استقر طبق الكنافة فوق مجموعة من المقالات والأبحاث التي جمعتها عن هربرت ماركوزه، وكان الفيلسوف الألماني نفسه جالساً بجواري على أريكة غرفة المعيشة يشرح لي منذ آذان المغرب مفهومه عن الحرية.

وعندما حان موعد مسلسلي المفضل استأذنته في استراحة قصيرة، وأضأت شاشة الـ إل سي دي التي تبتلع نصف الحائط المقابل لنا، فخطفت أبصارنا عنوة.

بينما أنا شارد في فتيات الفقرة الإعلانية وجدت ماركوزة يتمتم في سخط «خراء استهلاكي»، وقبل أن أسأله عن سر امتعاضه خاطبني بصوت آمر قائلاً: «اضغط الآن على زر كاتم الصوت» واستجبت دون أي مقاومة، فأتبع قائلاً وهو يعود برأسه للوراء في نشوى: «الآن قد استرددت جزءاً من حريتك».

هذا هو الحلم الذي ألّح عليّ وأنا أكتب هذا المقال، أما عن تفسيره فهو أن ماركوزه ارتبط اسمه دوماً بالتصورات التى ترى أن منظومة الدعاية والإعلان تسهم في توجيهنا بشكل غير واع، من أجل تنميط حياتنا على نسق يتفق مع مصالح التطور الرأسمالي.

ولأننا الآن في واحدة من أكثر فترات النشاط الإعلاني بمصر، ربما نحتاج لجولة سريعة في تاريخ فن صناعة الإعلان، في محاولة لاستكشاف حقيقة هذه الصناعة وهل هي فعلاً عملية لغسل الأدمغة، أم أنها عملية إبداعية هدفها بلورة احتياجاتنا والتعبير عنها بطريقة جذابة وشيقة؟

سر الرغبات الاستهلاكية

يعد ماركوزه من أبرز الأسماء التي ارتبطت بالفلسفة الماركسية في القرن العشرين، لم يكن مجرد ناقل لها.. ولكنه قارئ متأن يحاول حل أبرز مُعضلاتها.

فخلال العقود الأولى من هذا القرن أثبتت الأحداث بُعد نظر كارل ماركس في العديد من الأمور، بالذات المتعلقة بالتناقضات الكامنة في النظام الرأسمالي وقابليته للتعرض للأزمات المالية بشكل متكرر، ولكن في نفس الوقت بدا أن الطبقة التي راهن عليها لقيادة الثورة الاشتراكية (الطبقة العاملة) ليست على درجة من الصدام مع الطبقة الحاكمة كما كان يتصور، خاصة في البلدان الرأسمالية المتقدمة.

لذا يقول ماركوزه: إن «البرجوازية (الطبقة الرأسمالية) والبروليتاريا (الطبقة العاملة) ما تزالان إلى اليوم الطبقتين الرئيسيتين في العالم الرأسمالي، ولكن تطور هذا العالم قد شوّه بنيتهما ووظيفتهما إلى حد أنهما ما عادتا تبدوان من وجهة نظر التاريخ عامل التحول الاجتماعي».

بمعنى آخر، لم يعد هناك غضب متأجج في أوساط التنظيمات العمالية في بلدان الغرب كما كان الحال في أيام القرن التاسع عشر وقت أن رفع ماركس شعاره الشهير: «يا عمال العالم اتحدوا».

ففي زمن ماركوزه، كانت الاتحادات العمالية مستأنسة إلى حد كبير ولا تتطلع إلى الثورة الاشتراكية، بالرغم من الحرية الممنوحة لهم في تكوين النقابات وممارسة الاحتجاج.

لذا كان ماركوزه يقرأ أحوال المجتمعات الرأسمالية المتقدمة من منظور أوسع، ففي الوقت الذي تبدو فيه من الظاهر مجتمعات تعددية تسمح بحرية الرأي وإنشاء الأحزاب وتكوين النقابات، ولكنها في جوهرها مجتمعات ديكتاتورية تتيح بدائل متعددة تنطوي كلها على اختيار واحد لا بديل عنه .. وهو النمط الرأسمالي.

فـ«قدرة المرء على اختيار سادته بحرية لا تلغي لا السادة ولا العبيد»، كما يقول الفيلسوف الذي فر

من الديكتاتورية النازية

في الثلاثينيات وانتقل للعمل الأكاديمي في الولايات المتحدة.

وإحدى أهم الأدوات المستخدمة لتطويع كافة الاختلافات الموجودة في المجتمع في قالب واحد بهذا الشكل هي الامتيازات الاجتماعية المقدمة للمواطنين في صورة مستوى معيشي أفضل.. ولكن هل العيش في مستوى أفضل أمر جيد؟

هنا يحذرنا ماركوزه من أن ما نطلق عليه مستوى معيشياً أفضل هو بدرجة كبيرة استجابة لعملية خلق «رغبات زائفة» منظومة الإعلان والدعاية على المدى الطويل «فما الترويح عن النفس والعمل والاستهلاك حسب إيحاءات الدعاية (…) إلا حاجات كاذبة في غالب الأحيان».

قد يندهش البعض من سماع هذه العبارات في وصف نموذج الرفاه في الدول المتقدمة، والذي نحسد عليه أبناء العالم الغربي ويقاتل بعضنا من أجل الهجرة والعيش في قالبه.

ولكن ماركوزه لم يكن الفيلسوف الوحيد الذي رأى أن الحضارة الغربية تخلق رغبات زائفة في عقول الناس، ثم تبيع لهم السلع والخدمات التي تستجيب لهذه الرغبات.

فقد تحدث أيضاً

ثيودور أدورنو

عن الرغبات التي تختلقها الرأسمالية في خيالنا،

وحذر

الفيلسوف الذي ينتمي لنفس جيل ماركوزة، من أن هذه الرغبات تُصمم لتحقيق أفضل ربح ممكن للشركات القائمة، لذا فهي لا تضع سعادة البشر على رأس أولوياتها.

لقد كانت أفكار ماركوزه وأدورنو رد فعل طبيعياً لتحول الرأسمالية خلال النصف الأول من القرن العشرين إلى نمط أكثر تنظيماً.

كما تناولنا في

مقال سابق

، فقد أثر الاقتصادي البريطاني مينارد كينز بشكل كبير على السياسات الاقتصادية في الغرب بعد أزمة الكساد الكبير في الثلاثينيات، وركزت رؤيته على ضرورة وجود سياسة عامة لخلق الطلب على الإنتاج واسع النطاق mass production الذي يحقق أفضل فرص التراكم الرأسمالي.

من هنا أصبحت عملية خلق الرغبات لدى المستهلكين «صناعة»، دورها الأساسي هو توفير الوقود الاستهلاكي الكافي لكي تظل ماكينة الإنتاج مستمرة في الدوران.

قد تتفق مصلحة المنتج والمستهلك في بعض الأحيان، وقد تتعارض .. وعندما يحدث هذا التعارض تلعب الدعاية دورها في إقناع المستهلك بالتغذية على منتجات مضرة بالصحة أو حتى بقبول دخول بلاده في حروب في الخارج من أجل حماية مصالح الطبقة العليا.

لذا فإن ماركوزة يشعر بالرثاء على الرفاه الذي تعيشه المجتمعات المتقدمة، فهو ليس نموذجاً للحياة المثالية كما يبدو في أعيننا، وإن كان لا يخلو من بعض المتعة، ولكنها أشبه بحالة من النشوة في قلب الشقاء (euphoria in unhappiness) كما كان يصفها في كتابه الصادر في حقبة الستينيات بعنوان «الإنسان ذو البعد الواحد».

كما أن دخول الرأسمالية في إنتاج السلع والخدمات بشكل واسع للملايين، ودورها في صناعة خيال المستهلكين، جعل هناك ارتباطاً أكبر وسيطرة من الطبقة المنتجة على القاعدة العريضة من المواطنين، هذه السيطرة هي التي جعلت ماركوزة يرى المجتمعات الرأسمالية المتقدمة ليست بعيدة تماماً عن الديكتاتورية كما يبدو في الظاهر، بل هي تمارس لوناً مختلفاً من الهيمنة والتحكم.

وكلما نزلت عادات مجتمع الرفاه إلى الطبقات الدنيا بشكل أكبر، فإن ذلك لا يعكس إلا مزيداً من التحكم في المجتمع في نظره «فإذا كان العامل ورب العمل يشاهدان نفس البرنامج التلفزيوني (…) فإن هذا التماثل لا يدل على زوال الطبقات، إنما يشير على العكس إلى مدى مساهمة الطبقات السائدة في تحديد الحاجات والتلبيات التي تضمن استمرار السيادة لها».

تاريخ غسل الأدمغة

هل كان ماركوزه يبالغ فعلاً في تصوره عن أن الكثير من عاداتنا الاستهلاكية هي عادات مُختلقة؟

حسنا .. هناك نقد كثير وُجه إلى ماركوزه هو

غموض مفهومه

عن الرغبات الزائفة، وصعوبة التفريق بينها وبين رغباتنا الحقيقية.

ربما يسهل علينا أن نتصور أن الرجل فيلسوف ثقيل الظل، لا يدرك متعة السوق والسعادة التي تغمرنا بها.

ولأنه قرأ بعمق أعمال سيجموند فرويد تصور أن صناعة الدعاية أشبه بغرفة تجمع علماء النفس الذين يخططون ليل نهار لخلق أوهام في عقولنا، بينما الواقع أبسط من ذلك، لقد نجحت الرأسمالية لأنها أسعدت الناس.

ستنهار هذه التصورات المبسطة على الفور إذا عرفنا أن فرويد كان له تأثير عميق فعلاً على جذور صناعة الدعاية والإعلان، خاصة وأن أحد الرواد الأوائل لهذه الصناعة في العصر الحديث، إدوارد بيرنيز، كان ابن أخ فرويد.

الفرق بين ماركوزه وبيرنيز هو أن الأول استخدم منهج فرويد لنقد الرأسمالية، أما الثاني فقد استخدم نفس المنهج لكي يصنع أموالاً طائلة.

طور

بيرنيز

، الذي يُطلق عليه أبو العلاقات العامة في الولايات المتحدة، من تكنيكات الدعاية، لم يعد الإعلان يتحدث فقط عن مزايا كل منتج ويخاطب العقل الرشيد لشرائه بناء على المنفعة والسعر الرخيص، لكن أصبح يمس مشاعرنا العميقة.

واحدة من أشهر الدعاية الإعلانية التي قدمها بيرنيز في العشرينيات كانت عن سجائر لاكي سترايك، في هذا الوقت كان تدخين السجائر في الأماكن العمومية مقتصراً على الرجال، فالتدخين كان رمزاً لقوة الرجل.

كما كانت الكثير من السيدات لا تفضلن التدخين لأنهن يشعرن أن لون علب السجائر (الأخضر) ليس متماشياً مع ألوان ملابسهن.


سعى

بيرنيز لكي يجعل اللون الأخضر متماشياً مع موضة الملابس، وفي احتفالات عيد الربيع، أطلق بيرنيز مسيرة نسائية لفتت الأنظار، حيث قامت السيدات بالتدخين أمام العامة بطريقة توحي بأنهن يدخن بدافع الاستقلال وقوة الشخصية، وصورت الصحف هذه المسيرة وكتبت عنها في الصفحات الأولى، فكانت البداية لفيض من الدعاية يركز على تدخين النساء كصورة من صور المساواة بين الرجل والمرأة.

وهناك اسم آخر لمع في عالم التحليل النفسي المرتبط بالدعاية وهو الأمريكي ارنست ديكتر، والذي يلقب بالأب الروحي لفن استغلال «الجنس» في الدعاية.

كان

ديكتر

يركز على أهمية ربط السلعة بنزعة جنسية كامنة داخل الإنسان، فمثلاً اهتم بشدة بالتعامل مع السيارات كموضوع لإثبات ذكورة الرجل أمام المرأة، ومن مقولاته الشهيرة: «تعاملوا مع السيارة المغطاة كزوجة ومع السيارة المكشوفة كعشيقة».

كمال الشناوي وشادية في فيلم بشرة خير
مشهد من فيلم «بشرة خير» إنتاج 1952

ليست السيارات وحدها التي ينطبق عليها هذا الأسلوب التسويقي، ولكن الصابون أيضاً ارتبط في دعاية ديكتر بالأنوثة، وكذلك الأطعمة، رأى ديكتر أن هناك أغذية يميل الرجل لتناولها للتعبير عن رجولتهم وأخرى تميل لها النساء للتعبير عن أنوثتهم، وأن هذا الميل يجب استغلاله في الدعاية.

هذا التوجه ما زال شائعاً في أشكال متعددة بالدعاية في مصر والتي تربط منتجات غذائية بالرجولة و ترفع شعارات مثل «استرجل» و«أكبر وسيطر»، وأخرى مثل منتجات الشوكولاتة الخفيفة التي عادة ما يتم الإعلان عنها من خلال موديل امرأة جميلة وأنيقة.

إعلان مشروب بيريل
إعلان مشروب بيريل

إعلان شوكولاتة كادبوري
إعلان شوكولاتة كادبوري

كيف نشأ المجتمع الاستهلاكي في مصر؟

لقد كان نقد ماركوزه خلال الستينيات منصبًّا على المجتمعات المتقدمة، وقد أشار عرض في كتابه لبلدان نامية مثل مصر والهند متسائلاً عن مصيرها المستقبلي.

إلا أن العولمة نجحت خلال العقود اللاحقة في نقل الكثير من أنماط الاستهلاك الغربية إلى البلدان النامية، فأصبحت شعوب البلدان المتأخرة تعيش نشوى استهلاك مماثلة للغرب، ولكن في قلب المزيد من الشقاء لأنها لم تحقق حتى مستوى الرفاه الموجود في العالم المتقدم.

وربما كانت الحقبة الناصرية هي بداية نشأة المجتمع الاستهلاكي الحديث في مصر، فقد


كان على عاتق هذا النظام مهمة بناء طبقة وسطى كبيرة تستهلك صناعات القطاع العام، ومن ثم تغيير العادات الاستهلاكية لأبناء هذه الطبقة لكي تكون أكثر ارتباطاً بما تريده الدولة.

من هنا كان ضرورياً أن تعتاد كل أسرة عاملة على تناول الجبن النستو (سهل الحفظ والتحضير) على الإفطار والذي تنتجه شركة

مصر للألبان

، أو أن تتوقف عن خبز البسكويت لكي تشتري منتجات بسكو مصر، وأن تطمح في الأجل البعيد لشراء سيارة ماركة النصر، وغيرها من المنتجات الحكومية.

تعديل الميول الاستهلاكية بهذا الشكل كان يتطلب أداة إعلامية ضخمة لقولبة خيال المشاهدين، لذا لا غرابة في أن نجد النظام الناصري متحمساً لإنشاء مؤسسة ضخمة لبث القنوات التلفزيونية (ماسبيرو) والتوسع في صناعات أجهزة التلفزيون.

وخلال الستينيات بدأ الترويج للتلفزيون كوسيلة للدعاية بجانب الصحافة والإذاعة، وفي هذه الفترة كانت صناعة الإعلان لا تزال في مهدها.

إعلان من أرشيف الأهرام في الستينات
إعلان من أرشيف الأهرام في الستينات

قامت صناعة الإعلان التلفزيوني في بدايتها على مخرجي السينما، ومن الأسماء الشهيرة في هذا المجال محمد أبو سيف (نجل المخرج الشهير صلاح أبو سيف)،وكذلك اعتمدت هذه الصناعة منتجي الأفلام الكارتونية مثل الأخوين حسام وعلي مهيب، وغيرهما.

كان هؤلاء المخرجون يعملون بشكل مستقل خارج أي مؤسسة ويقومون بتصميم فكرة الإعلان وتنفيذها.

وفي السبعينيات بدأت وكالات الإعلان الخاصة في الظهور،وتطورت هذه الصناعة تدريجياً خلال الثمانينيات والتسعينيات، حيث خرجت كوادر احترافية من وكالات الإعلان بالصحف القومية كما دخل إلى المجال دماء جديدة من شباب خريجي كلية الإعلام بالقاهرة. ثم نشأت وكالات إعلانية جديدة أكثر ارتباطاً بمجموعات استثمار دولية.

وقد حكى لي أحد قدامى العاملين في مجال الإعلان، أن ماسبيرو كان يقاوم في البداية غزو الإعلانات للفقرات المذاعة للمشاهدين، وأنه تحت إلحاح المعلنين تم السماح بإذاعة الإعلانات بين تتر البداية والمسلسل، أخيراً أصبحت دقائق الدراما تتخللها فترات طويلة من الإعلان.

هذا التطور السريع في بيزنس الإعلان كانت تخدمه العديد من العوامل الخارجية، مثل سياسة الانفتاح الاقتصادي التي ساعدت على دخول العديد من المنتجات الغربية إلى السوق المصري.

كذلك ساعدت الهجرة الكثيفة إلى الخليج بحثاً عن العمل على نقل أنماط استهلاكية جديدة من هذه البلاد، وبدءاً من الألفية الجديدة كانت

استثمارات

كثيفة تأتي من الخليج لإنشاء المولات التجارية في مصر والتي تضم فروعاً لتوزيع منتجات أشهر العلامات التجارية العالمية، بدت رؤوس الأموال تلك وكأنها تجني ثمار النمط الاستهلاكي الذي تم غرسه في طبقة العاملين بالخارج خلال سنوات مكوثهم في الخليج.

«أضواء نيون الإعلانات أنا!»

ربما لو استمع ماركوزه إلى ليلى نظمي وهي تغني

للفيديو

، أو إلى محمد هنيدي وهو يُعبر عن

أحلامه

في الدش والموبايل، لقال عبارته الشهيرة «الناس يعرفون أنفسهم في بضائعهم».

لكن على الأرجح فإن روح الفيلسوف الألماني كانت تحلق في سمائنا، وقد تجلت في عقل يوسف شاهين، وهو يقول على لسان بطل

فيلم

له في الثمانينيات إنه يخشى من النجومية التي تجعل منه سلعة استهلاكية تُشترى تُستخدم ثم يتم إلقاؤها لشراء سلعة جديدة.

كذلك ظهرت الماركوزية بوضوح في فيلم لخيري بشارة في مطلع التسعينيات، وهي الحقبة التي تحولت فيها مصر بشكل صريح لسياسات السوق الحر، وقد قدم بشارة من خلال بطل الفيلم

أغنية

«أضواء نيون الإعلانات»، التي تطرح تصوراً عن عالم تلمع فيه أضواء الدعاية ويتحول الإنسان هو الآخر لسلعة.

ولكن شخصية بطل هذا الفيلم بدت وكأنها في حالة صراع، بين رغبة بشارة وغيره من المثقفين في نقد النموذج الاستهلاكي، ومخاوفهم من أن يتحول نقدهم هذا إلى دعوة للانفصال عن الواقع والانكفاء على الذات.. لذا فإن الفيلم ينتهي فيما يبدو كنصيحة من المخرج لشباب هذا الجيل بأن يغنوا موسيقى عصرية ولكن يتحلوا بروح التمرد على كل من يحاول التحكم في خيالهم.

على أي حال، سواء رأينا أن للرأسمالية فضلاً في إنتاج أشياء تدخل السعادة على قلوبنا، أو أنها تتحكم في خيالنا بشكل مستبد، فمن الصعب أن ننكر أن هناك جانباً مظلماً في حياتنا لا يظهر في عالم الإعلانات، إنها الرغبات غير المُلباة.

لا يقتصر الأمر فقط على أننا نهدر ساعات طويلة من حياتنا في مكاتب مغلقة ووظائف لا نحبها من أجل جني دخول تكفي بالكاد لتغطية ثمن ما نستهلكه.

ولكننا نعيش في معمار قبيح، بيئة ملوثة، نأكل أغذية مضرة بالصحة، ولا نصل إلى مرحلة الزواج، الطريقة المقبولة اجتماعياً لممارسة الحب، إلا في سن متأخرة.

إذا عقدنا المقارنة بين الرغبات التي تقدمها لنا منظومة الإعلان، ورغباتنا التي لا تظهر في قائمة المُعلنين، ربما نشعر بشيء من الارتياح ونحن نشاهد لافتات الإعلان الخاوية على الطرق هذا العام، بسبب حظر الحركة تحت وباء كورونا .. ففي هذه المساحات الخالية يمكننا أن نرسم بخيالنا صورة أخرى لعالم مثالي، تكون فيه مصلحة الإنسان هي الأولوية .. وليس الشركات.