ليس أجمل من العودة للماضي
والالتفاف حول حكاياته الشجية، ولا أحلى من استدعاء حكايات الأجداد المترامية
الأطراف وأخبارهم، ورصد كيف كان تأثيرها في الأجيال التالية، ثم تأتي بعد ذلك مقدرة
خاصة يمتلكها بعض الكتاب والروائيين على نسج خطوط وخيوط ذلك العالم باقتدار، ورصد
تفاصيل العلاقات بين الماضي والحاضر. لا يشترط في ذلك أن يعودوا إلى حقبةٍ تاريخية
معينة، أو  استحضار شخصيات تاريخية بعينها
ـ كما يفعل البعض ـ بل ما أجمل أن يكون ذلك من خلال عالم متخيّل بالكامل، تدور على
خلفيته كبار الأحداث والمواقف التاريخية، فيما يهتم الراوي/ السارد برصد علاقات
الناس البسيطة وعالمهم.

في روايته الصادرة حديثًا، والتي احتفى مؤخرًا بصدور الطبعة الثانية منها، «ورثة آل الشيخ» يرسم الروائي أحمد القرملاوي صورة شديدة الجمال والشفافية لعائلة «آل الشيخ» منذ الحرب العالمية وحتى نهاية الفترة الناصرية، بالتوازي مع حكاية الراوي التي تدور في الزمن الحاضر، وينتقل بين الحكايتين بانسيابية. تقوم الحكاية الرئيسية للرواية على البحث عن كنزٍ مفقود لهذه العائلة الكبيرة مترامية الأطراف، وسعي الحفيد/ الراوي للوصول إلى أصل هذه الحكاية أملاً في الكنز من جهة وسعيًا لكتابة رواية عائلته من ناحية أخرى، وبينما هو يلم أطراف عائلته يجعلنا نغوص في هذه الحكايات والتفاصيل.

عالمي يهرع إلى الخلف، لا يمكنني الإمساك به، كل ما أستطيعه هو النظر إليه عبر زجاج القطار الأصمّ؛ البيوت الشائهة تتكاثر، حالها حال البشر، مياه النيل تغور حتى تمسي لا مرئية، القمامة ترتفع كأنها علامات الطريق.. لا أعرف شيئًا يربطني بهذا العالم الممسوخ، إلا حاجتي للكتابة عنه.. هل ثمة رابط آخر لا أدركه؟ يمكن، ولا سبيل أمامي لاكتشافه غير الكتابة





ورثة آل الشيخ .. أحمد القرملاوي

الكنز في الحكايات

تأسرنا الحكايات وخاصة إذا كانت عن زمنٍ مضى لا
يعود، وتكمن براعة القص في توظيف عدد من الحكايات الجانبية مع غرض الرواية
الرئيسي، وهو ما استطاع القرملاوي أن يدور حوله بإتقان بالغ في هذه الرواية،
فالنسيج الذي اعتمد على أساسه روايته كبير وممتد عائلة عشت في مصر منذ نحو مائة
عام وهاهو يتقصى أخبار أفرادها واحدًا واحدًا، ويحذب القراء معه لعالم هؤلاء
الأفراد/ شخصيات العمل ، وهو في كل تقديم لشخصية وحكاية يوّرط القارئ مع تفاصيلها
عاطفيًا ووجدانيًا، ثم ينتقل منها إلى شخصية أخرى وحكاية أخرى، ثم يعود مرة أخرى
إلى بطل الرواية بشكلٍ هادئٍ وبسيط.

نتعرّف على الأجداد أولاً الشيخ كامل وعائلته ثم صدقي بك الحكمدار وحكايته بنهايتها الدرامية، ثم فاضل وأبناؤه الذي يعد الجد الأكبر للراوي، ونشأت وحكايته الدرامية الرومانسية، ونعمات سيدة المنزل القوية القادرة،والجد حسين وحكايته مع المطبعة، وغيرهم من الشخصيات التي ترسم حكاياتهم صورة جديدة مختلفة في تفاصيلها لمصر القديمة وكيف عاش الناس فيها.

جيلٌ يحصد ما أنتجه السلف.. نحن الجيل الحاصد يا أبتاه، نحصد كل شيء، ليس المال فقط، ولا الأرض والبيوت، بل الهزيمة .. غمامات الأعين، والهتاف الضائع في الفراغات، حتى الجينات نحصدها والدماء المسممة بهوس البحث عن الكنوز، عن الوعود الجسام، المذنبات الضائعة في الفضاء، والأيام تحملنا كما عربة قطار، نشعر داخلها باستقرارٍ نسبي ، بعض الخضخضة ربما، الاهتزاز، هذا كل شيء.. بعض الروائح النتنة بين الحين والآخر، أو الصدمات العابرة. لكن ثمة بطئاً وسكوناً يسمحان لنا بالبحث في  دورات المياه الآسنة وأسفل المقاعد المخلعة، علنا نجد الكنز مختبئًا هنا أو هناك!





ورثة آل الشيخ .. أحمد القرملاوي

وعلى عادة الأعمال الروائية المحكمة لا تمنح الرواية رسالتها بشكلٍ مباشر، بل يعمد السارد إلى إغراقنا بالتفاصيل، وهي لحسن الحظ كلها تفاصيل شيقة وذكية، مرسومة بإتقان ومختارة بعناية، ليست أيضًا حكايات هامشية أو عابرة. ولكن مع ذلك كله تتسرب إلى نفس القارئ ولا شك رسالة الرواية، أو سؤالها الأخطر، هل كنّا أقوياء يومًا ما، هل كان وضع الأجداد أفضل منّا؟! هل كانت مصر زمان كما يزعمون أفضل من مصر اليوم الحالية؟! أم أن كل ما نقوم به هو استدعاء الحنين لتلك الفترات الماضية، التي يشبهها الراوي ببراعة بالاهتزاز في عربة قطار، بينما الزمان يمر!

اقرأ أيضًا:

أمطار صيفية ..وكالة الموصلي بين الروحانية والمادية

بين السرد والحوار بناء محكم

يلفت النظر عند القرملاوي في هذه الرواية وغيرها التزامه في الحوار باللغة المحكية التي تمزج ببساطة واقتدار بين الفصحى والعامية، يأخذ التراكيب العامية فيجعلها فصحى تنقل العنى كما هو ولا تخل ببناء السرد الفصيح المتقن، لا سيما وأن الحوار عنده يأتي مع السرد في سبيكة واحدة على الذي ينقله من خلال الراوي الخارجي/العليم. ولعل لغة الحوار تلك تذكرنا بالحوار الذي كان يكتب بها نجيب محفوظ رواياته، والتي خلص إليها من المعركة التي كانت قائمة بين العامية والفصحى وكيفية استخدامها في الحوار في الروايات، ولا شك أن تلك اللغة  هي الأقدر على تمثيل الفترة الزمنية التي تدور فيها الرواية وأكثر أحداثها.

من جهةٍ أخرى استطاع القرملاوي أن ينقلنا من خلال الحكايات والمواقف والأحداث إلى ذلك الزمن القديم الذي دارت فيه أحداث روايته، واستحضر من أجل ذلك العديد من المفردات والمصطلحات والأماكن التي نشأ فيها أبطال روايته والشوارع والحواري التي عاشوا فيها، والجميل أن أحداث الرواية لا تقتصر على مكان واحد بل تدور بنا في الأماكن أيضًا من القاهرة القديمة إلى حلوان، كما ندخل إلى تفاصيل استخدام أهل ذلك الزمان للأشياء وعلاقتهم بها، يأتي سرد تلك المشاهد داخل مواقف السرد بانسيابية وذكاء من ذلك مثلاً المقطع الذي يسعى فيه نشأت إلى حبيبته الأرمينية ليليت ويستعين بأول هاتف حربي بأسلاكٍ تمتد بين عمارتين في القاهرة.

ومن ذلك أيضًا الحكايات الجانبية تلك التي تصور بداية الولع بعالم السينما والموضة والأزياء، في المقاطع التي تحدث فيها الرواية عن زبيدة التي بهرتها الأضواء، وكيف انجذبت لعالم المصور اليهودي إفريم وعدسته التي كان يصوّر بها أحياء القاهرة وتفاصيلها، ثم تحوّل إلى تصوير الغانيات والموديل وكادت زبيدة تكون واحدة منهم لولا حكاية الحب التي لم تكن تعرف عنها شيئًا.

تفاصيل عديدة وحكايات مثيرة للشجون ومغوية بمواصلة القراءة والاستمتاع بالسرد، ربما يتعثر القارئ مرة أو مرتين في تفاصيل هذه العائلة وعلاقات بعضهم ببعض ولكنه لا شك سيجد المتعة في مواصلة القراءة، وفي تتبع الحكايات،ـ وحسنًا فعل الناشر أن وضع صورة لشجرة العائلة في الرواية يمكن للقارئ أن يرجع إليها ليتأكد من تلك العلاقات المترابطة، وربما يبقى القارئ شغوفًا لمعرفة ماهية ذلك الكنز الذي يسعى إليه أفراد تلك العائلة، ولا شك أنه في النهاية سيكتشف أن الكنز الحقيقي هو في تلك الحكايات وفي تلك العائلة وما دار حولها من مواقف وأحداث.

في كتابة الذوق الأدبي كيف
يتكوّن؟ يتحدث أرنولد بينيت عن قراءة الروايات ودراسة الأدب فيقول:

ليس الهدف من الدراسة الأدبية ملء أوقات الفراغ، بل إيقاظ النفس البشرية ودب الحياة فيها وتعزيز القدرة على الاستمتاع والعطف والإدراك، فالهدف الأساسي للأدب هو تغيير علاقة الفرد بالعالم بشكل كامل ليدوم تأثيره هذا على مدى الأربع وعشرين ساعة وليس لمدة ساعة واحدة فقط. ففهم وتقدير قيمة الأدب ليس سوى فهم وتقدير للعالم بأسره، هو الحياة بأكملها ممزوجة ببعضها البعض ضمن خارطة مركبة وليس بأجزاء مفككة من هذه الحياة.





الذوق الأدبي . أرنولد بينيت

هذا هو رهان الأدب الحقيقي، وهذا هو ما تفعله كل كتابة أدبية حقيقية وجادة، وهو ما قدمه أحمد القرملاوي هنا في روايته الخامسة التي يواصل بها مشروعًا روائيًا طموحًا ومتميزًا بدأه منذ ست سنوات برواية التدوينة الأخيرة، التي أعقبها عددًا من الروايات المتميزة  تحمل كل واحدةٍ منهم رسالة  خاصة، حصلت روايته «أمطار صيفية» على جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2018 كما حصلت روايته «نداء أخير للركاب» على جائزة أفضل رواية من معرض القاهرة للكتاب عام 2019