يعمد البعض عند تبسيط العلوم إلى الإبهار، وهو أمر حسن إذا استُخدم بصيغته اللائقة، أي: أن يكون مدخلًا لفهم حقيقي مُبسَّط للعلوم.

لن أحيد عن هذا البعض وسأبدأ على الفور بسؤال مبهر – وإن كان مكررًا – كيف يمكننا تحويل الكربون في صورته الرخيصة كالجرافيت إلى ألماس؟ وما العلاقة بينهما؟

الحقيقة أن الألماس (Diamond) هو أحد

صور تواجد عنصر الكربون

، مثله مثل الجرافيت – الذي نجده في قلب القلم الرصاص – ولكنه يختلف عنه اختلافًا جوهريًّا في ترتيب ذرات عنصر الكربون فيما يعرف بظاهرة «التآصل» Allotropy. إذن، هل يمكن تحويل الكربون من إحدى صوره الرخيصة إلى صورته الماسية الثرية؟

نجد إجابة حديثة في

أحد الأبحاث العلمية المحكمة

والمنشورة عام 2019، والتي تعتمد على تقنية التلدين بالليزر النبضي، باستخدام مواد
نانوية ووجود مادة متفاعلة مثل الياقوت، وسيتم ذكر ذلك بالتفصيل بعد قليل.

ربما من المدهش أيضًا أن نعلم أنه
منذ الثمانينيات وهناك طريقة معملية مقترحة لتحويل الكربون إلى ألماس، وتجد ذلك في

بحث بعنوان

«دراسة تحول الجرافيت
للألماس باستخدام النيكل والإنفار والمونيل كمذيبات حفازة»، وقد تم نشره عام 1986،
بل إن هذا الأمر

مطروق
منذ الخمسينيات

.

ما هو التآصل؟

أصغر وحدة – مكتملة بذاتها – تتكون منها المواد هي الذرة. تترابط الذرات – بترتيب محدد – لتكوِّن جزيئات، والجزيئات بدورها تترابط فيما بينها لتشكل المادة الذي نراها بأعيننا.

كلا المستويين: الذرة والجزيء لا
يمكن أن نراهما بالعين المجردة، لكن ترتيب الذرات ثم الجزيئات داخل المادة يُظهِرها
أمامنا بشكل ما وخواص بعينها. تتميز بعض المواد بأن طريقة ترتيب الذرات أو الجزيئات
داخلها قد تختلف. الاختلاف في الترتيب على مستوى الذرات لعنصر بعينه يؤدي إلى ظهور
العنصر في أكثر من شكل فيما يعرف بظاهرة التآصل (Allotropy)، كما هو الحال في مادة الكربون التي تظهر في
شكل الجرافيت أو في شكل الألماس.

أمَّا إذا حدث الاختلاف على مستوى الجزيئات – لمركب كريستالي في صورته الصلبة – ظهرت المادة في أكثر من شكل بلوري، فيما يعرف بظاهرة تعدد الأشكال (Polymorphism)، ولكنها لا تؤدي إلى تغيير في طبيعة المادة كليًّا كما هو الحال في الجرافيت والألماس، وإنما تغير في خواصها التفصيلية طالما أنها في حالتها الصلبة Solid state، ويظهر هذا في أحد أشهر وأقدم الأدوية المسكنة للآلام، الباراسيتامول والذي يوجد منه

أكثر من شكل بلوري

.

إذن، بينما التآصل

ببساطة هو

وجود العنصر في أكثر من شكل نظرًا لاختلاف ترتيب ذراته ما يؤدي لاختلاف طبيعته بشكل جذري، يعبر تعدد الأشكال عن وجود تبلورات مختلفة لنفس المركب – لاختلاف ترتيب جزيئاته – والذي يؤدي غالبًا إلى اختلاف خواص بعينها للمركب في صورته الصلبة.

كيف يتكون الألماس في الطبيعة؟

على

عكس ما يعتقده البعض

، فإن الألماس لا يتكوَّن – بشكل أساسي – من الفحم. تكوين الألماس في الطبيعة يعتمد على عنصرين أساسيين وهما: الحرارة والضغط، شديدي الارتفاع. يتوفر ذلك في طبقات عميقة تحت الأرض، حيث يتشكَّل الألماس، بينما يوجد الفحم في طبقات أقل عمقًا.

كما أن الألماس أقدم في التواجد من نباتات الأرض الخضراء التي تُشكِّل مصدر الفحم نفسه، لذلك فالفحم نادرًا ما يكون المادة الأولية للألماس. ربما كان له دور في تكوين ألماس في طبقات عليا عندما تصادمت كويكبات ما بالأرض، مما أدى لتوليد طاقة هائلة تكفي لتكوين الألماس من مصادر الكربون المتاحة والتي من ضمنها الفحم.

أمَّا ما يمكن أن يُشكِّل مادة أولية لتكوين الألماس بشكل أساسي هو ما حُبس من الكربون في باطن الأرض عند تشكل كوكبنا، أو الذي انتقل إلى أعماق أبعد عبر الاندساس، وكذلك الصخور الكربونية كالحجر الجيري Limestone وأشباهه، بشرط توفر البيئة المناسبة من ضغط وحرارة مرتفعين.

كيف يتحول الكربون إلى ألماس؟

ماذا ستفعل لو كنت مكان أحد العلماء الذين يسعون لتشكيل الألماس معمليًّا؟ لا بد أنك ستحاول تتبع ما خلقه الله في الطبيعة لتحاول محاكاته.

يعتمد تكوين الألماس في الطبيعة على وجود مصدر كربوني وضغط وحرارة مرتفعين. قد يختلف الأمر في المعمل بالتأكيد، كما أن التطور العلمي والتنافس بين الباحثين لتحقيق نماذج أعلى من التكنولوجيا سيجعل التقنيات المستخدمة متنوعة ومتفاوتة في التعقيد.

ذكر الباحثون في

أحد الأبحاث

القديمة نسبيًّا أن تحول الجرافيت إلى ألماس سيحتاج إلى درجة حرارة تفوق 2000 درجة مئوية، وضغطًا يفوق الضغط الجوي بأكثر من 100 ألف ضعف. وعليه كان لا بد من التحايل على هذه الظروف.

تتأثر التفاعلات الكيميائية والفيزيائية والفيزيوكيميائية بالوسط المحيط، وأحد أهم عناصر وسط التفاعل هو وجود العنصر الحفَّاز. لذلك كان على الباحثين اختيار المواد المناسبة لتُستخدَم كمُذيب حفَّاز، ووجدوا ضالتهم في عناصر المجموعة الثامنة من الجدول الدوري وسبائكها. استطاع الباحثون استخدام عنصر النيكل تحديدًا ونوعين من سبائكه (الإنفار والمونيل) كعناصر مذيبة حفَّازة لتحويل الجرافيت إلى ألماس، دون اللجوء إلى الضغط والحرارة شديدي الارتفاع.

مع تطور البحث العلمي، ظهر

نموذج جديد

لاستخدام التقنيات الحديثة، عبر تضافر الليزر وتقنية النانو. الليزر لم يعد شديد الحداثة، ولا بد أنك قد سمعت عن تقنية الليزك المستخدمة لتصحيح الإبصار، حيث يعتمد الباحثون على نبضات من شعاع الليزر لتلدين الكربون في فترة زمنية وجيزة جدًّا. أمَّا عن تقنية النانو فهي التقنية التي تتعامل مع المواد في صورة مصغرة جدًّا، ولتصور ما نقصده بأنها مصغرة جدًّا يكفي أن تعلم أن 1 نانوميتر جزء من عشرة ملايين جزء من السنتيميتر.

تُوهب المواد خصائص جديدة ومفيدة
للغاية عند تصغيرها، بما يتيح للعلماء تطويعها لاستخدامات عديدة. استخدم العلماء
في هذا البحث أنابيب وألياف كربون نانوية وقاموا بتعريضها إلى أشعة تشبه التي
يستخدمها أطباء العيون في تصحيح الإبصار، وذلك على هيئة نبضات مدتها تقدر
بالنانوثانية ليقوموا بصهر الكربون. تم هذا الصهر أثناء التبريد المفرط Supercooling،
بما أتاح لهم تكوين الألماس من الكربون.

لما كان مصدر الكربون المستخدم من قبل الباحثين في صورة نانوية (مفرطة الصغر)، فإن الألماس الذي تكوَّن قد تشكل في حجم صغير أيضًا، إلا أنه كان من السهل استخدامه كبذرة لتكوين ألماسات أكبر، تُستخدم سواء كبودرة كاشطة في استكشاف الغاز والبترول أو حتى في المجوهرات.

المعلومة الطريفة والملفتة أن التحويل تم في الضغط والحرارة العاديين، ويمكن أن يتم في الهواء. الجميل في الأمر أن عملية التحويل هذه يمكن استخدامها على نطاق أكبر باستخدام المسح الليزري ليتم تحويل الكربون إلى ألماس بمعدل 200 سم مربع في الثانية الواحدة.

هل سيظل الألماس مرتفع السعر إن تم تصنيعه؟

في رأي كاتب هذه السطور أن أهم عناصر تحديد السعر هي الطلب عليه ومدى الوفرة والندرة بالإضافة إلى تكلفة تحصيله تصنيعًا أو استخراجًا من باطن الأرض. سيظل الألماس – فيما أظن – نادرًا، وسيظل الطلب عليه طالما ظلت براعة المسوِّقين.

وستظل الألماسات الطبيعية أعلى وأحلى بالتأكيد مهما تطورت تقنيات التصنيع المعملية، والتي ليست بالضرورة قليلة التكلفة. لذلك فظني أنه حتى إن توفرت الألماسات الأرخص عبر التصنيع، فسيظل الألماس الطبيعي رمزًا للندرة والثراء، وسيظل جميلًا ومبهرًا ومرتفع الثمن.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.