يؤرخ الباحث والأكاديمي اللبناني «جلبير أشقر» في كتابه «العرب والمحرقة النازية: حرب المرويات العربية – الإسرائيلية» إلى التعامل مع المحرقة النازية في العالم العربي في أربعينيات القرن الماضي من قبل التيارات السياسية المختلفة، وهو التعاطي الذي أثار انتقاد المفكر الفلسطيني عزمي بشارة، باعتبار أن العرب ليسوا طرفًا أصيلاً في قضية الهولوكوست، ومن ثَمَّ تخلو العلاقة بينهم وبين المحرقة من المعنى، على نحو يجعل من مساءلة العرب عن موقفهم وردود أفعالهم على هذا الحدث التاريخي غير ذات بال.

يدافع أشقر عن فكرة كتابه في مقدمة طبعته الأولى المترجمة إلى العربية، بأن علاقة العرب معقدة للغاية بالمحرقة، باعتبارهم الطرف الأعمق تأثرًا بالمحرقة، نتيجة للمشروع الصهيوني والهجرة اليهودية إلى فلسطين التي كانت إحدى أهم تداعيات ذلك الحدث.

تبرز قيمة كتاب أشقر التاريخية الحقيقية، رغم الانتقادات الوجيهة التي وُجهت إليه، في مسألتين بالتحديد، أولهما، هي تجاوز دراسة جلبير للتصورات النمطية المشوهة عن موقف العرب حيال حدث المحرقة من خلال البحث التاريخي المدقق، وعلى مستوى آخر، وعلى نحو غير مباشر، في تقديم خارطة شارحة للتيارات الأيديولوجية الرئيسية في العالم العربي خلال منتصف القرن العشرين.

يقسم أشقر التيارات الأيديولوجية في العالم العربي في زمن الحرب العالمية الثانية وقبل نكبة 1948، إلى أربعة تيارات كبرى ألا وهي: (الليبرالية، والماركسية، والقومية، والإسلامية)، ويحلل مواقف كل تيار من خلال دراسة عدد واف من أحزابه وفصائله وحركاته السياسية.


الليبراليون

يبدأ جلبير في هذا الإطار باستعراض موقف التيار الليبرالي العربي من النازية، ويبدأ بتناول موقف مجلة «الرسالة» الثقافية الشهيرة، إحدى أهم الدوريات العربية، التي كان يرأس تحريرها «أحمد حسن الزيات»، ويكتب فيها أشهر رموز الليبرالية المصرية مثل: عباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم وطه حسين، وأحمد أمين وعلي عبدالرازق.

خاضت مجلة الرسالة – حسب ما ينقل أشقر- معارك بليغة ضد نظريات النازية العنصرية، على قدم المساواة مع أفضل التحليلات والنقد المنشور في أوروبا في ذلك الوقت، واللافت أن هذا الانتقاد كان يسير يدًا بيد مع شجب الاستيطان الصهيوني في فلسطين، في توازن رصين باعث على الدهشة والاحترام.

جدير بالذكر هنا أن مجلة الرسالة – بحسب ما يقول أشقر- لم تكن بأي حال من الأحوال ظاهرة هامشية أو استثنائية، بل كانت ظاهرة تعبر عن الأصوات والاتجاهات الفكرية المهيمنة في الثقافة المصرية المطبوعة في ذلك العقد، ويعزز من هذا التحليل دراسة أشقر لمواقف دوريات أخرى من الدوريات المصرية الشهيرة في ذلك الوقت كمجلة الهلال.


الماركسيون

كما يقول أشقر، فلأسباب واضحة تتعلق بالتكوين الأيديولوجي للماركسيين، كان الماركسيون في العالم العربي معادين للنازية عداء ثابتًا، باستثناء الفاصل الذي مثله تحالف ستالين – هتلر بين عامي 1939 و1941، والذي بذل القادة الشيوعيون جهدًا مكثفًا لمحاولة تبريره لقواعدهم بدعوى المناورة التكتيكية.

أطلق الشيوعيون العرب أيضًا أنشطة معادية للفاشية والنازية، وكان من جهودهم في هذا الإطار على سبيل المثال؛ تأسيس الشيوعيين السوريين واللبنانيين لعصبة مكافحة الفاشستية في يونيو/حزيران 1937، وقاموا بعقد مؤتمرات وأنشطة لاقت الكثير من التأييد من الأوساط الأدبية والصحفية.

جدير بالذكر أن المنظمات الماركسية في العالم العربي ضمت في صفوفها الكثير من اليهود، لعب بعضهم دورًا بارزًا في تأسيسها وقيادتها، ولهذا لم يكن هناك حتى داع في كثير من الأحيان للتأكيد على مثل هكذا موقف.


القوميون

يُفنّد أشقر الدعاوى القائلة بمناصرة الأحزاب القومية العربية للنازية بشكل مطلق دون تمييز، على أساس أنهما ينطلقان من ذات الجذور ويعبران عن اتجاه واحد داخل الطيف السياسي، ألا وهو الاتجاه الاشتراكي القومي.

يتتبع أشقر في هذا السياق المؤثرات الفكرية الأهم على الفكر القومي العربي، فبالنسبة لحزب البعث على سبيل المثال، يُحاجج أشقر بأن «ميشيل عفلق»، مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي، وصديقه «صلاح البيطار»، كانا مفتونين بالماركسية المتناقضة مع النازية، كما يتناول فكر المفكر السوري «زكي الأرسوزي» على أنه ليس مجرد تأثر تقليدي بالنازية، بل إعادة صياغة تقلب الفكرة النازية رأسًا على عقب، حيث جعل الأرسوزي الساميين (عربًا ويهودًا) أرقى من الآريين.

ينسب أشقر فكرة التعاطف العربي عمومًا مع النازية، إلى أنها تعود قبل كل شيء إلى أن ألمانيا كانت عدوة لبريطانيا الاستعمارية، كما يؤكد اعتبار العرب (إيطاليا الفاشية) دولة بغيضة، بسبب احتلالها ليبيا، وهي بغضاء ازدادت حدتها لاسيما بعد إعدام عمر المختار عام 1931.


الإسلاميون

يستعرض أشقر في إطار دراسته موقف دعاة الجامعة الإسلامية (السلفيين والإصلاحيين) من النازية والمحرقة، من خلال عرضه مواقف عدد من رموز ذلك التيار، ألا وهم: رشيد رضا، وشكيب أرسلان، وأمين الحسيني، وعز الدين القسام.

ربما يثير هنا زج أشقر لاسم الأمير الدرزي «شكيب أرسلان» في هذه المجموعة بعض اللغط،حيث تعد الدرزية بإجماع كديانة مستقلة عن الإسلام، إلا أن أرسلان كان في الحقيقة ملتزمًا بالمذهب السني في حياته وممارساته الدينية والشخصية والعائلية، حيث كان متزوجًا من امرأة شركسية سنية، كما كان ضمن دعاة الجامعة الإسلامية، قبل ميله لاحقًا إلى الفكرة القومية العربية بعد سقوط الدولة العثمانية.

ورغم تفنيد أشقر ومحاولات تبريره مواقف التيارات السابقة من النازية والعداء لليهود، لا يدافع أشقر عن موقف الإسلاميين الذي يصفهم بـ«الرجعيين» بنفس الحماس، بل نجده في المقابل يستخدم ضدهم لغة لا تخلو في كثير من الأحيان من التحامل.

الملاحظة التي تتكرر عمومًا كلما قلبنا بين دفات الكتاب ولا سيما في القسمين الأول والثاني منه، وبدرجة أقل القسم الثالث والأخير، هو ندرة واختفاء الحديث عن مواقف العرب من المحرقة بحد ذاتها، الهدف الذي وضع من أجله الكتاب كما يظهر من عنوانه .

جدير بالذكر أن ظاهرة مثل إنكار الهولوكوست لا تعتبر على سبيل المثال ظاهرة عربية بحال من الأحوال، حيث لا يتم تداول تلك المسألة في التيار الرئيسي في الصحافة والإعلام والفكر في العالم العربي من الأساس، وباستثناء

الموقف الأخير

الذي أثار الكثير من ردود الفعل بعد فيديو «الجزيرة بلس» التابعة لشبكة الجزيرة، الذي تم فيه التعرض التشكيكي للرواية التاريخية السائدة لملحرقة، لا يسع المرء بنهاية المطاف سوى أن يعتقد أن عزمي بشارة كان محقًا في نقد كتاب أشقر.