تبدو «سلطنة عمان» للكثيرين مكانًا مجهولًا، ربما لا يعرفون منه إلا اسم عاصمتها «مسقط» وسلطانها «قابوس»، وربما عددًا من أحداثها التي تطفو على السطح أحيانًا، ولكن تفاصيل كثيرة سياسية واجتماعية يجهلها الناس عنها، وربما لم يسمعوا عمّا دار بها من حروب ومعارك منذ أيام الاحتلال البريطاني وحتى الوقت الراهن.

من هنا يأتي دور الأدب في الغالب الذي يعرّف قراءه بالمجهول ويكشف عن المغمور والمستور في تاريخ الناس والشعوب بطريقته الجذابة شديدة الخصوصية، فلطالما عرف القرّاء الكثير عن بعض الشعوب والمناطق من خلال قراءة أدب تلك المنطقة بدون أن يخوضوا تجربة زيارتها، هكذا عرفنا الكثير عن أمريكا اللاتينية مثلًا، وعرف الكثير من القرّاء تاريخ مصر القديم والمعاصر، بل ربما داروا في شوارعها وحواريها من خلال كتابات أدبائها من نجيب محفوظ إلى خيري شلبي وغيرهم.

هذه المرة تُطل علينا الروائية «بشرى خلفان» من عمان بروايتها الأولى «الباغ» (والتي تعني البستان باللغة الفارسية) وتحمل على عاتقها هم ومسئولية تعريف القارئ العربي بقطوف وأطراف وحكايات من تاريخ عمان القديم والمعاصر، وذلك من خلال حكاية «ريّا»، و«راشد» اللذين يهربان من ظلم «ذوي القربى» تاركين أهلهما وديارهما إلى العاصمة «مسقط»، حيث يصادف أن يكون وجودهما في قلب التاريخ، وتدور دورة الحياة بهما لتكشف لنا جوانب مهمة وعديدة من تاريخ هذا البلد وطبيعة شعبه وما دار فيه على مدى سنوات.

وقف راشد عند الباب الكبير يحرسه، يراقب الناس ويتعلّم طبائعهم، تعلّم من علي القراءة والكتابة، وحفظ القرآن وشيئًا من الشعر، أحب الكيذاوي وابن شيخان، تعلّم الحساب وعرف تاريخ مسقط وطرائف حكايات أهلها، وصار يومًا بعد يومٍ يشعر أنه ابنها، وأنه ينتمي إليها وإلى تاريخها وقلاعها وسورها ومساجدها وسكانها المختلطين.. تمنّى لو ينسيه ذلك السراير لكنه ما نسي، كانت تأتيه في الحلم وتغويه بظلال نخلها وبرودة مائها.. ترك راشد بيت الحارة وانتقل ليقيم مع الحامية في قلعة الميراني، تشارك والجنود البلوش الطعام والفراش، تخلّى عن حذره وصمته تدريجيًّا فاقترب منهم وعرف طبائعهم.

تسير الرواية عبر حكايتين متوازيتين بين حياة «ريّا» الجديدة في «مسقط» وعلاقتها بنساء المجتمع ورجاله بعد زواجها من صديق أخيها «علي»، وما ينشأ بينها وبينهم من علاقات، وبين رحى الحرب التي يتورط فيها أخوها «راشد» بعد انضمامه لجيش السلطان، وتدور في الجبال بين سلطان البلد والثوار سواء فيما سمي تاريخيًا بـ«حرب الجبل الأخضر» أعوام 1954 وما تلاها أو ثورة ظفار عام 1965 والتي انتهت بهزيمة الثوار وتغلب السلطان عليهم وضم مناطق نفوذهم إلى سلطنة عمان.


مغامرة اللغة العامية/المحليّة

يعتمد السرد كما هو معروف في أغلب الكتابات العربية على الفصحى، ويدور بين النقّاد والقرّاء جدالات واسعة حول استخدام اللهجة العامية في الحوار، لا سيما إذا كانت تلك العامية غير مألوفة أو معروفة لقطاع كبير من القرّاء.

من هنا جاءت تجربة الكاتبة لاستخدام لهجة الحوار العامية بين الأبطال مغامرة ذات طابع خاص، إذ إن العامية العمانية غير معروفة للكثيرين، وهي لإدراكها أن ثمة مصطلحات وألفاظًا قد يكون من الصعب على القارئ العربي معرفتها، استعانت لذلك بالتعريف ببعض تلك الكلمات في الهامش، وبقي الحوار على لهجته العامية الأنسب -فيما أرى- لطبيعة الحياة البدوية العمانية مكان العمل وطبيعة شخصياته الذين لم يكونوا على قدر من الثقافة والتعليم.

كما سيفاجأ القارئ أن تلك اللهجة التي كان يظن أنه لا يعرفها يمكن فهمها بسهولة بمجرد وضع الكلام في سياقه وحالته التي تأتي في الرواية، وبالتالي سيكون من اليسير عليه أن يتعرّف على هذه اللهجة المختلفة، ولا شك أنه سيلاحظ تقاربها مع كثير من اللهجات العربية المعاصرة، خاصة الخليج العربي، بالإضافة إلى الحصيلة اللغوية التي يخرج بها من مفردات جديدة تخص البيئة العمانية وعادات أهلها وتقاليدهم، مما يجعله مشاركًا في حياة أبطال العمل وأحداثه على نحو كبير.

اقرأ أيضًا:

فهرس «سنان أنطون»: قراءة جديدة للمأساة

وليس ذلك جديدًا على الرواية العربية، بل فعله الكثيرون بدرجاتٍ متفاوتة، أذكر من ذلك الروائي العراقي «سنان أنطون» في رواياته، خاصة «وحدها شجرة الرمان»، واستخدامه لهجة أهل العراق المحكية التي تبدو غريبة على القارئ العربي، كما فعل ذلك الكويتي سعود السنعوسي في «فئران أمي حصة»، وغيرها من التجارب التي نجحت في استخدام اللهجة العامية وتوظيفها بما يناسب الرواية وعالمها.

من جهةٍ أخرى مزجت الكاتبة بذكاء بين لغة السرد العادية واللغة التي تحمل طابعًا شاعريًا، خاصة في حالات وصف مشاعر الأبطال وتقلبها بين الحزن والفرح، أو بين مشاعر الخوف والقلق، وغيرها من حالات ومشاعر تزخر بها الرواية، واستطاعت الكاتبة أن تصوّرها بشكلٍ دقيق.


مغامرة الغوص في كتب التاريخ

يحكي لها عن ظفار، عن البلاد التي لا تشبه البلاد وهي منها، عن جبالها المكسوة بالغيم وعن أهلها الطيبين، لكنه لا يريد أن يقلقها فلا يخبرها عن رجالها الذين يلبسون الليل ويتماهون معه، ولا عن الأحراش التي تلد ثوارها فيتكاثرون ويباغتون ويرمون. يحكي لها عن السهول الخضراء ورقة الرهام وموج بحر العرب الصاخب، يخبرها عن الحوت الذي رآه في بحرها، وعن السمك الذي يقفز ويتراقص في الهواء… ثم يغير الحديث فيسألها عن أحوال مسقط وبيت الوادي؛ فتخبره أن الوالد حمود قد توفي منذ مدة، وأن العودة مريضة وربما لن تطيل المكث بعده، يؤلمه الخبر، يحوقل ويستغفر، ثم يقوم فيتخفف من ملابس العسكر ويرتدي إزاره وعليه دشداشة قصيرة من قماش السنسوني الخفيف، فرشت له ريّا في الحجرة وتركته ليستريح.

مغامرة أخرى تخوضها الكاتبة في عملها الروائي الأول، إذ تقتحم عالم التأريخ الروائي في تفاصيل روايتها، ذلك العمل الذي يبدو شاقًا وعسيرًا، إذ يتطلب البحث والتنقيب في عدد من المصادر واستخلاص ما فيها من معلومات وعرضها بعد ذلك في حكاية أدبية شيقة، وهو ما نجحت فيه «بشرى» إلى حدٍ بعيد، إذ لم تكن الحكايات التاريخية منفصلة عن نسيج الرواية، بل جاءت -لاسيما مع التحاق رشيد بالجيش- في قلب الحدث مؤثرة في الشخصيات إلى حدٍ كبير، ولكنها لم تخرج الرواية عن طابعها الإنساني الأجمل، وسعيها الدائم لعكس تلك الجوانب الإنسانية الخاصة في علاقات الشخصيات ببعضها.

ومع احتواء الرواية على تلك المعلومات والتفاصيل التاريخية المهمة من تاريخ عمان، فإن الكاتبة قد استطاعت أن تجمع ما استطاعت من مظاهر التاريخ الشعبي الموازي، وهو ما يشمل عادات وتقاليد أهل البلد، وطبيعة احتفالاتهم وتفاصيل حياتهم، من هنا يكتسب العمل صبغة توثيقية أخرى، تتضافر كلها في النسيج الأدبي لتمنح القارئ مع المتعة الأدبية الكثير من الفائدة.

ورغم الفترة الزمنية الكبيرة التي تشملها أحداث الرواية فإن القارئ لا يشعر بمضي الزمن، ذلك أن الكاتبة أجادت تصوير شخصيات العمل وجعلت القارئ متعايشًا مع ما يمرون به من أحداث وتغيرات تبعًا للأحداث والمواقف السياسية والاجتماعية الكبرى التي يمرون بها، لا سيما وأن الرواية تنتقل بسلاسة في الزمان والمكان، وبين الشخصيات، فتعرض في طرفٍ منها لماضي «رشيد»، و«ريا» قبل أن يتركا بلدتهما، وفي طرفٍ آخر ما يتعرضان له من أحداث ومواقف، حتى يأتي الابنان «زاهر»، و«مزنة» اللذان يتغيّر معهما الكثير من أحوال المجتمع وتقلباته، وهما بذلك يمثلان الجيل الجديد وما يحملانه من أمل وثورة على كل ذلك الماضي وما كان فيه.

في النهاية استطاعت «بشرى خلفان» أن تقدّم صورة صادقة واقعية عن سلطنة عمان وشعبها، وتقدم بشكل روائي تاريخ البلاد وما دار فيها من أحداث، وما يدور بين أفراد المجتمع فيها من صراعات، وأن تبيّن إلى أي حدٍ يتشابه العرب في مصائرهم، وصراعاتهم مع الظلم والعدوان، وكيف ينتهون تقريبًا نهايات متقاربة إلى حدٍ بعيد.

ويكفي الرواية أنها استطاعت أن تنقل بشكلٍ حي طرفًا مهمًا من أطراف الحياة العربية بصورة أدبية متقنة وأسلوبٍ سردي جيد. تجدر الإشارة إلى أن «الباغ» رواية بشرى خلفان الأولى، منشورة عن دار «مسعى» البحرينية، سبقها عدد من المجموعات القصصية، منها «حبيب رمان» و«صائد الفراشات الحزين» وغيرها.