لطالما كان التاريخ السياسي السوداني حافلًا بالعبر، التي لا تجدها في تاريخ أي دولة عربية أخرى في الإقليم؛ فقد عايش السودانيون الثورة الشعبية في أكتوبر/تشرين الأول 1964م، والانتفاضة الجماهيرية في أبريل/نيسان 1985م، والتمردات المسلحة المستمرة وحتى الانفصال في 2011م، ومن خلال الخبرات وتراكمها أصبح السودانيون أكثر العرب دراية وفهمًا لقراءة الراهن السياسي.

نأتي في هذه الأيام على ذكرى انتفاضة أبريل/نيسان السودانية؛ عندما قررت نقابات السودان المهنية تصحيح المسار وإسقاط نظام نميري، واستجابت لها القوات المسلحة. السودان بلد الفرص الضائعة، كانت هناك فرصة في السادس من أبريل/نيسان أن تكون هناك ديمقراطية وحياة دستورية، ولكنها فشلت بسبب خلاف السياسيين مع بعضهم وطمع العسكريين الذي لا ينقطع في السلطة.

قليلون هم العساكر الزاهدون؛ لقد عُرف العسكر دومًا بأنهم ذوو نهم شديد للحكم والسلطان، لكن المشير عبدالرحمن سوار الدهب كان من طينة العسكريين الكبار. لقد كان زاهدًا في السلطة تمامًا ورافضًا لها، حتى يُحكى أن قادة الأحزاب ناشدوه أن يحنث بقسمه لنميري وينقلب عليه، فذكرهم أنه أقسم بالله على احترام الدستور والقانون وإطاعة السلطة السياسية، فبلغوه أن بإمكانه صيام ثلاثة أيام من أجل حقن دماء الشعب، وقد كان.


الانتفاضة: القصة كاملة



علماء

الفيزياء الكمومية (الكوانتم) يتحدثون عن ظاهرة أثر الفراشة ليشرحوا كيف أن حدثًا صغيرًا يمكن أن يتسبب في ظاهرة كبيرة، فقالوا إن فراشة في الصين تدفع عبر جناحيها كمية من الهواء قد تسبب إعصارا في أمريكا، فالنار كما قال العرب من مستصغر الشرر، وقد كانت تلك الشرارة في مظاهرة لطلاب جامعة أم درمان الإسلامية في 26 مارس/آذار 1985م.

خرجوا يهتفون بسقوط البنك الدولي وأمريكا حليفة نميري، هاتفين ضد زيادة أسعار السكر والبنزين، التي فُرضت من قبل المقرضين الدوليين. هاجم المتظاهرون محلات تجارية وجمعيات تعاونية، وفي اليوم التالي تكررت التظاهرة، لكن انضم إلى المظاهرة طلاب الجامعات والمعاهد، كلهم من مدن العاصمة المثلثة، هاتفين ضد الغلاء والجوع، وهاجم المتظاهرون فندق المريديان وآراك ومقرات عدد من الشركات الغربية في العاصمة، وأضرموا فيها النيران، وكانت مظاهراتهم حديث العاصمة؛ حيث لاحظ السكان أن الشرطة لم تتعامل مع المظاهرة بقسوة كما هو المعتاد، ربما لأن ضباط الشرطة كانوا على قناعة أن الوضع الاقتصادي بات لا يطاق.

ورغم ذلك فقد قام عدد من ضباط الشرطة ممن لا ضمير لهم بإطلاق أعيرة نارية تسببت في قتل 5 متظاهرين وكان الوضع محتقنًا جدًا، إذ كان الدولار يرتفع بمتوالية حسابية في السوق الأسود، وسافر نميري إلى أمريكا في ظل هذا الوضع المحتقن للعلاج كما قيل، فزاد هذا من غضب الجماهير التي رأت أن الرئيس يُعالج في أمريكا في ظل هذه الظروف الصعبة.

امتلأت المستشفيات بجرحى التظاهرات، فأضرب الأطباء احتجاجًا على القمع، وشكلت نقابة المحامين لجانا للدفاع عن المعتقلين على خلفية التظاهرات، بينما أصدر الحزب الحاكم بيانًا اتهم فيه الإخوان المسلمين والشيوعيين بالدعوة للمظاهرات واستخدام المشردين (الشماسة) في أعمال التخريب.

بدأ تمرد يظهر في صفوف الشرطة، حيث انتشر بيان لضباط شرطة يعلنون رفضهم للقمع، وأنهم مع جماهير الشعب، وأنهم مع إسقاط النظام الديكتاتوري. وكان لإضراب الأطباء والمحامين دور مؤثر في إرباك النظام الذي لم يعرف كيف يتصرف مع تعطل العدالة بغياب المحامين وتعطل المستشفيات.

هاجمت القوات الأمنية جامعة الخرطوم، واعتقلت رئيس اتحادها مع عدد من معاونيه، وأعلنت القوات الأمنية أنها كشفت أن في الجامعة خلية أنشأتها المعارضة تصدر بيانات وهمية، وأن الجامعة لم تعد جامعة، بل أصبحت وكرًا للتآمر على البلاد عبر طباعة البيانات والمنشورات المحرضة.

كان لاقتحام جامعة الخرطوم ذات الرمزية مدعاة لتوحد كل ألوان الطيف السياسي والنقابي في مؤتمر حاشد في نادي الخريجين للتباحث حول وضع البلاد والتخطيط لكسر النظام، واتفق المجتمعون في نادي الخريجين في الأول من أبريل/نيسان 1985م على تنظيم مسيرة حاشدة يوم 3 أبريل/نيسان بعد مسيرة الردع التي تداعى لها أنصار نظام الرئيس جعفر نميري.


لقد كانت مسيرة الردع في الثاني من أبريل/نيسان 1985م مسخرة، حيث عجز الاتحاد الاشتراكي عن حشد مسيرة الردع المزعومة، رغم أنه جند كل وسائل الإعلام للحشد لها وحشد لها السيد أحمد الميرغني أحد شيوخ الطريقة الختمية المعروفين بالشعبية، ومع ذلك فلم يكن هناك حضور يذكر.

وفي يوم الثالث من أبريل/نيسان 1985م اندفعت مسيرة تضم عشرات الآلاف من النقابيين من مستشفى الخرطوم وحتى شارع القصر، وعندها فقط قرر القائد العام للقوات المسلحة أنه لم يعد هناك وقت للحياد، وأنه إن لم يتحرك فالجيش معرض للانقسام، ورغم أن جعفر نميري صرح للصحافة الغربية أنه عائد للبلاد، وفعلًا جهزت طائرته وأقلعت نحو القاهرة صدر البيان رقم واحد (1) من القيادة العسكرية معلنًا أن القوات المسلحة في حالة استعداد، ثم صدر البيان رقم (2)، والذي نص على حل مؤسسات دولة جعفر نميري وتعطيل الدستور القائم وفرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية وقيام الانتخابات العمومية خلال عام.

الفترة الانتقالية: غياب الرؤية وفشل الأداء

كانت الفترة الانتقالية مريرة؛ نميري لم يعترف بهذا التحرك المنفرد الذي قامت به القيادة العامة للقوات المسلحة واعتبره انقلابًا على الشرعية قام به وزير الدفاع سوار الدهب، وحاول العودة إلى الخرطوم، ولكن الرئيس المصري محمد حسني مبارك أقنعه بترك السودانيين ليقرروا مصيرهم والبقاء تحت ضيافته في مصر حتى تستقر الأوضاع في السودان.

وقد اعتبر السودانيون هذا التصرف من مبارك (مؤامرة) لإبقاء نميري حرًا في القاهرة يحيك المؤامرات ضد الانتفاضة، وهذا ما دفع لاحقًا الصادق المهدي الرئيس المنتخب بعد الانتفاضة لإلغاء كل اتفاقيات التعاون التي وقعها جعفر نميري مع مصر، والتي سُميت باتفاقيات التكامل واستبدال هذه الاتفاقيات باتفاقية تسمى بالإخاء، لم تكن سوى إلغاء لأهم بنود اتفاقية التكامل.

سارع اليساريون والليبراليون لارتكاب خطيئة كبيرة تقع فيها أغلب الثورات، وهي استعداء (فلول نظام نميري) الذين اعتبروهم (سدنة) رغم أن الأحزاب الكبرى كالاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة والجبهة الإسلامية فتحت الباب لهؤلاء السدنة بالتوبة والالتحاق بهم. وقد دفع هؤلاء اليساريون باتجاه حل جهاز أمن نميري، وقد رضخت السلطة الانتقالية لهم مما دفع هؤلاء (السدنة) أو الفلول لإظهار العداوة للانتفاضة والعمل ضد الحكومة والدولة بشكل صريح، وهذا ما ظهر في الفترة التي أعقبت الانتفاضة إذ تحالف فلول مايو/آيار مع نظام الإنقاذ العسكري الذي أعقب ثورة أبريل/نيسان، وشكلوا جهاز الأمن القوي الذي يحمي نظام الإنقاذ إلى يومنا هذا.

لقد اعتبرت الأحزاب السياسية المكوّنة للتجمع الوطني الديمقراطي تنظيم الجبهة الإسلامية القومية الذي يرأسه الدكتور حسن الترابي مسئولًا مسئولية مباشرة عن طول فترة نميري، خصوصًا أن هذا التنظيم هو الذي سارع للتصالح مع نظام نميري في 1977م بشكل انفرادي ولهذا قررت هذه الأحزاب التحالف في الانتخابات من أجل إسقاط مرشحي الجبهة الإسلامية بعيدًا عن كل اختلاف سياسي وكان هذا السلوك الذي يشبه الحَجر السياسي هو الخطوة التي دفعت الإسلاميين للتكتل والشعور بالاستهداف، ورغم أن محاولات هذه الأحزاب باءت بالفشل غالبًا لكنها استطاعت إسقاط أهم مرشحي الجبهة الإسلامية وهو الدكتور حسن الترابي، عندما انسحب مرشحو كل الأحزاب ووقفوا خلف مرشح الاتحاديين الديمقراطيين الذي استطاع الانتصار وكسر كبرياء الترابي.

تدخلات خارجية

الحكومة المدنية المنتخبة التي أعقبت الانتفاضة كانت ضعيفة جدًا رغم أنها كانت مكونة من الأحزاب الثلاث الكبرى (الأمة والاتحادي والجبهة الإسلامية)، لكنها كانت من الضعف بأنها أصبحت فريسة لتُملي عليها الأطراف الخارجية والداخلية وتهددها؛ فأما الإملاءات الخارجية فقد كانت مصرية إذ ضغطت مصر بشكل كبير من أجل طرد الجبهة الإسلامية والترابي خصوصًا من الحكومة، ورهنت تحسن العلاقات مع السودان بهذا الأمر، ورغم أن الصادق المهدي أظهر تشددًا في البداية في رفض الإملاءات المصرية، لكنه رضخ في النهاية.

إضافةً للضغوط المصرية كانت هناك ضغوط من المجتمع الدولي، الذي حاصر الجيش السوداني ومنع عنه العتاد الذي كان يحتاجه لسحق التمرد في جنوب السودان ورهن تسليح الجيش السوداني بتوقيع الحكومة السودانية على اتفاق سلام مع المتمردين، وقد كان أن وُقِّع اتفاق (الميرغني – قرنق)، الذي نص على قضايا (علمانية الدولة وحظر الأحزاب الدينية في إشارة للجبهة الإسلامية وإلغاء كل اتفاقيات التفاهم مع الدول العربية وإعطاء جنوب السودان حكمًا ذاتيًا والإقرار بهوية متعددة للسودان).

ورغم أن الحكومة المنتخبة وقعت على هذا الاتفاق الذي اعتبر وقتها رضوخًا مذلًا للدولة لعصابة من المتمردين فإن الحكومة كانت تنوي المماطلة في تنفيذ بنوده، فإلغاء الأحزاب الدينية كان هدمًا للاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة، ولم يكن إعطاء جنوب السودان حكمًا ذاتيًا بالأمر المقبول في الخرطوم، إذ سرعان ما قامت مظاهرة مليونية سميت وقتها بثورة المصاحف تعلن رفضها للاتفاق.

وكانت الخطوة الأهم هي خروج مذكرة الجيش، التي تعلن انحيازها للاتفاق وترسل تهديدًا صريحًا لرئيس الوزراء الصادق المهدي أن عليه تنفيذ الاتفاق فورًا، وهذا في النهاية ما عجل بتحرك انقلابي خاطف قام به ضباط الجبهة الإسلامية القومية في الجيش في نهاية يونيو/آيار 1989م أنهى هذه الفترة الديمقراطية المضطربة وأعاد الحكم للعسكريين.

أحد أهم أسباب إخفاق هذه الانتفاضة هي أنها لم تحقق للجماهير ما انتفضوا من أجله، فقد كانت البلاد تمر طوال فترة حكم الانتفاضة بزمن عصيب، إذ كان هناك شح كبير في السلع، وكان الناس يملكون الأموال ولا يستطيعون شراء السلع (من عيوب الاشتراكية)، وكانت صفوف الرغيف والبنزين منذ الفجر بالإضافة إلى انعدام السكر تمامًا إلا عبر البطاقة، وكل هذا دفع الناس للبحث عن مخلص أو منقذ ليخلصهم من هذا الوضع، ويقال إن أفراد تنظيم الجبهة الإسلامية في الفترة التي سبقت الانقلاب نظموا أنفسهم ليقولوا في المجالس إن الديمقراطية فشلت، وأن الحل هو في حكومة عسكرية تعيد للبلاد الاستقرار وبلغ هذا الهمس أن وصل إلى قبة البرلمان حتى قال الزعيم السوداني الشريف الهندي إنه إذا جاء كلب وحاول أخذ السلطة فلن يقول له جررر (أي لن يمنعه).


لماذا فشلت انتفاضة أبريل وستفشل كل انتفاضة تشبهها؟

فشلت انتفاضة أبريل/نيسان لأنها كانت انتفاضة، أي مجرد تحرك إصلاحي في إطار حكومة مايو/آيار، ولأنها أعطت السلطة وكلاء الوزارات في بدايتها، والذين كانوا موالين لحكومة مايو/آيار، بالإضافة إلى أن قرار حل جهاز أمن نميري وتشريد ضباطه جعلهم مستعدين للعمل مع الشيطان نفسه من أجل تدمير هذه الانتفاضة التي قطعت عيشهم، وكان الاستغناء عن هذه الخبرات الأمنية فرصة ليتمدد المتمردون والمخابرات الأجنبية وتنشط بشكل واضح في الخرطوم، وتعمل من أجل إسقاط الانتفاضة، فقد كانت المخابرات المصرية تعمل بشكل واضح من أجل انقلاب يأتي بضباط (أحرار)، ليخلصوا مصر من الصادق المهدي الذي لم تكن ترتاح له القاهرة.

وكانت مخابرات عراق صدام حسين تعمل على إعداد انقلاب بعثي لضباط ينتمون فكريًا إلى مشروع حزب البعث العراقي، وكانت المخابرات الأمريكية تدفع باتجاه انقلاب يقوده ضباط المؤسسة العسكرية الكبار الذين كانوا معروفين بالولاء للمصالح الأمريكية، وبالإضافة إلى كل ذلك ضباط الجبهة الإسلامية الذين كانوا متأهبين لخطف السلطة، وكان ضعف الصادق المهدي في مواجهة العسكريين يزيد العسكريين شراسة ونهمًا في اقتناص السلطة، وأعتقد جازمًا أنه لو كان في رئاسة الوزراء رجل آخر غير الصادق المهدي يمتلك قليلًا من الحنكة السياسية والاستعداد للمواجهة لكان العسكريون والمخابرات الدولية التي تدعمهم أقل جرأة.

ويضاف إلى ذلك فشل السياسات الاقتصادية التي طبقت بعد الانتفاضة، والتي تسببت في شح كبير في السلع وتدهور كبير في قيمة العملة السودانية فاق كثيرًا التدهور الذي سبب الانتفاضة على نميري، ولم يكن للصادق أي حلول ولا مستشارين اقتصاديين جيدين، وكان لسلوك الصادق المهدي المتقلب دور كبير في عدم ثقة المجتمع الدولي والإقليمي به، ولم يمنح السودان أي منح اقتصادية تذكر طوال 3 سنوات هي عمر حكومة الصادق المهدي مما زاد معاناة الشعب السوداني وحدثت كارثة طبيعية في 1988م وهي الفيضانات، ولولا الإغاثات التي كان تلقيها طائرات ومروحيات الأمم المتحدة والدول الصديقة للسودان لكانت كارثة الفيضان تحولت لمجاعة.

كانت حركة التمرد في جنوب السودان تزحف بشكل مستمر وجدي نحو الشمال، حتى أنها استطاعت اختراق جبال النوبة والنيل الأزرق في عهد الصادق المهدي، ولم يعد التمرد محصورًا في الجنوب فقط، ولم تكن تمتلك حكومة الصادق المهدي أي رؤية لمواجهة هذا الخطر سياسيًا، وكل هذا في النهاية أغرى العساكر المغامرين أن الفرصة سانحة للانقلاب.

كلمة حق لا يوجد شيء في العالم يمكن أن يبرر الانقلاب العسكري إلا حاكم فاشل بعد انتفاضة جماهيرية، ولو أن حزب الأمة دفع بمرشح آخر لرئاسة الوزراء ربما لم يكن انقلاب عمر البشير.