يشهد كل أسبوع تقلبات جديدة في الجيوسياسات المتعلقة بالشرق الأوسط، تقترن بموجات صادمة في سوق الطاقة، لا سيما أسعار النفط..

ومؤخرا، طفت على السطح تلك التهديدات المتعلقة بحصار مضيق باب المندب الحيوي بين اليمن وجيبوتي، مع احتمالات الإخلال بإمدادات النفط العالمية، بالإضافة إلى القرارات السعودية الأخيرة التي شهدت تعديلا في التسلسل الهرمي الملكي.

وتتسم أسعار النفط بطبيعة سريعة التقلب، تتجاوب مع نبضات التخمين، لكنها تستعيد شكلها المعتاد من جديد على المستويين قصير ومتوسط المدى حينما تستقر الأحداث العامة.

من جانبه، قال وزير النفط السعودي الأسبق أحمد زكي يمني: “الديناميكيات السياسية قد تحدث تأثيرا قصير المدى على أسواق النفط، ولكن على المدى الطويل ستعكس الأسعار العرض والطلب، فعندما رحل الملك عبد الله صعدت أسعار النفط لمدة يومين، قبل أن تنحدر مجددا”.

التعديلات الأخيرة في السعودية تنذر بانفصال كبير عن التقاليد المؤسسة، ونقطة تحول في اتجاهات صناعة النفط..

وعلى مدى أكثر من 30 عاما، قادت المملكة السعودية، أكبر دول العالم إنتاجا وتصديرا للنفط، منظمة الأوبك، ولعبت دورا رئيسيا في تنظيم أسعار النفط، عبر طلب من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، من خلال تعديل إنتاجها، للحفاظ على الأسعار التي كانت مرتفعة حتى وقت قريب، وهو سيناريو كان يصب في صالح حقول النفط عالي التكلفة بشمال أمريكا.

لكن السنة الجارية شهدت تحولا زلزاليا بين عشية وضحاها، حيث رفضت السعودية، وهي محقة في ذلك، لعب دور الأرجوحة النفطية.

التحول المذكور هو بمثابة استجابة مباشرة للتحدي الذي تمثله واشنطن في صدارة إنتاج النفط العالمي، لا سيما بعد زيادة إنتاج الولايات المتحدة العام الماضي بنسبة 16 بالمئة، وتجاوزها مستوى 10 مليون برميل يوميا.

حقيقة أن كلا من الولايات المتحدة وروسيا زادتا إنتاجهما النفطي، بشكل ملحوظ، في السنوات الأخيرة، في وقت كان فيه إنتاج أوبك مستقرا عند مستوى 30 مليون برميل يوميا يلقي باللائمة مباشرة، بشأن الانهيار الحديث في أسعار النفط، على عاتق صاحبتي أكبر اقتصاديات العالم، ومليارديرات النفط الصخري.

وحدثت تغييرات جذرية في نظام السلطة بالعائلة الملكية السعودية، حيث انتقل خط التوريث من جيل إلى آخر، بعد أن عين الملك سلمان بن عبد العزيز ولي عهد جديد، كما عين وزير خارجية من خارج آل سعود للمرة الأولى.

وفي خطوة قد تؤثر على صناعة النفط، أصبح رجل الأعمال السعودي الشهير خالد الفالح رئيسا لمجلس إدارة شركة البترول أرامكو بدلا من وزير النفط علي النعيمي.

خالد الفالح رئيس مجلس ادارة أرامكو

خالد الفالح رئيس مجلس ادارة أرامكو

وفي ذات الأثناء، تتسبب حرب اليمن في زيادة العجز المالي للمملكة عام 2015 إلى مستوى 38 مليار دولار. ورأى محللون إن الرياض تحتاج أسعار نفط تناهز 80 دولارا للبرميل، من أجل إحداث توازن مالي، وهو سعر لا يحتمل تحقيقه في الوقت الراهن، في ظل حالة التشبع التي تتسم بها السوق.

ومع ذلك، تستمتع المملكة السعودية بوضع مالي أفضل مقارنة بأقرانها في أوبك، رغم أن الحكومة بدأت تسحب من احتياطيها النقدي للحد من تأثيرات أسعار النفط المنخفضة خلال وقت الحرب.

لكن ذلك الإجراء تسبب في انخفاض الأصول المالية السعودية من رقمها القياسي الذي تحقق في منتصف 2014، والبالغ 737 مليار دولار، إلى 707 مليار دولار في الربع الأول من العام الجاري.

العديد من خبراء النفط والغاز والمحللين السياسيين يتوقعون أن تسير الأمور كالمعتاد، ولا يعتقدون أن المملكة لم تعد مستعدة للعب دور القوة المؤرجحة.

وحتى قبل انعقاد قمة الأوبك التالية في يونيو المقبل، يدعو بعض أعضاء المنظمة إلى خفض الإنتاج من أجل رفع الأسعار، وزيادة الإيرادات الحكومية، لكن ما زالت الرياض تلتزم الصمت.

وتعلم المملكة تمام العلم أن إنتاج العالم النفطي يعلو فوق الطلب، وأن الاستثمارات النفطية الأمريكية ما زالت قادرة على إنماء إنتاجها النفطي خلال عامي 2015 و 2016، بالرغم من التناقص الدرامي في عمليات الحفر.

انخفاض الربع الأخير غير المتوقع في معدل النمو الاقتصادي الأمريكي والأوروبي يبدو أنه سيؤجل أي إحياء ملحوظ للطلب على النفط، لذلك فإن تعديل الإنتاج المطلوب لاستعادة الأسعار لمستوى 80 دولار للبرميل خارج النطاق السعودي، إذ قد قد يلحق ضررا ملحوظا بالإيرادات، وينعكس سلبا على الاقتصاد.

إذا أرادت شركات النفط الدولية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة رفع الأسعار، سيتعين عليها النظر إلى ذاتها أولا، واتخاذ قرار بتخفيض إنتاجها إذا رغبت في تجنب الخوض في حرب أسعار في سوق راكدة.

الجدير بالذكر أن تلك التصريحات التي تفوه لها ريكس تيليرسون الرئيس التنفيذي لشركة إيكسون موبيل، حيث قال: “صناعتنا مازالت تعاني تحت وطأة سياسات تنتمي لعقلية لسبعينيات القرن المنصرم، نحن في حاجة إلى سياسات تدرك نقطة التحول التي وجدنا أنفسنا في غمارها”.

وبالنسبة لدول الأوبك، التي تستخرج النفط بتكلفة منخفضة، ينبغي أن ترتد عن سياسة الاعتماد على أسعار نفط عالية، والسلبية في تطوير صناعاتها.

ولعل الإمارات هي الدولة الأكثر إبداعا بين دول الأوبك، حيث نفذت استثمارات كبرى في قطاعي الطاقة النووية والمتجددة، ووسعت قدرتها على الإنتاج النفطي والغازي.

هل ستكون الإدارة السعودية الجديدة براجماتية على نحو كاف في سوق نفطية منخفضة الأسعار، وتقرر التركيز على الداخل السعودي، وترفض لعب دورالأرجوحة؟ الوقت سيجيب على ذلك التساؤل، لكن تعيين رجال أعمال وسياسيين من ذوي الخبرة في وظائف رئيسية قد يضع مصالح السعودية أولا، وليس الإذعان لمصالح الطاقة الغربية والأمريكية، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى صيف ساخن، من الجدال والمناقشات.


المصدر

إقرأ المزيد


جلال كشك يقرأ “قيام وسقوط إمبراطورية النفط”


بين آليات السوق والمخاطر السياسية: كيف تؤثر حروب النفط على أسعار العملات ؟


آل سعود وقصة السلطة .. من الذي يحكم السعودية؟


البيت السعودي بين الحاضر والمستقبل: أرضيات النفوذ ونقاط الصراع


محمد بن سلمان: الأمير “اللامع” الذي يقود حرب المملكة الكبرى