السلطان الملك الأشرف قايتباي، وقد بلغ الخامسة والثمانين من عمره، وكان يوصف شكلًا بأنه طويل القامة، شاحب اللون، ذو بنية نحيلة قوية ولحية شائبة، يعلوه وقار وسكينة. وكان لم يتزوج سوى إمرأة واحدة هي “خوند فاطمة الخاصكية”، ولم يعش له سوى ابنه محمد من سريته “أصل باي”. وكان مشتغلا بالعلم والقراءة إلى جانب السلطنة، كما كان معتدلًا في طباعه، متقشفًا بحكم تأثره بالصوفية، كما ترك بعد وفاته أورادًا يتلوها الناس في المساجد.

وبموت قايتباي سنة 1496م، يكون آخر السلاطين العظماء في دولة المماليك، حيث لم يأتِ بعده من هو في عدله إلى حد أن خلفاءه كانوا إذا جلسوا للمظالم لم يجلسوا على كرسيه حفظًا لمكانته وتأدبًا في ذكراه. وتتابع على العرش من بعده سلاطين ضعاف متهافتون لم يكن بينهم كفؤًا للسلطنة سوى آخر سلاطين المماليك طومان باي الثاني، الذي لم يمهله العمر فأعدمه العثمانيون بعد احتلالهم مصر.


المراجع



  1. عصر سلاطين المماليك: د.قاسم عبده قاسم
  2. دولة المماليك في مصر وبلاد الشام:د.محمد سهيل طقوش
  3. مصر المملوكية: د.هاني حمزة
  4. بدائع الزهور في وقائع الدهور: ابن إياس الحنفي
  5. أهل العمامة في مصر عصر سلاطين المماليك:د.أحمد البطاوي
  6. أطلس تاريخ الإسلام:د.حسين مؤنس