قد بهدل حُرمة المملكة في أيامه، ولم يتَّبع طريقة الملوك السالفة في إقامة حرمة السلطنة، وصار على طريقة والي الشرطة.





المؤرخ ابن إياس في وصفه للسلطان المراهق محمـد بن قايتباي!

في عام 872هـ، ارتقى عرش السلطنة المملوكية واحد من أعظم سلاطينها قاطبة، وهو السلطان الأشرف سيف الدين قايتباي الظاهري، وكان من التسعة الكبار كما كانوا يوصفون ممن حكموا هذه السلطنة العملاقة التي سيطرت على مساحات شاسعة في الشام ومصر والحجاز وشرق البحر المتوسط وحتى شرق ليبيا (برقة)،فضلًا عن عمق الأناضول وحدود اليمن. دولة اقتربت من ثلاثة قرون زمنًا، حقَّقت منجزًا حضاريًّا لا يزال شاهدًا على تلك الأيام بكل ما فيها من انتصار أو هزيمة، ومن فرح أو حزن وإحباط.


اقرأ أيضًا:


الأشرف قايتباي: آخر المماليك العظام

كان قايتباي من جملة مماليك السلطان القوي الظاهر
جقمق (ت 854هـ)، وقد اشتراه وأعتقه على عادة سلاطين المماليك، ليتدرج في سلك
الوظائف العسكرية المملوكية ليصل في نهاية المطاف إلى قيادة الجيش المملوكي، ويكون
شاهدًا على فترة تزعزع الحكم، وصراعات كبار الأمراء بعد وفاة السلطان خُشقدم (ت
872هـ)، ليحسم الأمور بمهارة عسكرية فذة، ويقرر إعادة تصحيح أوضاع هذه الدولة التي
رأى خطورة تحدياتها في الداخل والخارج.

ارتقى الأشرف قايتباي عرش المماليك ليستمر 29 عامًا متواصلة، ويحقق رقما قياسيًّا في اعتلاء الحكم في تلك الدولة التي امتازت بالعصبيات العسكرية الطاحنة، وقد عُرِف بقوة الشخصية، وترك منجزًا معماريًّا وحضاريًّا هو الأقوى والأجمل في تاريخ المماليك في مصر والشام؛ لا سيما في عصر المماليك البرجية، أو دولة المماليك الثانية حتى يومنا هذا.

في هذه السلسلة سنقف مع آخر أيام المماليك، ونرى هل حقًّا عاش الناس في تلك الأعوام حياة من الطمأنينة والراحة؟ أم أن الصراع والدماء كانت المسيطرة على المشهد آنذاك؟ وما النتائج التي ترتبت على هذه الأحداث في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وحدود دولة المماليك الخارجية في ظل تحدٍ خارجي خطير تمثل في صعود البرتغاليين على سطح الأحداث العالمية حينذاك؟ وقوة العثمانيين المطردة التي ما فتئت تهدد مصالح المماليك في الأناضول وشمال بلاد الشام.

على أن وفاته في العام 901هــ/1495م، وارتقاء ابنه السلطان محمد بن قايتباي خلفًا له، كانت البداية الحقيقية لانهيار دولة المماليك التي ظلت في مرحلة الترنح والضعف والانهيار طوال اثنين وعشرين سنة عقب وفاة قايتباي، إذ وضع لها السلطان العثماني سليم شاه بن بايزيد الثاني كلمة النهاية حين سحق المماليك في مرج دابق شمال حلب ثم الريدانية في القاهرة.

الانقلاب الدستوري والسلطان الصبي!

في العام 901هـ/1495م، وبينما السلطان الأشرف سيف الدين قايتباي يُنازع الموت، استغل قائد الجيش الأمير تمراز الشمسي هذه اللحظات المفصلية ليمكِّن لنفسه بالسلطنة من بعد الأشرف قايتباي. لقد أشار على السلطان وهو في نزعه الأخير أن يوصي بالسلطنة من بعده لابنه الأمير محمـد بن قايتباي، غير أن قايتباي لم يكن يدري ما يحدث، فاستغل قائد الجيش هذه الحالة، وخرج على القضاة الأربعة زاعمًا أن السلطان أوصى لابنه محمدٍ من بعده. ويُعلِّق المؤرخ الكبير ابن إياس على ذلك بقوله: «فهذا كله جرى والأشرف قايتباي في النزع، ولم يشعر بما وقع من هذه الأمور، ولو كان واعيًا لما مكَّن الأمراء بأن يسلطنوا ولده، ولا كان ذلك قصده

»

[1].

كان محمد بن قايتباي فتى في الرابعة عشرة من عُمره، اعتبره كبار المماليك صيدًا سهلاً، وصورة يمكن أن يتحكموا من خلفها بحبال اللعبة والسياسة، ويستأثروا على الثروات والمناصب، ويديروا البلاد كيفما أرادوا، لا سيما قائد الجيش (أتابك الجيش) الأمير تمراز الشمسي الذي أراد أن يجعل هذا الفتى تكئة يتكئ عليها للوصول إلى منصب السلطنة ذاته، وكان في الوقت ذاته ابن خالة السلطان.

غير أن المنافسين على العرش كانوا كثُرًا، يملكون من القوة المالية والعسكرية بمقدار ما يملكه تمراز الشمسي، وعلى الرأس منهم قائد الإسطبلات العسكرية الأمير قنصوه خمسمائة الذي استطاع أن يدبِّر حيلة بمعاونة كبار الأمراء أوقع فيها الأمير تمراز الشمسي وانقلب عليه، ثم أرسله إلى سجن الإسكندرية، ليرتقي من خلفه إلى قيادة الجيش المملوكي، ويصبح المستأثر الجديد بخيوط الحكم من خلف السلطان الصبي محمـد بن قايتباي[2].

كان السلطان محمـد بن قايتباي لا يدري ما يحدث من خلفه، بل اشتُهر عنه لعبه ولهوه، وقد حاول الأمير قنصوه خمسمائة – الذي سُمي بهذا لأن السلطان قايتباي اشتراه بخمسمائة دينار – أن يوقفه عن هذه الأفعال فلم يستطع، ويحكي لنا ابن إياس هذا المشهد الغريب الذي يدلل على مدى الانحطاط الذي وصل له الإدارك والعقل المملوكي آنذاك، بقوله إن الأمير أمر أربعة من الحرس السلطاني الخاص: «يمنعونه من اللعب مع أولاد العوام ومن كلِّ تصرُّف سيئ … ومع ذلك فما ارعوى ولا حصل من هذا طائل، وزاد في الطيشان»[3].

الصراع على العرش والعائلة تحكم!

في هذه الأثناء كان قنصوه خمسمائة يعيِّن كبار أصحابه وأصدقائه والموالين له في مناصب الجيش والدولة العليا ليكونوا بطانته الجديدة التي يستفتح بها عصره الجديد، لكن ثمة فريقًا معارضًا كان قد بدأ في التكشير عن أنيابه، والامتعاض مما يحدث، لا سيما استغلال اسم قايتباي وابنه وشرعيتهم القديمة التي استمدوها من بطولاته ومنجزاته السياسية والحضارية الكبرى، هذا الفريق تمثَّل في «المماليك الأشرفية» الذين اشتراهم السلطان قايتباي وجعلهم ذراعه التي يبطش بها، ويحتمي بها من الأعداء والمتربصين في الداخل، وكان على الرأس منهم الأمير قنصوه الأشرفي قائد هذه المجموعة وخال السلطان الصبي محمـد بن قايتباي.

عزمت هذه المجموعة على التخلص العاجل من قائد الجيش الجديد الأمير قنصوه خمسمائة وأتباعه الموالين له، وقد أدرك قنصوه خمسمائة أن الصدام هو الحل العاجل لإنهاء قوة غريمه، وبالفعل التقى الفريقان، ودارت رحى معركة سريعة استخدمت فيها المدافع والسيوف، ورجحت كفَّة خال السلطان والمماليك الأشرفية، ولم يجد الأمير قنصوه خمسمائة إلا الفرار نجاة بحياته، وقرر المنتصرون الاستيلاء على القلعة وأسلحتها، والقضاء على الفريق المنهزم الذي هرب كثير منهم واختفى في أزقة القاهرة، وقرر قنصوه خمسمائة الإفراج عن ابن خالة السلطان الأمير تمراز الشمسي وإعادته إلى قيادة الجيش المملوكي من جديد[4].

أعيدت المبايعة من جديد للسلطان الصبي الناصر محمـد بن قايتباي، وأصبح هذا الفتى محاطًا بعدد من أقاربه في كبار مناصب الدولة المملوكية، وهم الأمير تمراز الشمسي ابن خالة السلطان في قيادة الجيش، والأمير قايت عم السلطان في منصب الزردكاشية الكبرى، وهي رئاسة مصانع الأسلحة والذخيرة، والأمير قنصوه خمسمائة خال السلطان في منصب المستشار والوزير والأستادار (المشرف على القصور السلطانية) فضلًا عن منصب مفتش خزائن الأشربة والطعام (شاد الشراب خاناه)[5].

بالرغم من هذه الأحداث، ومن سيطرة السلطان وأقربائه على مفاصل الدولة الأمنية والعسكرية وعلى قيادتها من قلعة الجبل، فإن سوء تربية الناصر محمـد بن قايتباي الذي كان ينشغل باللعب مع العوام، ولا يتقيد بالأخلاق، ووصل به سوء التصرف إلى تقليد بائعي الأسواق، ثم إلى استحلال الدماء وسوء التصرف في منصب السلطنة، كل ذلك أدى إلى احتقار المماليك له، لا سيما طائفة المماليك «الجُلبان» وهم العساكر والأمراء المماليك الذين جلبهم السلاطين السابقون، وصاروا منذ زمن أزمة تهدد سلامة وأمن دولة المماليك.

السلطان السادي والنهاية المستحقة!

لقد دأب المماليك الجلبان على تهديد الأمن العام، وعلى النهب والسلب كلما تأخرت رواتبهم، وصاروا بالتزامن مع طيش وسوء تدبير السلطان محمـد بن قايتباي أكبر مصيبتين ابتلي بها الناس في تلك الأوقات، ولم يجد هذا الفتى لسد نهم المماليك الجلبان إلا أسلوب المصادرة والبطش بعامة الناس، يقول ابن إياس: «فجُمعت تلك الأموال من الناس بالضرب والحبس والتراسيم، وحصل لهم غاية المشقة بسبب ذلك، فكثر الدعاء على السلطان وخاله، وقد تزايد الظلم والجور في تلك الأيام إلى الغاية»[6].

أدت هذه الأحداث إلى استغلال بعض كبار الأمراء لمحاولة تحقيق أطماعهم ورغباتهم بالحصول عليها من طريق الابتزاز والضغط، مثل الأمير آقبردي الدوادار “سكرتير السلطان” بطلبه الحصول على ولاية دمشق ليكون أميرًا عليها (نائب)، الأمر الذي رفضه السلطان الناصر وكبار المحيطين به خوفًا من انقلاب آقبردي عليهم واستقلاله بالشام، فلجأ الفريقان إلى الحل العسكري كالعادة، حيث أفضى إلى مقتل الأمير تمراز الشمسي قائد الجيش المملوكي، وهروب آقبردي إلى ولاية دلغادر في قلب الأناضول التي وقفت على الدوام ضد المماليك زمن السلطان قايتباي، وكانت خسارة فادحة حين لجأ آقبردي إليهم[7].

مع مرور الأيام كان السلطان الفتى أو السلطان المراهق محمـد بن قايتباي يزداد طغيانًا وإجرامًا، فكان يتلذذ بالقتل وإهراق الدماء، إذ دأب على إخراج المسجونين من السجون، وتعلم من المشاعلي الذي كانت مهمته إعدام المجرمين (عشماوي ذلك العصر) كيف يكون القتل، وسرعان ما كان يقتلهم بنفسه وهم لا جريمة لهم سوى قضاء عقوبة السجن، بل بلغت ساديته حدًّا كان يقطع فيه ضحاياه إلى نصفين، ثم وصل إجرامه إلى حد قطع آذانهم وأيديهم وألسنتهم[8].

لقد صدق ابن إياس حين قال عن الناصر محمد بن قايتباي بأسلوبه القريب من العامية: «قد بهدل حُرمة المملكة في أيامه، ولم يتَّبع طريقة الملوك السالفة في إقامة حرمة السلطنة، وصار على طريقة والي الشرطة» في الشطط في زجر الناس، وقتلهم دون وجه حق، والاستيلاء على أموالهم غصبًا وقهرًا، وعدم إلجام المماليك الجلبان عن مظالمهم.

عنئذ لم يعد كبار الأمراء ومن بيدهم الحل والعقد يحتملون هذا الإجرام والطغيان، خوفًا من ثورة المصريين، وتفكك عرى الدولة، بمن فيهم خال السلطان، الأمير قنصوه الأشرفي، فضلًا عن طائفة أخرى من كبار الأمراء المخضرمين مثل قائد الجيش الجديد الأمير أزبك من ططخ، وهو رجل له سجل حافل من المجد العسكري، والخبرة الكبيرة التي اكتسبها في زمن السلطان قايتباي، وهو منشئ حي الأزبكية الشهير حتى يومنا هذا في القاهرة.


اقرأ أيضًا:


الأتابك أزبك: مؤسس الأزبكية وآخر جيل المماليك العظام

قرر الجميع التخلص من هذا السلطان المراهق الذي بلغ السابعة عشرة من عمره، ونفَّذ فيه حد القتل وهو يتنزه في متنزهات وبساتين الجيزة، بعد ثلاث سنوات من العذاب والإجرام الذي شهدته مصر في زمنه، وذلك في الخامس عشر من ربيع الأول من عام 904هـ/أكتوبر 1498م، ليدخل المماليك في مرحلة جديدة من الانقلابات العسكرية، وإهراق الدماء!



المراجع



  1. ابن إياس: بدائع الزهور 3/333.
  2. السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 6/199، وما بعدها.
  3. ابن إياس: السابق 3/338.
  4. ابن إياس: السابق 3/344.
  5. محمـد شعبان أيوب: دولة المماليك، تاريخ المماليك السياسي والعسكري ص520.
  6. ابن إياس: السابق 3/394.
  7. محمـد شعبان أيوب: السابق.
  8. إبراهيم طرخان: مصر في عصر دولة المماليك الجراكسة ص41.