لو جئتني وقُلت لي إنك تواجه مشكلة كبيرة في عملك، وقريبًا سيتم طردك. فلا تتوقع مني أن أهوّن الخطب عليك، بل سأقول: أليس هذا أفضل من خسارة صحتك؟ عليك أن تستقبل الأمر بصدر رحب.

قد تتعجب من ردة فعلي، وتحسب أني غير مبالٍ بما سيحل بك،
لكن الحقيقة أنني أبالي جدًا، لذا، كان لزامًا عليَّ أن أوجّهك صوب الحقيقة، وهي
توقع الأسوأ ومحاولة التكيف معه. وهذا ليس مذهبي الخاص في الحياة، بل هو مذهب
الرواقيين عمومًا؛ فن معايشة الحياة، بلا أحلام وردية طوباوية، ولا أهداف جنونية. فقط
كيف تعيش الحياة ببساطة؟ ولو سألتني عن أهم ملامح تلك الفلسفة، فسأحاول تلخيص أهم
الأفكار في عدة أسطر.

الشيء الثابت في الحياة هو التغير

يؤمن الرواقيون أنه لا وجود لشيء ثابت في الحياة الناقصة تلك، فكل شيء عُرضة للتغيير والاستبدال، حتى أنت؛ أفكارك؛ آرائك؛ جسدك، فمن الناحية السيكولوجية والبيولوجية لا بد وأن تتغير ما دمت على قيد الحياة. حتى الزمان والمكان في صيرورة دائمة، غير ثابتين، فما بالك بما يحويانه من موجودات. وفي قيمة التغيير والتغير يقول «ماركوس إيليوس»، أحد أشهر الفلاسفة الرواقيين في العصر الروماني:

كُل جزء من جسدي سيتلاشى مع التغيير إلى أجزاء من الكون، والروح هي الأُخرى ستتغير إلى أجزاء أُخرى، وستستمر هكذا إلى الأبد.

فمقصد الكلام الرئيس هنا أن كل شيء بما فيه الإنسان، لا بد وأن يتغير، ما دامت الحياة في تقدم، فلا بد وأن تتقدم معها. ويقول:

الزمن مثل النهر من أحداث تحصل، نهر جارف. تلك اللحظة التي تحصل فيها الأحداث، فإنها ستنجرف بعيدًا، لتأتي أحداث أُخرى تحل محلها، وهكذا دواليك.

فأنت تواجه في كل مرحلة من حياتك مشكلات مختلفة عن ذي
قبل، وتحسب في كل مرحلة أنها النهاية، ولكن، تمر المرحلة بسلام، لتحل محلها مرحلة أُخرى
بمشكلات جديدة. فالشيء الثابت هنا التغيير، فكل شيء تغير، إلا أنت، ما زلت كما أنت
بطريقة تفكيرك حيال الأمور، في كل مرحلة تظن أنها النهاية، فلو عدّلت من طريقة
تفكيرك، ستشعر ببعض الراحة، وفي ذلك يقول «إيبكتيتوس»، أهم فلاسفة الرواقية، والذي
تُعد سيرته مثلًا حيًا على الرضا والتكيف مع الحياة:

الكون هو التغيير، الحياة هي الرأي.

العالم الداخلي والخارجي

يُصنف الرواقيون الحياة إلى عالمين، وفقًا لـ «سعيد ناشيد» في كتابه «التداوي بالفلسفة» [1]؛ عالم داخلي، وعالم خارجي. العالم الداخلي يحتوي شهواتك وآراءك وأفكارك ووجهة نظرك حيال الأمور. هذا العالم تستطيع التحكم فيه والسيطرة عليه وتوجيهه بما يتلاءم مع العالم الخارجي، والذي يحوي المجتمع من حولك، والناس، والمال، والشهرة، والأحلام، والسلطة، وكل شيء يُحيط بك داخل المُجتمع بعيدًا عن يدَيك الصغيرتين. ذلك العالم الخارجي لا تستطيع التحكم به، ولا تستطيع جعله يتناسب مع أهوائك الشخصية، ولا تغييره، فمن الأولى بذلك التغيير، عالمك الداخلي أم الخارجي؟

يقول إيبكتيتوس:

هناك أشياء تعود إلينا، وهناك أشياء أُخرى ليست كذلك. آراؤنا هي ملكنا، رغباتنا، شهواتنا، حُبنا، كراهيتنا. كلها نملكها ولا يُشاركنا فيها أحد (يقصد عالمنا الداخلي). أجسادنا ليست ملكنا، ولا المادة التي نمتلكها، سُمعتنا، أموالنا، هي أيضًا كذلك، ليس لنا فيها شيء (يقصد عالمنا الخارجي).

المُشكلة في إدراكنا وطريقة تقييمنا للأمور

أحسبك الآن فهمت منْ الأولى بالتغيير والأسهل في عملية
التكيف، بالطبع، إنه عالمنا الداخلي، طريقة نظرتك حيال الأمور؛ كمشاكلك اليومية،
ليس بيدك أن تتخلص منها، لكن بيدك أن تنظر لها بشكل آخر. الموت وفقد الأحبِّاء،
ليس بيدك تغيير هذا، لكن بيدك النظر للأمر بطريقة مُختلفة، كأن ترى الموت بداية
وليس نهاية. ولأضرب لك مثالًا ليس بالبعيد عن موضوعنا، «إبيكتيتوس» هذا المذكور
أعلاه، هل تعرف قصة حياته؟ ماذا حدث له؟

كان إيبكتيتوس عبدًا عند سيد مجنون، أراد ذلك السيد ذات
مرة أن يلهو به، فقام بربط ساقه في عجلة تدور، فبدأت العجلة في الدوران، فقال له
إيبكتيتوس في هدوء (غريب): ستكسرها يا سيدي! لكنه لم يستمع إليه حتى كُسرت فعلًا.
ماذا فعل المسكين حينها، هل ظل يندب حظه أنه عبد؟ هل فكر في الانتحار؟

لا، بل عاتب سيده في هدوء وقال: ألم أقل لك ستكسرها!
فتعجب سيده من سكونه وهدوئه الغريبين، فحرره [2]. وتحول إيبكتيتوس من مجرد عبد
تعيس، إلى فيلسوف عظيم ما زالت ذكراه خالدة في الأذهان إلى يومنا هذا، حتى أنه أثّر
في العديد من الشخصيات والملوك، وعلى رأسهم الملك الروماني «ماركوس إيليوس» والذي
تبنّى بدوره الفلسفة الرواقية مقتديًا بمقولة إيبكتيتوس: «ما هو صعب ليس الأشياء
بحد ذاتها، بقدر ما هو حكمنا عليها».

فكل ما فعله فيلسوفنا العظيم «إبيكتيتوس» أنه تكيّف مع
الحياة ومع الواقع الصعب. وفي ذلك يقول خريسيوس:

حياة الفضيلة هي توافق الإنسان مع مجريات الطبيعة.

التسليم الكلي لإرادة الإله طوعًا وامتنانًا له

الله لم يخلق الشر أبدًا، لكنه خلق الحرية لبني آدم،
وأوكلهم بحريتهم إعمار الأرض، لكن البعض عاثوا فسادًا فيها بواسطة تلك الحرية،
فصار الإنسان يظلم أخاه الإنسان دون سبب. فعند الرواقيين، الله لم يخلق ذلك
الفساد، وإن قدّر الأقدار لحدوثه، إلا أن الإنسان عليه تقبل الحياة كما هي، امتنانًا
وإيمانًا بالله، فيقول «ماركوس إيليوس»:

كل شيء متناغم فيَّ، وهو كذلك بالنسبة لك. ربي، لا شيء مما قدرته لي يأتي مُبكرًا أو مُتأخرًا، كل شيء محسوب بدقة، كل شيء هو مثل فاكهة تأتيني به المواسم. ربي منك يأتي كل شيء، وإليك يعود كل شيء.

فلم يفُتكَ شيءٌ في الحياة، فكل شيء مقدر بميعَاد، ولا
تقلق، سيأتي موعدُك لا محالة، كلُ ما عليك هو الصبر والرضا.

يُشبه الرواقيون كثيرًا المتدينين، أليس كذلك؟ ولنضرب مثالًا
على التسليم المُطلق لمجريات الحياة التي قدّرها الله؛ قصة الفيلسوف الرواقي «سينيكا»،
كان أستاذًا للإمبراطور الروماني الدموي «نيرون»، ولمّا عارضه في سياساته، أمر
نيرون –والذي كان يقتل كل مخالفيه بدمٍ بارد– أستاذه سينيكا بأن يقتل نفسه. فما
كان من سينيكا إلا أن سلّم أمره للإله، ودخل بيته وأمر عائلته بأن لا يبكوه، وقطع
شرايينه في مشهد يُعد الأكثر درامية في ذلك العصر الدموي [3]. وكانت من أشهر الجمل
التي يُرددها سينيكا قبل انتحاره:

دائمًا نُعاني في خيالنا أكثر مما في الواقع.

السعادة

السعادة عند الرواقيين، ليست في تحقيق الأهداف المادية،
ولا في إشباع غرائزنا وشهواتنا البالية، إنما السعادة الحقيقية في اللحظة التي
نعيشها، وما نملكه في أيدينا، وألّا نرهق أنفسنا بالبحث عن «السعادة» الموهومة
التي زرعها البعضُ في عقولنا. ويُذكِّرنا هذا إلى حد كبير بالفيلسوف «أبيقور» في
نظرته عن السعادة، وهي الزهد والاكتفاء بما في يدَيك. وفي معنى السعادة يقول «سينيكا»:

السعادة الحقيقية هي عيش اللحظة، بلا قلق حول المُستقبل. السعادة الحقيقية هي ألّا نتشبث بالآمال والمخاوف. بل أن نكتفي بما لدينا. السعادة الحقيقية هي ألّا ترغب في شيء.

وتلك الكلمات تعبر بصدق عن الحقيقة التي نجهلها جميعنا،
فالسعادة لا يجب أن تكون في شيء عظيم، بل أساسها الأمور البسيطة، تلك الأمور تكمن
في اللحظة التي تعيشها الآن، دون التفكير في الماضي، لأنه جلدٌ للذات، ودون القلق
من المُستقبل الذي لم يأتِ بعد، فأنت بالنسبة للماضي ميت، وبالنسبة للمستقبل لم
تولد بعد، وعذابنا الرئيس يتولد من جهلنا لقيمة اللحظة الحاضرة التي نحياها الآن
جميعنا، فتلك اللحظة ستكون -في الغد– من الماضي، الذي سنندم عليه ونفكر فيه، ذلك
لأننا لم نعش لحظته كما يجب وكنا نفكر في الماضي الأبعد والمستقبل الأقرب، الذي صِرنا
فيه الآن، وبالتالي نتجاهله هو الآخر ونندم عليه في الغد، وهلم جرّا. وفي دائرة
المعاناة تلك ستجد «عُمر الخيام» يقول:

يومان ما عشت لا أُعنى بأمرهما؛ يوم تولى ويوم بعدُ لم يردِ.

فأكبر عائق -كما يقول سينيكا- في الحياة، هو فرط التوقع،
الذي يرتبط بالغد ويُنسيك اليوم، تُريد أن تُحيك ما هو بيد القدر، وتنسى ما تحيك
لنفسك. فالمستقبل كله مغلف بالغموض، فعِش يومك.

في الختام، صدّقني، هذه الحياة لا تستحق منك كل هذا، فلو
أردت الحكمة فيها، فهي تكمن في اللحظة التي تعيشها الآن، وهؤلاء الرواقيون عاشوا
بيننا ينادون في الناس بتعلم العيش والتكيف مع الحياة ومجرياتها، وختامًا أقول لك
ما قاله «سينيكا» في إحدى رسائله لصديقه:

هل ما زلت حيًا؟ إذن تعلم كيف تعيش.

وأنا أقول لك يا صديقي، إن كُنت تريد السعادة، فعِش رواقيًا تسعد.


المراجع



  1. سعيد ناشيد، “التداوي بالفلسفة”، دار التنوير، 2018، صـ62.
  2. ايبكتيتوس، “المُختصر”، ترجمة: عادل مُصطفى، رؤية للنشر والتوزيع، 2015، صـ32.
  3. هالة السعيد محمود، “مسرحيتا هيراكليس مجنونا بين يوريبيديس وسينيكا (دراسة مقارنة)”، رسالة دكتوراه، جامعة عين الشمس، 2015، صـ13.


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.